حينما تجاوزت حدود نصائحك تاهت خطاي في وحل الطريق ، ولآني كنت أظن أنني على صواب تبعثرت روحي على زوايا الإغتراب .. فكم يا كم قلتي أن الدهر مارد غامض ، وأن الدهر كالبحر لا يأمن له بشر ، وأن الدهر جراح منتصبة فأختر الطريق الذي يبعدك عن سهامه لكنني خنت عهدي معك ولعب الشيطان في عقلي وركبت هودج الغرور وظننت أن الأيام قد آمنت بي ومنحتني وسام الأمان فسارت خطاي بعيدة ووحيدة في طريق ممتد لا نهاية له واليوم أين أنا ؟ سؤال أكرره مع نفسي كل صباح .. هذا أنا يا أمي لا أعرف نفسي ولا على أي موقع من خارطة العالم أقيم .. هذا أنا وجه عابس وبائس ومكتئب وحزين بملامحه .. حزين بنظراته .. حزين بصمته يحمله جسد هزيل ومرتعش فقد ذبل الورد من على الوجنات وتلاشت كل الأحلام بشتى ألوانها .. هكذا يا أمي قد قضت الغربة على كل شيء وأضاع الزمن ملامح وجهي وصرت لا أعرف حالي تائه ووحيد .. وحيد في غربتي .. غريب في البعيد .. بعيد بين متاهات الزمن أحمل أسى السنين ولوعة الحرمان يعتصرني جرح نازف من أعوام مضت أقتات من الصبر كل مساء وأرسم حدود مدينتي الوهمية .. أرسم على الجدران قريتي ومنزلي والفانوس المعلق على جدار غرفتك القديمة وأرسمك ثم أبكي فيمسح الدمع رسمي ويسيل على خد الجدار حتى يعانق وجه الثرى .
آه يا أمي .. يا وجع السنين ويا عذاب التائهين ويا وطن المغتربين .. أنا هنا في غربتي بعيداً منذوياً بجراحي أعاتب صورتي في بقايا مرآتي المهشمة وأبكي بكاء الأتقياء وليس سوى منديل ملوث أمسح به ما تبقى من أدمعي في هذه الغربة التي أشرب من كأسها كثيراً ، وكلما إدلهم الليل إستيقظ الشوق إليك .. هذا الشوق الذي لا يهدأ ولا ينام .. هذا الشوق الذي كسر عزيمتي .. هذا الشوق الذي يقف على أبواب قلبي يناديك ويذكرني كثيراً بك فأشتاق منك هدهدة تطوفين بها على أوجاعي بأغنيات منك قديمة تأخذني إلى عالم غير عالمي .. أشتاق إلى دفء حنانك .. أشتاق إلى عطفك فمن لي سواك يقيم على راحتي .. من لي سواك يتحسس أوجاعي .. لا أحد فلماذا كلما أردت الرحيل إليك منعتني الأقدار .. لماذا كلما حملت أمتعتي متجها إلى سبيل يعيدني إليك تسقط كل الأمتعة .. هكذا يبكيني الشوق فأتذكر ملامح طفولتي والبيت القديم واللعبة الصغيرة وهدية عيد ميلادي الأول وهدية ميلادي العشرين وشهادتي الدراسية الأولى وشهادتي الدراسية الثانية والعاشرة التي تسكن خزانتك رغم أنها ملوثة بالدوائر الحمراء إلا أن زغردتك كانت تلغي ترسبات تلك الدوائر فأصدق نفسي بأنني رجل ناجح غير فاشل .. هكذا كنت تختزنين الألم لكي أفرح رغم أن الجرح في أعماقك كبير ونازف ورغم أنك كنت تودين أن ترين إبنك إنساناً يميزه النجاح ومنتجاً في هذا المجتمع الذي يعج بالمنتجين . إذن هي المسافة التي تقطع الطريق يا أمي والجدران عالية والتسلق عليها إنتحار وأنا تحرقني النار .. نار الشوق إلى حضنك الدافء بعد أن سئمت إقامتي ووحدتي وغربتي .. بعد أن تناوب الدهر على قلبي ولم أغدو إلا بقايا إنسان .. أعيديني أمي إليك كي تعود الحياة إلي .. أعيدني أمي إلى أحاسيسك كي أبقى رجل يملك ملامح البقاء .. أعيديني إلى ذاتي كي تعود ذاتي إلي .. فلا أملك من على هذا البعد سوى التوهان ورسائلي النازفة على الورق الأبيض تحكي وجعي الممتد طوال رحلة الإغتراب ، وجعي الذي أنهك صدري .. هذا الصدر الذي بدأ وكأن حشرجة الموت تقترب منه وقبل أن يقترب الموت مني أريد أن ألتقي بوجهك كي أطبق أجفاني وأنا قرير برؤيتك . فمتى أعود ؟ ! .
تم نشره ( المقال كاملاً )