شرح حديث: "إنما الأعمال بالنيات".

    • شرح حديث: "إنما الأعمال بالنيات".

      بسم الله الرحمن الرحيم


      عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

      قال النووي: رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما من أصح الكتب المصنفة.

      قال المنذري: رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قال الألباني – معلقاً على قول المنذري -: وكذا قال المؤلف في "إخلاص النية في الجهاد"، وهو يوهم أن ابن ماجه لم يروه، وليس كذلك، فقد أخرجه في "الزهد" رقم (4227).

      قال المنذري – أيضاً -: وزعم بعض المتأخرين أن هذا الحديث بلغ مبلغَ التواتر، وليس كذلك؛ فإنه انفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التميمي – قال الألباني: وهو رواه عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب، فالحديث ليس متواتراً، بل مشهور -، ثم رواه عن الأنصاري خلق كثير، نحو مئتي راوٍ، وقيل: سبعُ مئة راوٍ، وقيل: أكثر من ذلك. وقد روي من طرق كثيرة غير طريق الأنصاري، ولا يصح منها شيء. كذا قاله الحافظ علي بن المديني وغيره من الأئمة. وقال الخاطبي: لا أعلم في ذلك حلافاً بين أهل الحديث. والله أعلم.

      قال الألباني: وهو من أحاديث الآحاد الصحيحة التي اتفق العلماء على صحتها، وتلقته الأمة بالقبول كما في "شرح الأربعين" للحافظ ابن رجب، فهو يفيد العلم واليقين، خلافاً لما يجهر به بعض الكتاب اليوم: إن أحاديث الآحاد مطلقاً لا تفيد العلم، فإن هذا القول على إطلاقه باطل، دون شك ولا ريب، وبيانه في رسالتي "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة". ورسالتي الأخرى "الحديث حُجة بنفسه في العقائد والأحكام". وهما مطبوعتان.

      انظر: صحيح الترغيب والترهيب، 1/107-108.

      قال ابن العثيمين: صحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصح الكتب المصنفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض المحدثين: إن ما اتفقا عليه يفيد العلم، يعني ليس يفيد الظن فقط يفيد العلم، وأيهما أصح؟ البخاري أصح من مسلم، لأنه يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم رحمه الله فيكتفي بمطلق المعاصرة إن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً، فالصواب ما ذكره البخاري لابد من ثبوت اللقي، ومسلم يقول يكفي إمكان اللقي وإن لم يثبت لقاؤه، وبهذا صار البخاري أصح، لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم أحسن من سياق البخاري، لأنه رحمه يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكانٍ واحد، والبخاري يفرق، ففي الصناعة مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فالبخاري أفضل، قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلمٌ ولا راح، فالحديث إذن صحيح أم غير صحيح؟ صحيح، يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل، إنما هو يقينيٌّ بالنظر، لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

      قوله: "عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ": أمير المؤمنين هو أبو حفص عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، آلت إليه الخلافة، بتعيين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - له، فهو حسنةٌ من حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عيَّنه أبو بكر، وأبو بكر تعيَّن بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، يقول : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ............ الخ،

      وفي قوله : "سمعت": دليلٌ على أنه أخذ من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بلا واسطة، والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إلا عمر مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة: ففي القرآن: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ} هذه نية، {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} وهذه نية، وقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تجعله في فِيِّ امرأتك"، قوله: "تبتغي بها وجه الله" هذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة، ولفظ الحديث انفرد به عمر - رضي الله عنه -، لكن تلقته الأمة بالقبول التام حتى إن البخاري صدَّر كتاب الصحيح بهذا الحديث.

      البلاغة:

      "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحصر: وهو: "إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه"، طريق الحصر في هذا الحديث: "إنما"، لأن "إنما" تفيد الحصر، إذا قلت "زيدٌ قائم" ما فيه حصر، "إنما زيدٌ قائم" فيه حصر، وأنه ليس إلا زيد قائماً فهذا أداة حصر. وكذلك "وإنما لكل امرئٍ ما نوى".

      "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، في الجملة الأخيرة من البلاغة: إخفاء نية من هاجر إلى الدنيا، قوله: "فهجرته إلى ما هاجر إليه"، ولم يقل: "إلى دنيا يصيبها"، الفائدة البلاغية في ذلك: هو تحقير ما هاجر إليه هذا الرجل، يعني لي أهلاً لأن يذكر، بل يُكنَّى عنه بقوله: "إلى ما هاجر إليه".

      "من كانت هجرته إلى الله ورسوله"، الجواب: "فهجرته إلى الله ورسوله" ذكرها، "من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها – أو ينكحها – فهجرته إلى ما هاجر إليه"، ولم يقل: "إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها"، تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي الدنيا أو المرأة، أما الأول: "فهجرته إلى الله ورسوله" فذكره تنويهاً بفضله.

      الإعراب:

      "إنما الأعمال بالنيات" مبتدأ وخبر، "الأعمال" مبتدأ، و "بالنيات" خبره.
      "وإنما لكل امرئٍ ما نوى" - أيضاً - مبتدأ وخبر، لكن قُدِّمَ الخبر على المبتدأ، لأن المبتدأ في قوله: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى" هو: "ما نوى" متأخر.

      قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" هذه جملة شرطية: أداة الشرط فيها: "من"، وفعل الشرط: "كانت"، وجواب الشرط: "فهجرته إلى الله ورسوله"، وهكذا نقول في: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها..." في الإعراب.

      اللغة:

      "الأعمال": جمع عمل، ويشمل: الأعمال القلبية والأعمال النطقية والأعمال الجوارحية: الأعمال القلبية: ما في القلب من الأعمال، كالتوكل على الله والإنابة إليه والخشية منه وما أشبه ذلك، الأعمال النطقية: أعمال اللسان. وما أكثر أقوال اللسان، لا أعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن، الأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.

      قوله : "الأعمال بالنيات": النيات: جمع نية، وهي: القصد، ومحلها: القلب، فهي عمل قلب وتعلق للجوارح بها.

      فوائد الحديث:

      1) فهذا الحديث ركن من أركان الإسلام وليس من الأركان الخمسة، لكن على الإسلام مداره، ولهذا قال العلماء: مدار الإسلام على حديثين هذا الحديث وحديث عائشة: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، هذا الحديث عمدة أعمال القلوب فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة عمدة أعمال الجوارح فهو ميزان أعمال الجوارح. "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" هذا رجل مخلص غاية الإخلاص يريد الوصول إلى الله عز وجل وإلى دار كرامته لكنه أتى ببدع كثيرة رجل مخلص لله عز وجل لكنه يعمل عملاً بدعياً، هذا من جهة النية، لكن من جهة العمل سيئ مردود، لفقده موافقة الشريعة، رجل آخر أتى بصلاة الفريضة على أتم وجه لكن يرائي والده، هذا فقد الإخلاص لا يثاب على ذلك، إلا إذا كان يصلي خوفاً من أبيه أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبداً لله تعالى بالصلاة.

      2) أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض والعبادات عن المعاملات، لقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" فيجب أن تميز. قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "الأعمال بالنيات": والمقصود من هذه النية تمييز العادات عن العبادات وتمييز العبادات بعضها عن بعض، تمييز العادات عن العبادات: مثاله: الرجل يأكل الطعام شهوةً والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله في قوله: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ }، صار أكل الثاني عبادة وأكل الأول عادة. ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات: يقوم ويغسل ويصلي ويذهب على العادة، وعادات أهل اليقظة عبادات: تجده إن أكل يريد امتثال أمر الله يريد إبقاء نفسه يريد ستر عورته يريد التكفف عن الناس يكون عبادة.

      3) الحث على الإخلاص لله عز وجل. والنية محلها القلب لا ينطق بها إطلاقاً، لأن تتعبد لمن {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }، لست تعمل لإنسان حتى تقول: عملت هذا لك، تعمل لله عز وجل، ولهذا لم ينطق النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بالنية أبداً، والنطق بها بدعة ينهى عنه، لا سراً ولا جهراً. وقوله "وإنما لكل امرئٍ ما نوى" هي نية المعمول له، هي التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً عظيماً، تجد رجلان يصليان بينهما كما بين المشرق والمغرب في الثواب لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص، هذه يتفاوت فيها الناس تفاوتاً عظيماً.

      4) الهجرة تنقسم إلى قسمين: هجرة شرعية وغير شرعية. فقد ضرب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مثلاً بالمهاجر: فقال: "فمن كانت هجرته" الهجرة: هي الترك، والمراد بها الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، "ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" رجل انتقل من مكة قبل الفتح يريد الله ورسوله يعني يريد ثواب الله ويريد الوصول إلى الله، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، "يريد الله" أي يريد وجه الله ونصرة دين الله وهذه إرادة حسنة، "رسوله" يريد رسول الله ليفوز بصحبته والذب عنه ونشر دينه فهجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول: "من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً"، فهو إذا أراد الله فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل وكذلك الرسول بعد موت الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -. لذلك يمكن أن يهاجر المسلم إلى الرسول – لا من أجل شخصه – أي: إلى سنته وشرعه، وهو الهجرة إلى بلد لنصرة شريعة الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والذب عنها، هذه هجرة إلى رسول الله، الهجرة إلى الله في كل وقت وحين، الهجرة إلى رسول الله إلى شخصه وشريعته في حياته وإلى شريعته بعد مماته، نظير هذا قوله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ }، إلى الله دائماً، وإلى الرسول في حياته وإلى شريعته بعد وفاته، من ذهب مثلاً من البلد إلى البلد ليتعلم الحديث فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوجها خطبها وقالت: "لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي"، فهجرته إلى ما هاجر إليه. "أو دنياً يصيبها" علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها.

      5) حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وذلك بالتنويع تنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وهذا للعمل "وإنما لكل امرئٍ ما نوى" وهذا للمعمول له. وقد قسم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية. وهذا من حسن التعليم، فهو لم يسرد المسائل على الصحابة سرداً، لأن هذا يُنسى، بل أصل – أي جعل أصولاً - وجعل قواعد وجعل تقسيماً، لأن ذلك أدعى لثبوت العلم في قلبه، أما أن سرد المسائل ما أسرع ما تنسى.

      6) قرن الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مع الله بالواو، قال: "إلى الله ورسوله"، ولم يقل: "إلى الله ثم رسوله". مع أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ما شاء الله وشئت، فقال: "ما شاء الله وحده"، فما الفرق؟ نقول: أما ما يتعلق بالشريعة: فبالواو، لأن ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الشرع كالذي صدر من الله، كما قال الله عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } فحكمه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الأمور حكمٌ لله، وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيءٍ تحت إرادة الله ومشيئته صار هذا هو الفرق.

      استقي الشرح من كتاب: "شرح الأربعين النووية" للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -. بتصرف وإختصار.

      هذا والله الموفق.

      أخوكم/ أبو إبراهيم الرئيسي