ولقد تبقى عيناك- يا حبيبتي- وبكل ما تحملان في أغوارهما من أسرار مصونة، وبكل ما تخفيه في أعماقهما من لغز وطلاسم دفينة، لا أحد يعرف أن يفك رموزهما، أو يقرأ مغزاهما، أو يفهم فحواهما، أو يسبح في بحرهما، أو يجوب فضاءهما، أو يدور في فلكهما، أو يغوص إلى عمقهما أو يكتشف قارة جمالهما، أو يعيش في كون سحرهما غيري ، فانا وحدي الخبير بمناجاتهما لي، فهما لي رسول قلبك الصادق، ولسان حبك الناطق الذي لا يكذب ولا ينافق، ولا يخفي وراءه الحقائق، أرى في كل ومضة من ومضاتهما ينساب النبع الصافي الجميل المتلألأ في مقلتيهما اللتين يتدفق منهما النور المنبثق بجمال الحياة المتألق ببريق الأمل الذي يلوح من جفنيهما الناعسين، التي تتراقص فيهما أضواء الفرح المترقرق كنجمتين مضيئتين في سماءهما، على رغم البريق الذي يخترق عالمهما فيشع بوميض الحزن العميق ، فيضفي عليهما مسحة من السحر والجمال ، الذي يخلب اللب، ويسحر النظر ، ويبهر الروح، ويأسر القلب ،ويثير غرائز الحس ،ويدغدغ الإحساس، ويداعب المشاعر، ويلاعب الوجدان، ينسيانني همومي ومتاعبي ،فهما وطني وملاذي أرى فيهما زورق الأحلام الذي أرحل به إلى المدى البعيد حيث توجد بين هدبيهما الرائعين واحات ذات بهجة وبساتين نضرة مليئة بالأزهار والورود،فعيناك تجعلانني أحتوي ما في نفسك وأعرف مافي داخلك
فقد بدا لي منهما ما ضمرت لي في نفسك من رغبة لم تتمكني من التفوه أو التصريح بها
وقد تجاوزت عيناك اللسان وتعدتا التعبيرالانفعالي الذي رأيته منهما فتكلمت بدلا من لسانك ،
وعندما تجاذبنا أطراف حديث الهوى بادل طرفي طرفك الكلام

فذقت حلاوة نظرتك جريا على مذاق حلاوة كلامك كما ذاق ابن الفارض من حلاوة نظرة حبيبته:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا
كلاهما حسن عندي أسر به
لكن أحلاهما ما وافق النظرا
فامتزجت إشارة كلمة عينيك الحلوة بصوتك، فبدت لغة عينيك لغة اسمعها وأراها

وكانت دلالة عينيك معبرتين بالكلام تعبيرا فصيحا

وكانت وسيلة الاتصال بين فؤادينا هي العيون التي أوحت بما استودعناه في داخلها من أسرار
فكنت حتى لما تغيبين عني، عيناي تهتديان إليك، ولكنها بخلت عيناك يا حبيبتي علّي من دون أي ذنب ارتكبت، فكم لجأت إليك لتنقذيني مما أنا فيه من العذاب، فقد لاقيت منك كما لاقى أبو جعفر الأندلسي من حبيبته:
لو كنت تعلم ما عيناك قد صنعا
لما بخلت على مشتاق بالأمل
لكن بخلت فلم تعلم بما صنعت
في مهجتي لحظات الأعين النجل

فقد صرعتني فلما شكوت منها تبرأت من ذنبها وألقت باللوم على قلبي، ولكن قلبي يصر باللوم على عينيك كما قال الصولي:
ففي كل الأحوال عيناك هي الملام لأنهما كما ذكرت لك جالبتا لي العذاب
فوقعت في عالم ضحايا العيون، وأعترف بضعفي أمام نظراتهما ‘فعيناك

هما اللتان فعلتا في نفسي فعل السحر، فلم يخطىء سهمهما شغاف قلبي، وهاأنذا

أراهما في وقت السحر كغابتي النخيل تنعكس عليهما أشعة القمر أو شرفتين مضيئتين يبعد عنهما القمر، فحين تبتسمان تظهران كالنجوم تتراقص أضواؤها كما تتراقص أضواء القمر على صفحات الماء التي تعكس أشعته، وهذا ما صوره "بدر شاكر السياب" بقوله:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

فسبحان الذي صورهما بهذا الجمال

لأنني أذهل أمام صورة حسنهما لدرجة إنني أتلعثم في الحديث عندك فتتعطل لغة الكلام لديّ، ولكن تنقذ عيناي الموقف بمخاطبتهما لعينيك فتوفقان في ايصال ما في قلبي لك، كما قال أحمد شوقي:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيني في لغة الهوى عيناك

فقد هامت بك عيناي يا حبيبتي فأقرئي إن شئت ما تحمله لك في قلبي من رسائل،

فكانا رسول حبي لك ، وعيناك رسول حبك لي التي صرت مفتونا بهما...كما افتتن امرؤ القيس بعيني حبيبته:
لها مقلة لو أنها نظرت إلى راهب
قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتونا معنى بحبها كأن لم
يصم لله يوما ولم يصل

نعم يا حبيبتي فقوة سحرعينيك أضعف من أن تقاوم
فماذا أقول من أثر عينيك على قلبي أكثر مما قاله "البحتري":
فيا الله ما تلقى القلوب
الهوائم من جنايات العيون

ففي كل الحوادث خطرها لا ينفع الحذر منه ، على رغم ما حضر منه أحد الشعراء بقوله:
كل الحوادث مبدأ النظر
ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
كفتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في عين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

فأرجوك يا وردة عمري، وشذى قلبي يكفيك ظلما لي، ألم يكفيني ظلم عينيك التي تلقيت الطعنات تلو الطعنات من خنجريهما؟
فهل تريديني بعد ذلك أن أطلب منك صراحة أن تكتبي عند مشهد قبري أنه قتل بسبب عشق العيون كما فعل مجنون ليلى:
وخطوا على قبري إذا مت أسطرا
قتيل لحاظ مات وهو عشيق
ولقد تبقى عيناك يا حبيبتي لي الداء والدواء فإذا أردت مداوتي فأقبلي فإذا أردت بي الداء فاعرضي.. أرجوك لا تعرضي!!