بسم الله الرحمن الرحيم
يسرني أن أقدم إليكم هذه القصة آملاً منكم متابعتها بدقة , وأن تتعمقوا في أغوارها , ثم إني أنتظر منكم أي نقد أو تعليق أو سؤال , سأترككم الآن مع القصة .
يسرني أن أقدم إليكم هذه القصة آملاً منكم متابعتها بدقة , وأن تتعمقوا في أغوارها , ثم إني أنتظر منكم أي نقد أو تعليق أو سؤال , سأترككم الآن مع القصة .
صاحبة الزهــور
"Femme des fleurs"
حملت باقة الزهور البيضاء و وقررتُ الذهاب إليها .. كان الفرح يسابقني , وكاد الشوقُ يقفزَ من بينِ أضلعي :
كيف سأراها هذه المرة ؟ هل تغيرت ؟! هل كبُرت ؟! أم إنَّ نظارتها بقت كما هي !! وبريقها لا يزال يعلو قسماتها !!
كيف سأراها هذه المرة ؟ هل تغيرت ؟! هل كبُرت ؟! أم إنَّ نظارتها بقت كما هي !! وبريقها لا يزال يعلو قسماتها !!

ثم بدأت بحور الأسئلة تأخذ في داخلي منحاً آخر :
كيف ستستقبلني يا تُرى ؟ هل ستعرفني ؟ أم أنَّ ملامحي أنا أيضاً قد بدلها الزمن ؟!!
قررت العودة , وبدأتُ أولى خطواتها بشرائي لتلك الباقة " التي تُحِبُها " من مطار ( Charl Digoul ) الشهير , صعدت إلى الطائرة بنشوة العودة وأحلام الرجوع , فقعدت على أحد المقاعد وباقةِ الزهورِ البيضاء في حضني أضمها إلى صدري بلطف شديد , أغمضت عيني , وأخذتُ أحلمُ بالعودةِ : " ياه .. عمرٌ قد انقضى دون أن أراكِ , لم أهاتفكِ , أعلمُ أن ذلك تقصيراً مني , ولكنَّ قلبكِ الكبير لطالما غفر لي وسامحني على فيضِ أخطائي في حقكِ " أخذتُ أحلمُ بكلَّ شئ .. لم أشعر بطول الانتظار لشِّدةِ ما أنا به من أحلامٍ وشعور .. كانت تلك الأحلام هي مُحركي الداخلي , فلم أشعر بمن حولي , إلى أن سمعْتُ صوتاً ندياً يُدغدغُ مسامعي :
"Escuse moi : Je Peux m`assoir . ici " جمال صوتُها أفقدني كل الحروف الفرنسية التي تعلمتها طوال تلك السنين , فلم أجيب عليها فقد كانت بالنسبة إليّ كالحلم الذي أعيشه تلك اللحظات , حتى أني لم أشأ أن أفتح عيني , خشية على حلمي من التلاشي فاكتفيت بإدراج صوتها الناعم في حلمي الجميل ليكتمل التناغم , ولكنها تداركت الموقف ظناً منها أنني أجهل اللغة , وأدعي النوم خجلاً من ذلك , فأعادت لي ما قالت بلغة هي الأقرب إلى نفسي وقلبي : " لُطفاً : هل يمكنني القعودُ هنا ؟ " ـ كانت تعني المقعد الذي بجانبي ـ فتحتُ عيناي على ذلك الصوتُ العربي الحر , فإذا بفاتنةٍ تقف بجواري , وتنظر إليَّ بجرأةٍ , كانت الفتاةُ غايةً في الجمال , وعلامات الثراء و ( الأُبَّهةِ ) تبدو عليها , غايةً في ( الشياكة )ِ والتألق , شعرها كُستنائي اللون حريري الملمس بِقَصَّةِ على الموضة , وتسريحةٍ جذابة , عيناها زرقاوتان ناعمتان , ترتدي ملابس إفرنجية ـ بودي من ( Promod ) , وبنطال من ( الجينز ) , ومساحيق الماكياج على خديها من ( Paris Galary ) , ورائحةٍ نفَّاثةٍ من ( Christian Dior ) ـ شغفتني برؤيتها مما أنساني الإجابة على سؤالها بإمكانية قعودها بقربي أم لا , فبادرتني بقولها : " Pardon Monsieur .. فيبدو لي أنني قد أحرجتك , وهذا المقعد محجوزٌ لها " , ثم استدارت وهمت بالانصراف تبحثُ عن مقعدٍ آخر , تداركتُ الأمر بعد تلك الغيبوبةِ المشغوفة قائلاً لها : " مهلاً يا ... " التفتت إليَّ بعينيها السّاحرتان وقالت لي وبابتسامة منقوشة على مُحيّاها : " انجي أدعى انجي " .
" انجي اسمٌ غريبٌ وجميل " هذا ما قلته على الفور , فتبسمت لي عند سماعها ذلك وقالت : " merci " , فدعوتُها للجلوسِ ولكنها اعتذرت بقولِها : " Pardon " يبدو لي أن هذا المقعد محجوزٌ لها " , تعجبتُ من قولِها ذلك , فسألتها : " من تعنين بـ لها ؟! " , فأجابت والاحمرار أخذ يتكور على خديها : " أعني صاحِبة الزهور " قهقهةٌ بصوتٍ مرتفعٍ ثم قلت لها : " بل إنهُ محجوزٌ لك منذ هذهِ اللحظةِ , فهلا شرفتني بالقعود " , فقعدت بجواري , وصمتت طويلاً , ولم تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ , وبدأت أشعر بسرعة الطائرة , لم أكن أريدُ الوصول , ليتني أحلقُ في الفضاء إلى آخر العمر , فيكفي أن تكون انجي الحسناء بجواري , كُنْتُ في أمسِ الحاجةِ لِسماعِ صوتها المُغرد كأنغامِ الموسيقى الدافئة , ولكنها حرمتني ذلك بذلك الصمتُ الرهيب , لم أحتمل , وقلتُ في نفسي : " لابد وأنها خجلة , هكذا الفتياتُ دوماً , دعني أبادرها , فأنا المشغوفُ إليها , وليست هي " استجمعت قواي , وقلتُ كلمةً واحدةً لم أزد عليها : " مرحباً " خرجت تلك الكلمة من فمي , وكأنني أنتزِعُ رصاصة من جسدي , وقذفتُها بها , فأجابتني بكلمة واحدة هي أيضاً أخرجتها بكل نعومة وتغنج : " Salu " ثم ساد الطائرة صمتٌ غريب , وما هي إلا ثوانٍ حتى انفجرت انجي بالضحك . مما أثار إلتفات الناسِ إلينا وعلامات الاستغراب , وربما الاستنكار أو الاستياء على وجوههم , فسألتها عن سر تلك القنبلةِ المنفجرةِ من الضحكِ , فقالت وهي تضع يدها على وجهها لتداري ابتسامة كادت أن تستشف نواجذها : " أنت يا سيدي " , رمقتها بغرابةٍ وقلت : " أنا , كيف ؟ أنني لم أفعل شيئاً يا آنستي " ـ عرفتُ أنها آنسة لأنها لا تضع أي دبلةٍ على أصابعها ـ فقالت : " أعلم أنك تحاوِلُ الحديث معي منذ اللحظة الأولى لقعودي بقربك , ولكنك على ما يبدو شديد الخجل , أو ربما لا تملك الجرأة الكافية للحديثِ مع الفتيات " راقت لي تلك الكلمات فوافقتها على ذلك وقلت : " هذا صحيح معك حق يا آنستي , فأنا لا أملك الجرأة في الحيث مع الفتيات بالفعل يا آنستي " , وأخذتُ أكرر تلك الكلمة مراراً " يا آنستي " فقالت لي :" يبدو أنك شديد الملاحظة , أو ربما عينيك أكثر جرأة من لسانك " لطمتني تلك الكلمات على خدي وأخرستني فلم أتفوه بعدها بشئ , حتى سألتني بحروف مضطربة : " ذكرتَ لي أنكَ لا تملك الجرأة في الحديث مع الفتيات " أومأت برأسي موافقاً دون أن أبدي أيةُ كلمة , فتبسمت وقالت : " وصاحبة الزهور ؟!! " هنا تفجـرتْ قنبلتي أنا هذه المرة وضحكت بشدةٍ , فقالت : " ما الذي يُضحكك ؟! " قلتُ : " أنتِ " , قالت باستياء : " أنا !! كيف ؟ فلم أفعل ما يضحك " , تداركتُ استياءها وقلت بعد تردد : " على ما يبدو أنكِ شديدة الغيرة , وهذا يُسعدني " ؛ احمرَّ خدها خجلاً وقالت : " إنكَ لمغرور " , قلتُ : " لا , ولكن قلبي يُخبرني " , فرمقـت تلك الزهرات البيضاء بنظرةٍ غيورةٍ , وقالتِ بُغْية اختبار حبي لها : " هل لي بها " , سقطتُ في يدها , ولكنني تظاهرتُ بالغباء وعدم الفهم وقلتُ : " عذرا ..ً لم أفهم " ظناً مني أنها ستُحْرج ولن تكرر الطلب , فكانت أكثر جرأة ومكراً فأعادت وبلطفٍ شديدٍ هذه المرة : " هل لي بهذهِ الباقة يا حـ…. " , فقلتُ لها : " عذراً .. أعطيكِ قلبي .. عمري .. حياتي أمنحكِ كُلَّ شئ إلا هذه الباقة " , تعجبتْ من قولي وقالت : " أهي غاليةٌ عليكَ إلى هذا الحد ؟!! " , فلم أتردد في أن أقول لها : " بل هي الأغلى عندي من كُلِّ شئ " , فقالت : " يا لئيم .. وتدعي حبي " فقلتُ : " لا أدعيه , بل هي الحقيقة " , أعرضت عني ولاحت بوجهها إلى الجانب الآخر مستنكرةً عليَّ ذلك , ولكنني لم أبالي واسترسلتُ في حديثي : " نعم أحبكِ , وأحب صاحبة الزهور " فنظرت إليّ بدهشةٍ ولم تنطق ببنتِ شفه , فأرحتها بقولي : " حبي لها من نوعٍ آخر , فالباقةُ لأمي , واليوم يوم عيدها " .

تنفست انجي الصعداء , وتبسمت لي ابتسامة لطيفة , ثم قالت : " ليت كل منا يحب أمهُ كحبك لأمك " , فقلت والانشراح ظاهراً عليّ : " هي أمي وتستحق مني أكثر مما أستطيع أن أقدمه لها " , مرت الساعات دون أن نشعر بها , كنتُ وانجي في غمرةٍ من السعادة , حلقتُ معها إلى عالمها كتحليق الطائرةِ التي تُقِلنا فوق السحاب , والتي ما لبثت حتى قطعت علينا تلك السعادة بنزولها , وتوقفها , لتعلن لنا نهاية الأحلام والعودةِ إلى الواقع , توقفت الطائرة وهمت انجي بالنزول , فقد انتهت رحلتها معي إلى هذا الحد , وبقيت دقائق معدودة ستفتح أبواب الطائرة لتنزل أنجي وأكمل الرحلة بمفردي , وقفتْ وأخذتْ تنظر إليّ والموج الأزرق يغْرِقُ عينيها الحرّى , وقبل أن تستدير أمسكتُ أطراف أصابعها بلطف بالغ , وعيني تفيض ألماً وقلت لها: " هلاّ أعطيتني ما يجعل تواصلنا يستمر " ـ كنتُ أعني عنوانها أو رقم هاتفها ـ ولكنها أكملت استدارتها باكيةً وكأنها لم تسمعني , هكذا ودعتني وهمتْ بالرحيل , وما إن وصلت إلى مخرج الطائرة حتى استدارت من جديد لتلقي عليَّ نظرتها الأخيرة , وبابتسامةٍ مخنوقةٍ رفعت انجي يدها مرسلة إليَّ قُبلة وهي تلوِّح " وداعاً " .

رحلت انجي وقعدتُ بمفردي انتظر إقلاع الرحلة مجدداً , وعدتُ لأغرق في أحلامي من جديد , وأنا أحتضن تلك الباقة التي منعتها انجي الجميلة والتي بدأت أراها في تلك الأحلام الدافئة , صَهَرْتُ انجي في أحلامي أخذتها معي إلى حيث أمي يدي بيدها وباليدِ الأخرى أحمل باقتي , فقد كانت انجي هي هديتي الثانية لأمي بعد تلك الباقة البيضاء التي تُحِبُها , ولكن سُرعان ما أُحْسدُ حتى على الأحلام , على صوتٍ بشِعٍ كدّرَ صفوي :
- - تفضلي سيدتي فهذا هو مقعدكِ .
كان ذلك هو صوتُ المضيف يُخاطبُ إحدى النساءِ المتوشحات بالسواد عباءة سوداء وغطاء رأس ونقاب سوداوان وزوجين من الجوارب والقفازات السوداء هكذا بدت تلك السيدة , وكأنها قطعة من الليل في مساء لا يظهر فيه القمر . لكن تلك السيدة رفضت الجلوس على ذلك المقعد لكونهِ بجواري , على الرغم من أنه لا يوجد مقعد شاغر غيره , وبعد طول جدال استسلمت السيدة لواقعِ الأمر , وقعدت مكرهة , والارتباك الشديد يظهر عليها رغم السواد الذي كان يتكنفُها , ومع تلك اللحظات العصيبة التي تمر بها تلك السيدة نسيت أن تربط حزام المقعد , فاغتنمت أول فرصة لبدء الحديث معها : "هلاّ ربطِ الحِزام سيدتي " .
ولكنها ألقتْ بنظراتها على قدميها في خجلٍ واضطرابٍ ولم تحرك ساكناً , فأعدتُ الكرة وقلتُ لها : " يا سيدتي أنَّ من الخطورة أن تهملي ربط حِزام المقعد " . ظلت نظراتها ملقاة على قدميها , وقالت في خجل شديد لم أعهد له نظير : " عذراً سيدي , فهذه هي المرة الأولى التي أركب فيها طائرة , وليست لي دراية في ربط حزام المقعد " .
تعجبت من ذلك , وأدركت كذِبها فكيف لعربية أن تعود من غربةٍ أوروبية وتدعي أنها تركب الطائرة لأول مرة , فدار في قلبي : " إذاً فهي ترغب في أن أربط لها الحزام " , فاستأذنتها بفعل ذلك عوضاً عنها , ولكنها لم تجبني , فأدركت أنها موافقة ـ وأدركت أن السكوت هو رمز الموافقة عند النساء ـ وبكل لطفٍ مني ربطتُ لها حِزام المقعد , فشكرتني وقطعتُ بعدها رحلة طويلة من الصمت , ولكنني لم أقوى على تحمل ذلك , ولا يزال صوتُ انجي يخترق مسمعي بين الحين والحين , وبدأت أشعر وكأن انجي بجانبي , فحاولت مراراً التحدث إليها , ولكنني كنتُ أفشل دوماً قبل أن أبدأ , فرادعاً لا أراهُ كان يردعني ويمنعني من فعل ذلك , ربما كانت الحشمة التي ظهرت بها السيدة هي نفسها ذلك الرادع , وأخذ الصراع الشيطاني في داخلي : " كلمها ,, حادثها ,, لن تردك ,, إنها كانجي لا فرق فالنساء نساء " وبعد رحلة مع تلك الوساوس انتصر شيطاني عليّ فبادرتها قائلاً : " مرحباً "
فأجابت بصوت ملؤهُ الرزانة والوقار : " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " , فطلبت منها أن تسمح لي بالحديث معها قليلاً بحجة إنني مغترب لعشرات السنوات , وبحاجة لمن يساعدني ببعض المعلومات التي قد تفيدني فور وصولي , من هذا المدخل سولت لي نفسي اقتحام هدوء السيدة وصمتها , فوافقت بشرط أن يقتصر حديثي حول تلك الحاجة , ولكن الحديث أخذنا , فعرفتُ أنها من بني جلدتي , فحدثتني عن بلدي الشئ الكثير , وآنستني من وحشة الوحدة التي كنتُ أعاني منها , ومرت بنا اللحظات سريعاً , حتى حسدتنا الطائرة هذه المرة بإعلانها وصولنا إلى أرض المطار , فشكرت السيدة على لطف حديثها معي , وفعلت هي الأمر نفسه , وقبل أن تستأذنني بالانصراف نظرتْ إلى باقةِ الزهورِ البيضاء وقالت : " يبدو لي أنك تحبها كثيراً " . تبسمتُ وقلتُ لها : " إنّها لأمي , واليومُ يومُ عيدها " .

فرفعت يدها بالدعاء لي ولأمي ثم انصرفتْ مُوَلِّيَةً , نزلتْ من الطائرةِ ونزلتُ بعدها مباشرةٍ , وما إن وصلنا عند مدخلِ المطار حتى استدارت , واقتربت مني وقالت : " تفضل " , مدتْ إليَّ يدها , وقدمت لي ورقةً صغيرةً ملونةً , تبسمتُ ومددتُ يدي لأتناول الورقةِ , وما إن أمسكتُ بها حتى ضغطت على الورقةِ بأطراف أصابعها , وقالت لي : " ولكن عدني أولاً أنك لن تفتحها حتى تُسلّم الباقة لمن تستحقها " , فوعتها والغرابة بدت على قسماتي , وأخذتُ والورقة في الوقت الذي توارت هي عن الأنظار , وكأن شيئاً لم يكن .
عدتُ مجدداً إلى أحلامي , إلى أمي وباقتي البيضاء ... إلى انجي , والورقة الملونة والتي أدرجتُها هي أيضاً في حلمي الجديد , وبدأت تطوفُ بيّ الأفكار : ( كيف غدتُ أمي ؟ كيف ستستقبلني ؟ سنواتٌ طويلة من الغربة والهجران هل مسحت ملامح الأمومة من قلب أمي ؟ أم أنّ قلب أمي أكبر من ذلك ؟ ) .
أنهيتُ إجراءات القدوم , واتجهت على الفور إلى بوابة الخروجِ من المطار , والدخولِ إلى حيثُ أمي , ومن إن وضعتُ أولى خطواتي في ذلك المكان حتى رأيتها وقد شاخت شحب وجهها واحدودب ظهرها , وانحنت هامتها , وبدأتْ عليها آثار البؤسِ والألمِ والانكسارِ " ياهٍ يا أمي لقد أخذ منكِ الزمانُ كل مأخذ " قلتُها في نفسي , والدموع تنهمر كالمطرِ من مقلتي , تقدمتُ إليها بخطواتٍ مشلولةٍ لا تقوى على الحِراك , أحسست حينها بالندم على هجرها , فقد كانت في أمس الحاجة إليّ , أخذتُ أجر خطواتي إليها , يخيل إليّ لو أن رضيع يحبو لوصل قبلي , ولكن ما أفعل قدماي دقتُ بهما مسامير الأسى والحسرة عندما رمقتُ وجهها , لازلت أحاول اجترار قدماي , وازحف بهما زحفاً حتى اقتربتُ منها , استهلكتُ وقتاً طويلاً لأفعل ذلك , حتى أن عقارب الساعة ساعدتني فقد استدارت مراراً لأصل إليها , وما إن وصلت حتى فتحتُ ذراعيّ أطلب ضمّها , ولكنها صدّتني , تنكرت لي , لم تعرفني , يا للأقدار أمي لم تعرفني , انكسر قلبي لذلك , ولكنني عذرتها , وأخذتُ أعرفها بنفسي : " هذا أنا يا أماه , ابنك , لقد عدتُ إليك ولأجلكِ , عدتُ يا أماه فلا تقسي عليّ كقسوتي عليكِ , وهجري لكِ طوال العقود المنصرمة فأنت الأم الحنون , والقلب الرؤوم , هذا أنا يا أماه هذا أنا " وأخذتْ دموعي تفضحُ خلجاتي , ففتحت لي ذراعيها وتبسمت قائلة : " أهلاً بك يا بُني " , فارتميتُ في أحضانها وشرعتْ في البكاء , بكيتُ وبكيت , ولكنها لم تفعل , ولم تنزل من مقلتها دمعة واحدة , تيقنتُ من أن دمعاتها قد جفت من كُثرِ البكاء , فطيبت خاطري وقالت : " لا تبكي يا بُني فليس هذا يومُ البكاء " وبعد لحظات من الشوقِ والبكاء , تذكرتُ باقة الزهور البيضاء , تلك الهدية التي حافظتُ عليها طوال الرحلة , تلك الباقة التي حرمتها انجي الجميلة , رفعتُ رأسي من حضن أمي , وحملتُ باقتي فقدمتها لها : أعلم يا أماه كم تحبي الزهور البيضاء " , ولكن أمي رفضت هديتي , وقالت : " لا يا بُنيّ ليس هذا وقتُ التهادي " , انكسر خاطري مجدداً : " هديتي لن تقبليها يا أماه " حدثتُ نفسي بذلك , فتذكرتُ الورقةُ الملونة " ياه لن أستطيع فتحها وقراءة ما تحتويه حتى تقبل أمي هديتي فلا يستحقها غيرها " اسودت في عيني الحياة كلّ شئ اصبح ضدي فما الذي أتى بي إلى هنا , ما قيمة هذه الزهور إذا لم تقبلها أمي , وبقيتْ يدي على وضعيتها تستعطِف أمي , والتي سارعت بقولها : " يا بني سأقبل هديتك ذات يوم " , نظرت إليها والأسى عنواني وقلت : " متى يا أماه تقبليني وتقبلي هديتي " قالت أمي بشموخ لم أرهُ منذ سنينٍ طويلة : " هديتك يا بني سأقبلها منك عندما تموت " , تفاجأتُ من قولها , وقلتُ لها : " هل تتمنين موتي يا أماه " , مسحت على رأسي وقالت : " يا بنيّ هديتي اليوم روحك , وأمنيتي كذلك " , قلتُ لها بقلبٍ كاد يتفطر : " هل موتي يرضيك يا أمي ؟!! " , فأجابتني والدموع بدأت تدغدغ ما تبقى من رموشها : " أجل يا بني , اذهب ولا تعود إلا ميتاً " , فقلت بصوتِ يخنقهُ الانكسار وهولِ الصدمةِ : " ماذا ينفعكِ موتي يا أماه ؟!! " مسحت أمي دمعاتها , وتبسمت ابتسامةٍ مخنوقة وقالت : " فقط مُتْ يا بُني , وستعرف حينها منفعتي " , فهممتُ بالرحيل , ودعتُ أمي وقلتُ لها : " أعدكِ يا أماه إن كان لنا لقاء أن آتيكِ وأنا على فِراشِ الموت " .
ذهبتُ وأقدمتُ على الموت تلبيةً لرغبةِ أمي, بعد أن تحطم كلّ شئٍ في داخلي , فصارعتُ البقاء من أجلِ الفناء , وكان صوتُ أمي يزورني ويقويَّ من شكيمتي لاستقبال الموت , بعتُ الحياة لأجل إرضاءها , فعلت كل شئ حتى أشرفتُ على مغادرةِ الدنيا , وفي اليوم الذي تمددتُ فيه على فِراشِ الموت حملوني إلى أمي , وما إن نظرتها حتى قلت : " جئتُ مُحققاً وعدي يا أماه " , فوقفت عند رأسي باسمةً تقبل جبهتي وهي تقول : " مرحا لك الموت يا بُني " فقاطعتها قائلاً : " هل رضيتي الآن يا أمي ؟ " فتبسمت وهزت لي برأسها وقالت : " ومالي لا أرضى عنك يا بُني " , فحملتُ باقتي البيضاء التي هاجمها الاصفرار أثر الذبولِ , وقلتُ لها : " هل تقبلي الآن هديتي ؟ " , نظرت إليّ وبحر من الدموع قد هاجم مقلتيها وقالت وهي تتناول مني تلك الباقة : " اليومُ فقط أقبل هديتك , ومن الغد يا بني ستكون باقتك أكثر بياضاً " , وما إن استقرت تلك الباقة في ذراعي أمي حتى تذكرتُ الورقة الملونة التي أعطتنيها تلك المنقبة بعد نزولنا من الطائرة , وأن شرطها قد تحقق بقبول صاحبة الزهور لتلك الباقة , فأخرجتُ الورقة من جيبي , وفتحتها , فإذا بها : " حبيبي .. يمكنكَ الآن الاتصال بي , التوقيع حبيبتك انجي ," , فشهقتُ شهقة الموت , وقبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة , سمعتُ أمي تزغرد وتقول : " اليوم يا بني ستسمى بالشهيد ,, وسأسمى أنا بأم الشهيد , بموتك يا بُني وبموتِ اخوتك وأقرانك سيكون ميلادي , أمك يا بني كانت ولا زالت تسمى العراق " .

القصة حملت أبعاداً رمزية عديدة :
1- الأم , وصاحبة الزهور : هي العراق.
2- انجي : هي الحياة بكل شهواتها و مغرياتها .
3- المنقبة : هي الحياة بآلامها وواقعيتها .
4- باقة الزهور البيضاء : هي السلام من المنظور الغربي ( سلام مزيف ) لذا لم تقبله الأم ( العراق ) .
5- باقة الزهور المصفرة : هي السلام الجزئي الناتج عن الجهاد المطالب للحرية ونبذ الاحتلال.
6- الورقة الملونة ( الرسالة ) : هي دعوة للتعلق في الدنيا والتمسك بها .
7- الشرط ( شرط فتح الرسالة ) : اشترطت الفتاة فتح الرسالة بعد أن تستلم الأم باقة الزهور البيضاء أي بعد أن تقتنع العراق بالسلام الأمريكي المزعوم , وهي دعوة لأن يخنع الشاب العراقي لذلك , ويقبل على الحياة رضوخاً للأمر الواقع , ولكن ما حصل في القصة أن الشاب لم يفتح الرسالة إلا بعد أن ذبلت تلك الباقة المزيفة , فتحها بعد أن افتدى بنفسه من أجل العراق , ولم يرضى بذل الواقع المرير .
8- أحلام اليقضة عند بطل القصة: تشكل بعدين الأول : أحلام العرب الغير قابلة للتحقق " كحلمه باصطحاب انجي إلى أمه " , أما البعد الثاني : فيكمن في الموقف العربي تجاه القضايا المعاصرة , فهو موقف غير واضح , كأن يكون رفض غير معلن , أو طاعة جبرية " كحلمه بادراج ذلك صوت الدافئ في ذلك الحلم , خشية أن يفتح عينيه فيفقد حلمه " .
9- الهدف من توحيد شخصية انجي السافرة , والسيدة المنقبة هو إبراز الدنيا بكلتا حالتيها هي نفس الدنيا بها : المغريات والمنغصات , الخير بجانب الشر , الأمل بجانب الألم , السعادة تصارعها التعاسة , الفرح والحزن يتناوبان , و الكرب بجانب الفرج , وتبقى الحياة هكذا تتأرجح بحلوها ومرها
10- تردد السيدة المنقبة عن الجلوس بالقرب من بطل القصة : كما علمنا أن انجي مثلت الحياة بزينتها وأفراحها , بينما السيدة المنقبة مثلت الحياة بآلامها وأحزانها , فجاء هذا التردد بين هاتين الحياتين ( انجي والمنقبة ) كفاصل زمني قبل تحول السعادة إلى تعاسة , والفرح إلى حزن , فجاء التردد وكأنه يشير إلى المشكلات أو المصائب التي من شأنها أن تحول مسار الحياة السعيدة إلى حياة تعيسة .
.
كيف ستستقبلني يا تُرى ؟ هل ستعرفني ؟ أم أنَّ ملامحي أنا أيضاً قد بدلها الزمن ؟!!
قررت العودة , وبدأتُ أولى خطواتها بشرائي لتلك الباقة " التي تُحِبُها " من مطار ( Charl Digoul ) الشهير , صعدت إلى الطائرة بنشوة العودة وأحلام الرجوع , فقعدت على أحد المقاعد وباقةِ الزهورِ البيضاء في حضني أضمها إلى صدري بلطف شديد , أغمضت عيني , وأخذتُ أحلمُ بالعودةِ : " ياه .. عمرٌ قد انقضى دون أن أراكِ , لم أهاتفكِ , أعلمُ أن ذلك تقصيراً مني , ولكنَّ قلبكِ الكبير لطالما غفر لي وسامحني على فيضِ أخطائي في حقكِ " أخذتُ أحلمُ بكلَّ شئ .. لم أشعر بطول الانتظار لشِّدةِ ما أنا به من أحلامٍ وشعور .. كانت تلك الأحلام هي مُحركي الداخلي , فلم أشعر بمن حولي , إلى أن سمعْتُ صوتاً ندياً يُدغدغُ مسامعي :
"Escuse moi : Je Peux m`assoir . ici " جمال صوتُها أفقدني كل الحروف الفرنسية التي تعلمتها طوال تلك السنين , فلم أجيب عليها فقد كانت بالنسبة إليّ كالحلم الذي أعيشه تلك اللحظات , حتى أني لم أشأ أن أفتح عيني , خشية على حلمي من التلاشي فاكتفيت بإدراج صوتها الناعم في حلمي الجميل ليكتمل التناغم , ولكنها تداركت الموقف ظناً منها أنني أجهل اللغة , وأدعي النوم خجلاً من ذلك , فأعادت لي ما قالت بلغة هي الأقرب إلى نفسي وقلبي : " لُطفاً : هل يمكنني القعودُ هنا ؟ " ـ كانت تعني المقعد الذي بجانبي ـ فتحتُ عيناي على ذلك الصوتُ العربي الحر , فإذا بفاتنةٍ تقف بجواري , وتنظر إليَّ بجرأةٍ , كانت الفتاةُ غايةً في الجمال , وعلامات الثراء و ( الأُبَّهةِ ) تبدو عليها , غايةً في ( الشياكة )ِ والتألق , شعرها كُستنائي اللون حريري الملمس بِقَصَّةِ على الموضة , وتسريحةٍ جذابة , عيناها زرقاوتان ناعمتان , ترتدي ملابس إفرنجية ـ بودي من ( Promod ) , وبنطال من ( الجينز ) , ومساحيق الماكياج على خديها من ( Paris Galary ) , ورائحةٍ نفَّاثةٍ من ( Christian Dior ) ـ شغفتني برؤيتها مما أنساني الإجابة على سؤالها بإمكانية قعودها بقربي أم لا , فبادرتني بقولها : " Pardon Monsieur .. فيبدو لي أنني قد أحرجتك , وهذا المقعد محجوزٌ لها " , ثم استدارت وهمت بالانصراف تبحثُ عن مقعدٍ آخر , تداركتُ الأمر بعد تلك الغيبوبةِ المشغوفة قائلاً لها : " مهلاً يا ... " التفتت إليَّ بعينيها السّاحرتان وقالت لي وبابتسامة منقوشة على مُحيّاها : " انجي أدعى انجي " .
" انجي اسمٌ غريبٌ وجميل " هذا ما قلته على الفور , فتبسمت لي عند سماعها ذلك وقالت : " merci " , فدعوتُها للجلوسِ ولكنها اعتذرت بقولِها : " Pardon " يبدو لي أن هذا المقعد محجوزٌ لها " , تعجبتُ من قولِها ذلك , فسألتها : " من تعنين بـ لها ؟! " , فأجابت والاحمرار أخذ يتكور على خديها : " أعني صاحِبة الزهور " قهقهةٌ بصوتٍ مرتفعٍ ثم قلت لها : " بل إنهُ محجوزٌ لك منذ هذهِ اللحظةِ , فهلا شرفتني بالقعود " , فقعدت بجواري , وصمتت طويلاً , ولم تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ , وبدأت أشعر بسرعة الطائرة , لم أكن أريدُ الوصول , ليتني أحلقُ في الفضاء إلى آخر العمر , فيكفي أن تكون انجي الحسناء بجواري , كُنْتُ في أمسِ الحاجةِ لِسماعِ صوتها المُغرد كأنغامِ الموسيقى الدافئة , ولكنها حرمتني ذلك بذلك الصمتُ الرهيب , لم أحتمل , وقلتُ في نفسي : " لابد وأنها خجلة , هكذا الفتياتُ دوماً , دعني أبادرها , فأنا المشغوفُ إليها , وليست هي " استجمعت قواي , وقلتُ كلمةً واحدةً لم أزد عليها : " مرحباً " خرجت تلك الكلمة من فمي , وكأنني أنتزِعُ رصاصة من جسدي , وقذفتُها بها , فأجابتني بكلمة واحدة هي أيضاً أخرجتها بكل نعومة وتغنج : " Salu " ثم ساد الطائرة صمتٌ غريب , وما هي إلا ثوانٍ حتى انفجرت انجي بالضحك . مما أثار إلتفات الناسِ إلينا وعلامات الاستغراب , وربما الاستنكار أو الاستياء على وجوههم , فسألتها عن سر تلك القنبلةِ المنفجرةِ من الضحكِ , فقالت وهي تضع يدها على وجهها لتداري ابتسامة كادت أن تستشف نواجذها : " أنت يا سيدي " , رمقتها بغرابةٍ وقلت : " أنا , كيف ؟ أنني لم أفعل شيئاً يا آنستي " ـ عرفتُ أنها آنسة لأنها لا تضع أي دبلةٍ على أصابعها ـ فقالت : " أعلم أنك تحاوِلُ الحديث معي منذ اللحظة الأولى لقعودي بقربك , ولكنك على ما يبدو شديد الخجل , أو ربما لا تملك الجرأة الكافية للحديثِ مع الفتيات " راقت لي تلك الكلمات فوافقتها على ذلك وقلت : " هذا صحيح معك حق يا آنستي , فأنا لا أملك الجرأة في الحيث مع الفتيات بالفعل يا آنستي " , وأخذتُ أكرر تلك الكلمة مراراً " يا آنستي " فقالت لي :" يبدو أنك شديد الملاحظة , أو ربما عينيك أكثر جرأة من لسانك " لطمتني تلك الكلمات على خدي وأخرستني فلم أتفوه بعدها بشئ , حتى سألتني بحروف مضطربة : " ذكرتَ لي أنكَ لا تملك الجرأة في الحديث مع الفتيات " أومأت برأسي موافقاً دون أن أبدي أيةُ كلمة , فتبسمت وقالت : " وصاحبة الزهور ؟!! " هنا تفجـرتْ قنبلتي أنا هذه المرة وضحكت بشدةٍ , فقالت : " ما الذي يُضحكك ؟! " قلتُ : " أنتِ " , قالت باستياء : " أنا !! كيف ؟ فلم أفعل ما يضحك " , تداركتُ استياءها وقلت بعد تردد : " على ما يبدو أنكِ شديدة الغيرة , وهذا يُسعدني " ؛ احمرَّ خدها خجلاً وقالت : " إنكَ لمغرور " , قلتُ : " لا , ولكن قلبي يُخبرني " , فرمقـت تلك الزهرات البيضاء بنظرةٍ غيورةٍ , وقالتِ بُغْية اختبار حبي لها : " هل لي بها " , سقطتُ في يدها , ولكنني تظاهرتُ بالغباء وعدم الفهم وقلتُ : " عذرا ..ً لم أفهم " ظناً مني أنها ستُحْرج ولن تكرر الطلب , فكانت أكثر جرأة ومكراً فأعادت وبلطفٍ شديدٍ هذه المرة : " هل لي بهذهِ الباقة يا حـ…. " , فقلتُ لها : " عذراً .. أعطيكِ قلبي .. عمري .. حياتي أمنحكِ كُلَّ شئ إلا هذه الباقة " , تعجبتْ من قولي وقالت : " أهي غاليةٌ عليكَ إلى هذا الحد ؟!! " , فلم أتردد في أن أقول لها : " بل هي الأغلى عندي من كُلِّ شئ " , فقالت : " يا لئيم .. وتدعي حبي " فقلتُ : " لا أدعيه , بل هي الحقيقة " , أعرضت عني ولاحت بوجهها إلى الجانب الآخر مستنكرةً عليَّ ذلك , ولكنني لم أبالي واسترسلتُ في حديثي : " نعم أحبكِ , وأحب صاحبة الزهور " فنظرت إليّ بدهشةٍ ولم تنطق ببنتِ شفه , فأرحتها بقولي : " حبي لها من نوعٍ آخر , فالباقةُ لأمي , واليوم يوم عيدها " .

تنفست انجي الصعداء , وتبسمت لي ابتسامة لطيفة , ثم قالت : " ليت كل منا يحب أمهُ كحبك لأمك " , فقلت والانشراح ظاهراً عليّ : " هي أمي وتستحق مني أكثر مما أستطيع أن أقدمه لها " , مرت الساعات دون أن نشعر بها , كنتُ وانجي في غمرةٍ من السعادة , حلقتُ معها إلى عالمها كتحليق الطائرةِ التي تُقِلنا فوق السحاب , والتي ما لبثت حتى قطعت علينا تلك السعادة بنزولها , وتوقفها , لتعلن لنا نهاية الأحلام والعودةِ إلى الواقع , توقفت الطائرة وهمت انجي بالنزول , فقد انتهت رحلتها معي إلى هذا الحد , وبقيت دقائق معدودة ستفتح أبواب الطائرة لتنزل أنجي وأكمل الرحلة بمفردي , وقفتْ وأخذتْ تنظر إليّ والموج الأزرق يغْرِقُ عينيها الحرّى , وقبل أن تستدير أمسكتُ أطراف أصابعها بلطف بالغ , وعيني تفيض ألماً وقلت لها: " هلاّ أعطيتني ما يجعل تواصلنا يستمر " ـ كنتُ أعني عنوانها أو رقم هاتفها ـ ولكنها أكملت استدارتها باكيةً وكأنها لم تسمعني , هكذا ودعتني وهمتْ بالرحيل , وما إن وصلت إلى مخرج الطائرة حتى استدارت من جديد لتلقي عليَّ نظرتها الأخيرة , وبابتسامةٍ مخنوقةٍ رفعت انجي يدها مرسلة إليَّ قُبلة وهي تلوِّح " وداعاً " .

رحلت انجي وقعدتُ بمفردي انتظر إقلاع الرحلة مجدداً , وعدتُ لأغرق في أحلامي من جديد , وأنا أحتضن تلك الباقة التي منعتها انجي الجميلة والتي بدأت أراها في تلك الأحلام الدافئة , صَهَرْتُ انجي في أحلامي أخذتها معي إلى حيث أمي يدي بيدها وباليدِ الأخرى أحمل باقتي , فقد كانت انجي هي هديتي الثانية لأمي بعد تلك الباقة البيضاء التي تُحِبُها , ولكن سُرعان ما أُحْسدُ حتى على الأحلام , على صوتٍ بشِعٍ كدّرَ صفوي :
- - تفضلي سيدتي فهذا هو مقعدكِ .
كان ذلك هو صوتُ المضيف يُخاطبُ إحدى النساءِ المتوشحات بالسواد عباءة سوداء وغطاء رأس ونقاب سوداوان وزوجين من الجوارب والقفازات السوداء هكذا بدت تلك السيدة , وكأنها قطعة من الليل في مساء لا يظهر فيه القمر . لكن تلك السيدة رفضت الجلوس على ذلك المقعد لكونهِ بجواري , على الرغم من أنه لا يوجد مقعد شاغر غيره , وبعد طول جدال استسلمت السيدة لواقعِ الأمر , وقعدت مكرهة , والارتباك الشديد يظهر عليها رغم السواد الذي كان يتكنفُها , ومع تلك اللحظات العصيبة التي تمر بها تلك السيدة نسيت أن تربط حزام المقعد , فاغتنمت أول فرصة لبدء الحديث معها : "هلاّ ربطِ الحِزام سيدتي " .
ولكنها ألقتْ بنظراتها على قدميها في خجلٍ واضطرابٍ ولم تحرك ساكناً , فأعدتُ الكرة وقلتُ لها : " يا سيدتي أنَّ من الخطورة أن تهملي ربط حِزام المقعد " . ظلت نظراتها ملقاة على قدميها , وقالت في خجل شديد لم أعهد له نظير : " عذراً سيدي , فهذه هي المرة الأولى التي أركب فيها طائرة , وليست لي دراية في ربط حزام المقعد " .
تعجبت من ذلك , وأدركت كذِبها فكيف لعربية أن تعود من غربةٍ أوروبية وتدعي أنها تركب الطائرة لأول مرة , فدار في قلبي : " إذاً فهي ترغب في أن أربط لها الحزام " , فاستأذنتها بفعل ذلك عوضاً عنها , ولكنها لم تجبني , فأدركت أنها موافقة ـ وأدركت أن السكوت هو رمز الموافقة عند النساء ـ وبكل لطفٍ مني ربطتُ لها حِزام المقعد , فشكرتني وقطعتُ بعدها رحلة طويلة من الصمت , ولكنني لم أقوى على تحمل ذلك , ولا يزال صوتُ انجي يخترق مسمعي بين الحين والحين , وبدأت أشعر وكأن انجي بجانبي , فحاولت مراراً التحدث إليها , ولكنني كنتُ أفشل دوماً قبل أن أبدأ , فرادعاً لا أراهُ كان يردعني ويمنعني من فعل ذلك , ربما كانت الحشمة التي ظهرت بها السيدة هي نفسها ذلك الرادع , وأخذ الصراع الشيطاني في داخلي : " كلمها ,, حادثها ,, لن تردك ,, إنها كانجي لا فرق فالنساء نساء " وبعد رحلة مع تلك الوساوس انتصر شيطاني عليّ فبادرتها قائلاً : " مرحباً "
فأجابت بصوت ملؤهُ الرزانة والوقار : " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته " , فطلبت منها أن تسمح لي بالحديث معها قليلاً بحجة إنني مغترب لعشرات السنوات , وبحاجة لمن يساعدني ببعض المعلومات التي قد تفيدني فور وصولي , من هذا المدخل سولت لي نفسي اقتحام هدوء السيدة وصمتها , فوافقت بشرط أن يقتصر حديثي حول تلك الحاجة , ولكن الحديث أخذنا , فعرفتُ أنها من بني جلدتي , فحدثتني عن بلدي الشئ الكثير , وآنستني من وحشة الوحدة التي كنتُ أعاني منها , ومرت بنا اللحظات سريعاً , حتى حسدتنا الطائرة هذه المرة بإعلانها وصولنا إلى أرض المطار , فشكرت السيدة على لطف حديثها معي , وفعلت هي الأمر نفسه , وقبل أن تستأذنني بالانصراف نظرتْ إلى باقةِ الزهورِ البيضاء وقالت : " يبدو لي أنك تحبها كثيراً " . تبسمتُ وقلتُ لها : " إنّها لأمي , واليومُ يومُ عيدها " .

فرفعت يدها بالدعاء لي ولأمي ثم انصرفتْ مُوَلِّيَةً , نزلتْ من الطائرةِ ونزلتُ بعدها مباشرةٍ , وما إن وصلنا عند مدخلِ المطار حتى استدارت , واقتربت مني وقالت : " تفضل " , مدتْ إليَّ يدها , وقدمت لي ورقةً صغيرةً ملونةً , تبسمتُ ومددتُ يدي لأتناول الورقةِ , وما إن أمسكتُ بها حتى ضغطت على الورقةِ بأطراف أصابعها , وقالت لي : " ولكن عدني أولاً أنك لن تفتحها حتى تُسلّم الباقة لمن تستحقها " , فوعتها والغرابة بدت على قسماتي , وأخذتُ والورقة في الوقت الذي توارت هي عن الأنظار , وكأن شيئاً لم يكن .
عدتُ مجدداً إلى أحلامي , إلى أمي وباقتي البيضاء ... إلى انجي , والورقة الملونة والتي أدرجتُها هي أيضاً في حلمي الجديد , وبدأت تطوفُ بيّ الأفكار : ( كيف غدتُ أمي ؟ كيف ستستقبلني ؟ سنواتٌ طويلة من الغربة والهجران هل مسحت ملامح الأمومة من قلب أمي ؟ أم أنّ قلب أمي أكبر من ذلك ؟ ) .
أنهيتُ إجراءات القدوم , واتجهت على الفور إلى بوابة الخروجِ من المطار , والدخولِ إلى حيثُ أمي , ومن إن وضعتُ أولى خطواتي في ذلك المكان حتى رأيتها وقد شاخت شحب وجهها واحدودب ظهرها , وانحنت هامتها , وبدأتْ عليها آثار البؤسِ والألمِ والانكسارِ " ياهٍ يا أمي لقد أخذ منكِ الزمانُ كل مأخذ " قلتُها في نفسي , والدموع تنهمر كالمطرِ من مقلتي , تقدمتُ إليها بخطواتٍ مشلولةٍ لا تقوى على الحِراك , أحسست حينها بالندم على هجرها , فقد كانت في أمس الحاجة إليّ , أخذتُ أجر خطواتي إليها , يخيل إليّ لو أن رضيع يحبو لوصل قبلي , ولكن ما أفعل قدماي دقتُ بهما مسامير الأسى والحسرة عندما رمقتُ وجهها , لازلت أحاول اجترار قدماي , وازحف بهما زحفاً حتى اقتربتُ منها , استهلكتُ وقتاً طويلاً لأفعل ذلك , حتى أن عقارب الساعة ساعدتني فقد استدارت مراراً لأصل إليها , وما إن وصلت حتى فتحتُ ذراعيّ أطلب ضمّها , ولكنها صدّتني , تنكرت لي , لم تعرفني , يا للأقدار أمي لم تعرفني , انكسر قلبي لذلك , ولكنني عذرتها , وأخذتُ أعرفها بنفسي : " هذا أنا يا أماه , ابنك , لقد عدتُ إليك ولأجلكِ , عدتُ يا أماه فلا تقسي عليّ كقسوتي عليكِ , وهجري لكِ طوال العقود المنصرمة فأنت الأم الحنون , والقلب الرؤوم , هذا أنا يا أماه هذا أنا " وأخذتْ دموعي تفضحُ خلجاتي , ففتحت لي ذراعيها وتبسمت قائلة : " أهلاً بك يا بُني " , فارتميتُ في أحضانها وشرعتْ في البكاء , بكيتُ وبكيت , ولكنها لم تفعل , ولم تنزل من مقلتها دمعة واحدة , تيقنتُ من أن دمعاتها قد جفت من كُثرِ البكاء , فطيبت خاطري وقالت : " لا تبكي يا بُني فليس هذا يومُ البكاء " وبعد لحظات من الشوقِ والبكاء , تذكرتُ باقة الزهور البيضاء , تلك الهدية التي حافظتُ عليها طوال الرحلة , تلك الباقة التي حرمتها انجي الجميلة , رفعتُ رأسي من حضن أمي , وحملتُ باقتي فقدمتها لها : أعلم يا أماه كم تحبي الزهور البيضاء " , ولكن أمي رفضت هديتي , وقالت : " لا يا بُنيّ ليس هذا وقتُ التهادي " , انكسر خاطري مجدداً : " هديتي لن تقبليها يا أماه " حدثتُ نفسي بذلك , فتذكرتُ الورقةُ الملونة " ياه لن أستطيع فتحها وقراءة ما تحتويه حتى تقبل أمي هديتي فلا يستحقها غيرها " اسودت في عيني الحياة كلّ شئ اصبح ضدي فما الذي أتى بي إلى هنا , ما قيمة هذه الزهور إذا لم تقبلها أمي , وبقيتْ يدي على وضعيتها تستعطِف أمي , والتي سارعت بقولها : " يا بني سأقبل هديتك ذات يوم " , نظرت إليها والأسى عنواني وقلت : " متى يا أماه تقبليني وتقبلي هديتي " قالت أمي بشموخ لم أرهُ منذ سنينٍ طويلة : " هديتك يا بني سأقبلها منك عندما تموت " , تفاجأتُ من قولها , وقلتُ لها : " هل تتمنين موتي يا أماه " , مسحت على رأسي وقالت : " يا بنيّ هديتي اليوم روحك , وأمنيتي كذلك " , قلتُ لها بقلبٍ كاد يتفطر : " هل موتي يرضيك يا أمي ؟!! " , فأجابتني والدموع بدأت تدغدغ ما تبقى من رموشها : " أجل يا بني , اذهب ولا تعود إلا ميتاً " , فقلت بصوتِ يخنقهُ الانكسار وهولِ الصدمةِ : " ماذا ينفعكِ موتي يا أماه ؟!! " مسحت أمي دمعاتها , وتبسمت ابتسامةٍ مخنوقة وقالت : " فقط مُتْ يا بُني , وستعرف حينها منفعتي " , فهممتُ بالرحيل , ودعتُ أمي وقلتُ لها : " أعدكِ يا أماه إن كان لنا لقاء أن آتيكِ وأنا على فِراشِ الموت " .
ذهبتُ وأقدمتُ على الموت تلبيةً لرغبةِ أمي, بعد أن تحطم كلّ شئٍ في داخلي , فصارعتُ البقاء من أجلِ الفناء , وكان صوتُ أمي يزورني ويقويَّ من شكيمتي لاستقبال الموت , بعتُ الحياة لأجل إرضاءها , فعلت كل شئ حتى أشرفتُ على مغادرةِ الدنيا , وفي اليوم الذي تمددتُ فيه على فِراشِ الموت حملوني إلى أمي , وما إن نظرتها حتى قلت : " جئتُ مُحققاً وعدي يا أماه " , فوقفت عند رأسي باسمةً تقبل جبهتي وهي تقول : " مرحا لك الموت يا بُني " فقاطعتها قائلاً : " هل رضيتي الآن يا أمي ؟ " فتبسمت وهزت لي برأسها وقالت : " ومالي لا أرضى عنك يا بُني " , فحملتُ باقتي البيضاء التي هاجمها الاصفرار أثر الذبولِ , وقلتُ لها : " هل تقبلي الآن هديتي ؟ " , نظرت إليّ وبحر من الدموع قد هاجم مقلتيها وقالت وهي تتناول مني تلك الباقة : " اليومُ فقط أقبل هديتك , ومن الغد يا بني ستكون باقتك أكثر بياضاً " , وما إن استقرت تلك الباقة في ذراعي أمي حتى تذكرتُ الورقة الملونة التي أعطتنيها تلك المنقبة بعد نزولنا من الطائرة , وأن شرطها قد تحقق بقبول صاحبة الزهور لتلك الباقة , فأخرجتُ الورقة من جيبي , وفتحتها , فإذا بها : " حبيبي .. يمكنكَ الآن الاتصال بي , التوقيع حبيبتك انجي ," , فشهقتُ شهقة الموت , وقبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة , سمعتُ أمي تزغرد وتقول : " اليوم يا بني ستسمى بالشهيد ,, وسأسمى أنا بأم الشهيد , بموتك يا بُني وبموتِ اخوتك وأقرانك سيكون ميلادي , أمك يا بني كانت ولا زالت تسمى العراق " .

القصة حملت أبعاداً رمزية عديدة :
1- الأم , وصاحبة الزهور : هي العراق.
2- انجي : هي الحياة بكل شهواتها و مغرياتها .
3- المنقبة : هي الحياة بآلامها وواقعيتها .
4- باقة الزهور البيضاء : هي السلام من المنظور الغربي ( سلام مزيف ) لذا لم تقبله الأم ( العراق ) .
5- باقة الزهور المصفرة : هي السلام الجزئي الناتج عن الجهاد المطالب للحرية ونبذ الاحتلال.
6- الورقة الملونة ( الرسالة ) : هي دعوة للتعلق في الدنيا والتمسك بها .
7- الشرط ( شرط فتح الرسالة ) : اشترطت الفتاة فتح الرسالة بعد أن تستلم الأم باقة الزهور البيضاء أي بعد أن تقتنع العراق بالسلام الأمريكي المزعوم , وهي دعوة لأن يخنع الشاب العراقي لذلك , ويقبل على الحياة رضوخاً للأمر الواقع , ولكن ما حصل في القصة أن الشاب لم يفتح الرسالة إلا بعد أن ذبلت تلك الباقة المزيفة , فتحها بعد أن افتدى بنفسه من أجل العراق , ولم يرضى بذل الواقع المرير .
8- أحلام اليقضة عند بطل القصة: تشكل بعدين الأول : أحلام العرب الغير قابلة للتحقق " كحلمه باصطحاب انجي إلى أمه " , أما البعد الثاني : فيكمن في الموقف العربي تجاه القضايا المعاصرة , فهو موقف غير واضح , كأن يكون رفض غير معلن , أو طاعة جبرية " كحلمه بادراج ذلك صوت الدافئ في ذلك الحلم , خشية أن يفتح عينيه فيفقد حلمه " .
9- الهدف من توحيد شخصية انجي السافرة , والسيدة المنقبة هو إبراز الدنيا بكلتا حالتيها هي نفس الدنيا بها : المغريات والمنغصات , الخير بجانب الشر , الأمل بجانب الألم , السعادة تصارعها التعاسة , الفرح والحزن يتناوبان , و الكرب بجانب الفرج , وتبقى الحياة هكذا تتأرجح بحلوها ومرها
10- تردد السيدة المنقبة عن الجلوس بالقرب من بطل القصة : كما علمنا أن انجي مثلت الحياة بزينتها وأفراحها , بينما السيدة المنقبة مثلت الحياة بآلامها وأحزانها , فجاء هذا التردد بين هاتين الحياتين ( انجي والمنقبة ) كفاصل زمني قبل تحول السعادة إلى تعاسة , والفرح إلى حزن , فجاء التردد وكأنه يشير إلى المشكلات أو المصائب التي من شأنها أن تحول مسار الحياة السعيدة إلى حياة تعيسة .
.
وبعيداً عن السياسة فإن للقصة أبعاداً اجتماعية وتربوية أخرى حتماً لم تخفى عليكم .
وختاماً تقبلوا تحياتي المرسومية
أخوكم :
رسام الغرام