"أحيوا سنته"

    • دور التربية الإسلامية يتمثلُ في تنمية الشعور بحب الوطن عند الإنسان في ما يلي:
      (1) تربية الإنسان على استشعار ما للوطن من أفضالٍ سابقةٍ ولاحقة عليه -بعد فضل الله سبحانه وتعالى- منذ نعومة أظفاره، ومن ثمّ تربيته على رد الجميل، ومجازاة الإحسان بالإحسان، لاسيما أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد إليه كما في قوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
      (2) الحرص على مدّ جسور المحبة والمودة مع أبناء الوطن في أي مكانٍ منه، لإيجاد جوٍ من التآلف والتآخي والتآزر بين أعضائه، الذين يمثلون في مجموعهم جسداً واحداً مُتماسكاً في مواجهة الظروف المختلفة.
      (3) غرس حب الانتماء الإيجابي للوطن، وتوضيح معنى ذلك الحب، وبيان كيفيته المُثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل، وعبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءةً أو مسموعةً أو مرئية.
      (4) العمل على أن تكون حياة الإنسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمةً على أرض الوطن، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلا عندما يُدرك كل فردٍ فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام.
      (5) تربية أبناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومُكتسباته، التي من حق الجميع أن ينعُم بها وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص.
      (5) الإسهام الفاعل والإيجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته، سواءٌ كان ذلك الإسهام قولياً أو عملياً أو فكرياً، وفي أي مجالٍ أو ميدان؛ لأن ذلك واجب الجميع، وهو أمرٌ يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي.
      (6) التصدّي لكل أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة.
      (7) الدفاع عن الوطن عند الحاجة إلى ذلك بالقول أو العمل.
      (8) التعرف على تاريخ الوطن وجغرافيته ورموزه ورجاله

    • (ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَك)؛ رواه الترمذي.ما أروعَها من كلمات!
      كلمات قالها الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميق، وتعلُّق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا.
      ولقد ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الرقية: (باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا)؛ رواه البخاري ومسلم.
      والشفاء في شم المحبوب، ومن ألوان الدواء لقاءُ المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره؛ ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟!
      قال الجاحظ: "كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه".
      إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد.
      قال الغزالي: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".
      إنه يحب وطنه، وهذا من طبيعة الإنسان، فقد فَطَرَه الله على حبِّ الأرض والديار.

      قال الحافظ الذهبي - وهو من العلماء المدقِّقين - مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه".
      إنه يحب مكةَ، ويكره الخروجَ منها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ما خرج من بلده مكة المكرمة، إلا بعد أن لاقى من المشركين أصنافَ العذاب والأذى، فصَبَر؛ لعله يلقى من قومه رقةً واستجابة، وأقام ورحل، وذهب وعاد، يريد من بلده أن يَحتضن دعوتَه، ولكن يريد الله - لحكمة عظيمة - أن يَخرُج، فما كان منه إلا أنْ خرج استجابةً لأمر الله، فدِينُ الله أغلى وأعلى.
    • إنه الحب
      ولكن عندما حانتْ ساعةُ الرَّحيل، فاض القلبُ بكلمات الوداع، وسَكبتِ العينُ دموعَ الحبِّ، وعبَّر اللسانُ عن الحزن.
      أُخرج من وطنه، أَخرجه قومُه؛ كما قال - تعالى -: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]،
      وعندما هاجر إلى المدينة، كان يدعو اللهَ أن يرزقه حبَّها، فمكة وطنه، وحبُّها يملك قلبَه، وهواها فطرة فُطر عليها، كما هو الحال عند الناس؛ لذلك لا يمكن أن يكرهها، وإن أصابه فيها ما أصابه.

      بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ
      وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ

      أما المدينة، فهي بلد جديد استوطنه، وشاء الله أن يكون عاصمةَ دولةِ الإسلام الناشئة؛ لذلك كان يدعو الله أن يحبِّبَها إليه؛ كما في "الصحيحين": (اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ)؛ رواه البخاري ومسلم.
      إنه يدعو الله أن يحبِّب إليه المدينةَ أكثرَ من حبِّه لمكة؛ فحبُّ مكة فطرةٌ؛ لأنها وطنه، أما حبُّ المدينة فمنحةٌ وهِبة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه أن يحبِّبها إليه حبًّا يفوق حبَّه لمكة؛ لما لها من الفضل في احتضان الدعوة، ونشر الرسالة.
      وقد استجاب الله دعاءه، فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظيمًا، وكان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها التي تدلُّ على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: "كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقتَه – أي: أسرع بها - وإن كانت دابة حرَّكَها"، قال أبو عبدالله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: "حركها من حبِّها"؛ أخرجه البخاري.

      ولقد أحبَّ الصحابةُ ديارَهم، ولكنهم آثروا دين الله - عز وجل - فقد أُخرجوا - رضي الله عنهم - من مكة، فهاجَرَ مَن هاجر منهم إلى الحبشة، وهاجروا إلى المدينة، خرجوا حمايةً لدينهم، ورغبةً في نشر دين الإسلام.
      وما أقساه من خروج وما أشدَّه! لذلك وصف الله الصحابةَ الذين أُخرجوا من ديارهم بالمهاجرين، وجعل هذا الوصفَ مدحًا لهم على مدى الأيام، يُعلي قدرَهم، ويبيِّن فضلَهم؛ قال – تعالى -: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
      ولما كان الخروج من الوطن يبعث على كل هذا الحزن، ويُسبِّب كلَّ هذا الألم، قرن الله - عز وجل - حبَّ الأرض في القرآن الكريم بحبِّ النفس؛ قال – تعالى -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66].
      بل قرنه في موضعٍ آخرَ بالدِّين، والدين أغلى من النفس، ومقدَّمٌ عليها لمن يفقه؛ قال – تعالى -: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8].
      وجعل النفيَ والتغريبَ عن الوطن عقوبةً لمن عصى، وأتى من الفواحش ما يَستحق به أن يُعذَّب ويُغرَّب.
    • تجليات الحب:
      والحبُّ للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس؛ بل يتجلَّى في الأقوال والأفعال، وأجمل ما يتجلى به حبُّ الوطن الدعاء.
      الدعاءُ تعبيرٌ صادق عن مكنون الفؤاد، ولا يخالطه كذبٌ، أو مبالغة، أو نفاق؛ لأنه علاقة مباشرة مع الله.

      لقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمدينة، كما في "الصحيحين": (اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلتَ بمكة من البركة)؛ رواه البخاري ومسلم.
      وفي مسلم:
      (اللهم باركْ لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعِنا، وبارك لنا في مُدِّنا، اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلُك ونبيُّك، وإني عبدُك ونبيُّك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه)؛ رواه مسلم.
      وقد حكى الله - سبحانه وتعالى -
      عن نبيِّه إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - أنه دعا لمكة المكرمة بهذا الدعاء، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
      ودعاء إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام
      - يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ لمستقر عبادته، وموطن أهله.
      ولقد دعا لمكة بالأمن والرِّزق، وهما أهم عوامل البقاء، وإذا فُقِد أحدُهما أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة، فتُهجَر الأوطانُ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر الحياة؛ ولهذا نرى أن الله - سبحانه وتعالى - شدَّد في عقوبة مَن يُفسِد على الديارِ أمنَها؛ بل جعل عقوبتَه أشدَّ عقوبةً على الإطلاق؛ قال - تعالى -: {إِ
      نَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، فهل بعد هذه العقوبة من عقوبة؟!
      وقد دعا الإسلامُ إلى فِعل كلِّ ما يُقوِّي الروابطَ والصلات بين أبناء الوطن الواحد، ثم بين أبناء الأُمَّة، ثم بين بني الإنسان.


    • ومما يتجلى فيه حبُّ الأوطان:
      صلة الأرحام، فهم عترة الإنسان وخاصَّتُه، وهم قرابته وأنسه،
      وبهم تطيب الإقامة في الديار؛ لذلك جعل الله صلةَ الأرحام من أعظم القُرُبات، وقطيعتَهم قرينَ الإفساد في الأرض.
      عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خَلَقَ الخلْقَ، حتى إذا فرغ منهم، قامَتِ الرَّحمُ فقالت: ه
      ذا مقامُ العائذ من القطيعة، قال: نعم، أمَا ترضَيْنَ أن أصلَ مَن وصَلَك، وأقطع مَن قطَعَك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ)،
      ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ *
      أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 - 24])).
      وينتقل الإحسانُ إلى دائرة أخرى من الدوائر التي تحيط بالإنسان، وهي دائرة الجوار، وهل تطيب الإقامةُ في الدار إن عدا عليك فيها جارٌ؟
      لذا جعل الإسلام الإحسانَ إلى الجوار مِن كمال الإيمان، كما جعل الإساءة إلى الجوار من أسباب دخول النار؛ عن أبي هريرةَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ).
      وتتَّسع الدائرة لتشمل الإحسان إلى كل مسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّه لنفسه).
      وتتسع الدائرة لتشمل الإحسانَ إلى أهل الأديان الأخرى، وهم شركاؤنا في الوطن، وجاء عن رسول الله - ‏‏صلى الله عليه وسلم - ‏
      أنه ‏قال: (ألا ‏مَن ظَلَمَ ‏ ‏مُعَاهدًا، ‏أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ - فَأَنَا ‏حَجِيجُهُ ‏‏يَوْمَ القِيَامَةِ ).
      وتبلغ دائرة الإحسان مداها، لتشمل الحيوان، والنبات، والحجر، وكلَّ شيء؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كَتَبَ الإحسان على كل شيء)).
      فإذا تحقَّق الترابط بين أبناء الوطن الواحد، كان الجو مهيَّأً للبناء، وأول خطوة في طريق التقدم هو التعليم، فإذا انتشر العلم النافع
      بين أبناء الوطن، وتربَّى النشءُ تربيةً صحيحة، يتحقق أول وأهم مقوِّم من مقومات الحضارة، وهل الحضارة إلا مكوَّن يتركب من الإنسان، والتراب، والزمان؟
      وقد حرص الإسلام على نشر العلم بين أبناء الأمة، فكانت أول آيات القرآن الكريم نزولاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، و
      أول أداة وآلة ذُكِرتْ في القرآن هي القلم، قال – تعالى -: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
      ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وبدأ بتأسيس حضارة إسلامية، بدأ بنشر التعليم بين أبناء المدينة المنورة، فجعل فديةَ مَن يعرف القراءةَ مِن أسارى بدرٍ أن يُعلِّم عشرةً مِن أبناء المسلمين.
      وكان يعلِّم وفود البلاد التي تَقدَم عليه، ويأمرُهم بالرجوع إلى بلادهم؛ حتى يعلِّموا مَن خلفهم؛ عن مالك بن الحويرث قال:
      قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة، فأقمنا عنده نحوًا من عشرين ليلةً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا،
      فقال لنا : ((لو رجَعتُم إلى بلدكم فعلَّمتموهم - أو قال: أمرتموهم - صلوا صلاة كذا وكذا، في حين كذا وكذا، فإذا حضرَتِ الصلاةُ، فليؤذِّن لكم أحدُكم، وليؤمكم أكبرُكم)).
    • قيام الليل هو قضاء الليل أو جزء منه ولو ساعة في الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله .

      صلاة الليل هي:

      ما يُصلى بين العشاء والفجر وتدخل ضمن صلاة التطوع ..
      قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين
      ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم فيشكون إليه أحوالهم ويسألونه من فضله
      فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها تتنسم من تلك النفحات وتقتبس من أنوار تلك القربات وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات


      قيام الليل في القرآن

      قال تعالى: ** تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16].
      قال مجاهد والحسن: يعني قيام الليل.
      وقال ابن كثير في تفسيره:
      ( يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة ).
      وقد ذكر الله عز وجل المتهجدين فقال عنهم:
      **كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18،17]
      قال الحسن: كابدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.
      وقال تعالى: **أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
      وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
      وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
      أي: هل يستوي من هذه صفته مع من نام ليله
      غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده.


      قيام الليل في السنة

      حث النبي على قيام الليل ورغّب فيه فقال عليه الصلاة والسلام:
      **عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم،
      ومطردة للداء عن الجسد }
      [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].

      وقال النبي في شأن عبد الله بن عمر:
      ** نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل }
      [متفق عليه].

      وقال : ** من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين،
      ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين }
      [رواه أبو داود وصححه الألباني].
      والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر.
      وذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال:
      ** ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه !! }
      [متفق عليه].
      وقال : ** أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل }
      [رواه مسلم]


      قيام النبي صلى الله عليه وسلم

      أمر الله تعالى نبيه بقيام الليل في قوله تعالى:
      ** يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
      (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }
      [المزمل: 1-4].
      وقال سبحانه: ** وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِنَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
      [الإسراء: 79].

      وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ** كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
      فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
      قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ }
      [متفق عليه].
      وهذا يدل على أن الشكر لا يكون باللسان فحسب، وإنما يكون بالقلب واللسان والجوارح،
      فقد قام النبي بحق العبودية لله على وجهها الأكمل وصورتها الأتم،
      مع ما كان عليه من نشر العقيدة الإسلامية، وتعليم المسلمين،
      والجهاد في سبيل الله، والقيام بحقوق الأهل والذرية
      فكان كما قال ابن رواحة:
      وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
      أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقناتٌ أن ما قال واقع يبيت
      يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
    • من اجمل ما قرأت

      فرعون حين قال : " أنا ربكم الأعلى " .. كيف كان رد الله سبحانه !؟

      قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون "

      " إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" ..

      قال أحد الصالحين وهو يسمع هذه الأية :

      سبحانك يا رب إذا كان هذا هو عطفك بفرعون الذي قال : " أنا ربكم الأعلى " ..

      فكيف يكون عطفك بـ عبد قال : "سبحانك ربي الأعلى " !!

      وإذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال : " ما علمت لكم من إله غيري " ..

      فكيف يكون عطفك بعبدٍ قال : " لا إله إلا الله " !!

      اللهم إنك عفوٌّ تُحب العفوَ فاعفُ عنا ..
    • تربة الوطن
      وأما تربة الأرض، فهي المقوم الثاني من مقومات الحضارة، وتربة الأرض تشمل سطحَها،
      وتشمل ما في باطنها، فهي تعني زراعتَها، واستثمار ما في جوفها من خيرات.
      وقد عُنِيَ الإسلامُ بزراعة الأرض أيَّما عناية؛ لأنها مصدر قُوتِ الإنسان، وهي ضمان لاستقلاله وقوَّته، وأيما أمة لا تَزرع أرضَها، و
      لا تَملك قُوتَها، أمةٌ لا تملك قرارَها، ولا حرِّيتَها، ولا سيادتها؛ لذلك نظَّم الإسلام امتلاكَ الأرض، ووضع أحكامًا تُعنى بالحفاظ على هذا المقوِّم من مقومات الحضارة والتقدم.
      وأكتفي بهذه الإشارة التي تُفهم من هذا الحديث؛ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلاَّ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ)).
      وحب الوطن الذي لا يعارض الشرع يعني الإتقان، الإتقان في كل الأعمال، في التعليم، وفي الزراعة، وفي الصناعة، الإتقان في أمر الدنيا وأمر الآخرة، فكل منتَج في بلاد المسلمين يجب أن يحمل علامةَ الجودة الفائقة.
      عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - تعالى - يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)).

      ولكن الأمر في الواقع على خلاف هذا القول!
      وحب الوطن يعني: الحفاظ على الحق العام، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس شركاءُ في أمورٍ، لا يجوز لأحد الاستئثارُ بها، أو الاعتداء عليها.
      قال - صلى الله عليه وسلم -(الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار))؛ رواه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات.
      وقال: ((وإماطة الأذى عن الطرق صدقة)).
      وقال: ((أعطوا الطريق حقه)).
      وقال: ((اتَّقوا اللاعِنَينِ؛ الذي يتخلَّى في طريق الناس أو ظلِّهم)).

    • حب الوطن في الإسلام
      حب الوطن في الإسلام: هو محبة الفرد لوطنه وبلده، وتقوية الرابطة بين أبناء الوطن الواحد، وقيامه بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام، ووفاؤه بها.
      وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: العصبيةَ، التي يُراد بها تقسيمُ الأمة إلى طوائفَ متناحرةٍ، متباغضة، متنافرة، يَكِيد بعضها لبعض، وفي الحديث: ((مَن قُتل تحت راية عُمِّيَّة، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلتُه جاهليةٌ)).
      حب الوطن في الإسلام: لا يعني: اتِّباعَ القومِ أنَّى ساروا، ونصرَهم على كل حال؛ بل يعني: العدلَ والإنصاف
      .
      وعن عبَّاد بن كثير الشامي، عن امرأةٍ منهم يقال لها: فسيلة، قالت سمعت أبي يقول: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أمِنَ العصبيةِ أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يُعِينَ الرجلُ قومَه على الظلم))؛ رواه أحمد وابن ماجه.
      وحب الوطن في الإسلام: لا يعني: الانفصال عن جسد الأمة الإسلامية، أو نسيان مبدأ الإنسانية، فلا ننصر مظلومًا، ولا نغيث ملهوفًا، ولا نعين مكروبًا، ما دام أنه ليس في حدود الوطن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ متفق عليه.
      إن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء؛ بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى.
    • فَأَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي بَلَدٍ عَدَدْتُ ذَاكَ الحِمَى مِنْ صُلْبِ أَوْطَانِي
      إن المسلم يحب وطنه، ويعمل كل خير لبلده، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه.
      وإن المسلم يعمل للأمة، ويحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، ويدافع عنها، ويسعى لوحدتها.
      وإن المسلم يقدِّم الأقرب فالأقرب، ولا ينسى من هو بعيد.
      وكل مسلم على ثغر، فلْيحذر أن يُؤتى وطنُه، أو تؤتى أُمتُه مِن قِبَله.
      بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي
      اللهم احفظ بلاد المسلمين آمنة مطمئنة، والحمد لله رب العالمين.
    • حنين الإنسان إلى بلده
      ومن حنين الإنسان إلى بلده، أنه إذا غاب عنها وقدم عليه شخص منها سأله عنها، يتلمس أخبارها، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
      يسأل أُصيل الغفاري عن مكة لما قدم عليه المدينة، فقد أخرج الأزرقي في "أخبار مكة" عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري
      قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أصيل! كيف عهدت مكة؟
      قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيتضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟)
      قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، فقال: (حسبك يا أصيل لا تحزنا).
      وأخرجه باختصار أبو الفتح الأزدي في كتابه "المخزون في علم الحديث"، وابن ماكولا في "الإكمال"، و
      فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها).
      وهذا كليم الله موسى عليه السلام حنّ إلى وطنه بعد أن خرج منها مجبراً قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن
      جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). (القصص : 29 ).
      قال ابن العربي في "أحكام القرآن":
      "قال علماؤنا لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة".
      وحب الوطن يجعل الإنسان يدفع عنه العدو إذا هاجمه أو أخرجه العدو منه، والله سبحانه يحكي عن المؤمنين فيقول الله تعالى:
      (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا). (البقرة : 246 ).
    • ومما أنشده رفيق بن جابر وهو من شعراء الأندلس في تنبيه الغير من الكلام في أوطان من ينزل عندهم، وأنهم لا يقبلون في أوطانهم قدحاً:
      لا تعاد الناس في أوطانهم
      قلَّما يُرعى غريب الوطن

      فبهذه الآيات والأحاديث والآثار؛ يُعلم أن منها أن "حب الوطن" أمراً طبيعياً ومشرعاً أيضاً.
      ويؤكد مشروعيته ما أخرجه البخاري أن بلالاً قال:
      "اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كمَا أخْرَجُونَا مِنْ أرْضِنَا إلَى أرْضِ الوَباءِ".
      قال ابن حجر في "الفتح":
      " وقوله: "كما أخرجونا" أي: أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا".
      فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على بلال ذلك، بل دعا الله أن يحبب إليهم المدينة فقال صلى الله عليه وسلم: (أللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدُّ).
      وكان بلال ينشد ويقول:
      ألاَ لَيْتَ شَعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً
      بِوَادٍ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلٌ
      وهَلْ أرِدَنْ يَوْما مِياهَ مَجَنَّةٍ
      وهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وطَفِيلُ

      ومما يدل على مشروعية حب الوطن كما قرره الأئمة الأعلام على ما أخرجه البخاري، وأحمد وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
      أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها" قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: "حركها من حبها".
      وقوله: "أوضع نافته": يقال: وضع البعير، أي: أسرع في مشيه، و أوضعه راكبه، أي: حمله على السير السريع.
      قال ابن حجر في "الفتح"، والعيني في"عمد القارئ:
      "وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
      قال القارئ في قوله:
      (حركها من حبها)؛ أي" حرك دابته بسبب حب المدينة، وهذا التعليق وصله الإمام أحمد".
      وفي الحديث عند أحمد بسند صحيح عن علي رضي الله عنه قال: "لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعك وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر .."
      قال ابن عبد البر في "الاستذكار":
      "وفيه بيان ما عليه أكثر الناس من حنينهم إلى أوطانهم وتلهفهم على فراق بلدانهم التي كان مولدهم بها ومنشأهم فيها".
      "فاجتويناها": أي؛ أصابنا الجوى، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها.
      "يتخبر": أي؛ يتعرف، إذا سأل عن الأخبار ليعرفها.
      ومما جاء عن السلف وحنينهم إلى أوطانهم، ما أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، أن إبراهيم بن أدهم قال: "ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد علي من مفارقة الأوطان".
      وقال ابن بطوطة: "…فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته ... مع ما شاقني من تذكر الأوطان، والحنين للأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان".
      وأنشد:
      بلاد بها نيطت علي تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها
      وقال الارفعي القزويني في "أخبار قزوين":
      ولو لا نزوع النفس إلى مسقط الرأس ودائرة الميلاد لم ينزل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) وقد صدق ابن الرومي حيث قال:
      وحبب أوطان الرجال إليهم مأرب قضاها الفؤاد هنالكا
      إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبي فيها فحنوا لذالكا

      وجاءت أشعار السلف في التعبير عن حبهم لأوطانهم، وشغفهم وحنينهم إليها تترا، فهذا أبو بكر العلاف أنشد يقول:
      كما تُؤلف الأرض التي لم يكن بها هواء ولا ماء سوى انها وطن
      وأنشد علي بن محمد التنوخي:
      ما كنت أول مشتاق إلى وطن بكى وحن إلى أحبابه وصبا
      وأنشد أبو الفرج محمد بن عبد الواحد الدارمي البغدادي:
      ولي وطن لا يرى مثله يقر بذلك لي من عرف

      وذكر أبو الطيب الوشاء قال أنشدت لموسى بن عبد الملك وكان حاجاً فلما قفل وصار بالثعلبية قال:
      أيقنت لي وطن أحب بجمع شمل واتفاق
      وهذه ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد زوج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنشأت تقول وقد حنت إلى وطنها:
      خشونة عيشتي في البدو أشهى إلى نفسي من العيش الطريف
      فما أبغي سوى وطني بديلا فحسبي ذاك من وطن شريف

      وفي الختام، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا جميعاً لما فيه الخير والسداد، والهداية والرشاد، والحمد لله رب العباد.
      ونسأله سبحانه أن يحفظ عمان آمنة مستقرة أرضا وقائدا وشعبا
      آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآمين
    • أنواع الجهاد
      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

      ذكر ابن القيم في الزاد وابن حجر في الفتح أنواع الجهاد فذكروا أنه
      يطلق على مجاهدة النفس والشيطان والفساق والكفار.

      فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها والصبر
      على ذلك، وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، و
      أما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد
      ثم اللسان ثم القلب، ومن إطلاق الجهاد على الدعوة قوله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
      {الفرقان:52}، ومن إطلاقه على الدعوة والقتال قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {التوبة:73}.

      قال ابن القيم في الزاد: وأمره الله تعالى بالجهاد من حيث بعثه، وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا* فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا. فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحجة، والبيان، وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين، إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. انتهى.
      وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الكفار ويقاتلهم كما كان يدعو المؤمنين
      ويذكرهم فكل ذلك من هديه الذي يتعين على المسلم متابعته فيه، وقد ثبت عنه صلى ا
      لله عليه وسلم عرض الإسلام والدعاء إليه قبل القتال كما بوب عليه الهيثمي في المجمع
      وأورد فيه الحديث عن ابن عباس قال
      : ما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم.
      وقال في تخريجه
      : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد ورجال
      أحدها رجال الصحيح، وقال الأرناؤوط في تحقيق حديث المسند: صحيح.

      وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أمر سراياه بدعوة الكفار قبل القتال، فقد روى
      مسلم في الصحيح من حديث بريدة قال
      : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً
      على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً،
      ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا
      ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو
      خلال فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم.....

      وقد صرح أهل العلم بحمل الآية المسؤول عنها على أنواع الجهاد، وقد حملها بعضهم
      إلى الدعوة والعبادة وحملها بعضهم على العلم والعمل، وحملها بعضهم على القتال،
      ولا تعارض بين شيء من ذلك لأن الجميع من أنواع الجهاد
      ،
      وإليك بيان كلام أهل التفسير في الآية التي سألت عنها:

      قال القرطبي في تفسيرها: قوله تعالى: والذين جاهدوا فينا أي جاهدوا الكفار فينا،
      أي في طلب مرضاتنا، وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال، وقال
      ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
      قال الحسن ابن أبي الحسن: الآية في العباد. وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم:
      هي في الذي يعملون بما يعلمون. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في
      الآية قتال الكافر فقط بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين،
      وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وقال
      سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين
      وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: لنهدينهم. وقال عبد الله بن عباس: والذين
      جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
      وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال.

      وقال البغوي في تفسيره: والذين جاهدوا فينا، الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا.
      قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله
      قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات،
      قال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى.
      وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا
      في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في
      إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.

      وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، أخبرنا عباس
      الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.
      قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري:
      فحدثت به أبا سليمان الداراني، فأعجبه. وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً بسنده عن أصبغ
      قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن اسلم في قول الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا قيل له. قاتلوا فينا قال: نعم.

      وروى بسنده عن الربيع في قوله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا. قال:
      ليس على الأرض عبد أطاع ربه ودعا إليه ونهى عنه إلا وأنه قد جاهد في الله.

      بهذا يعلم أنه لا مانع من إيراد الأدلة الواردة في الجهاد عند الحض على الدعوة
      لأنها من الجهاد وقد ذكر النووي عند شرح حديث مسلم: لا يكلم أحد في سبيل الله
      والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة
      وجرحه يثعب اللون لون دم والريح ريح مسك.

      نقل النووي في شرحه كلام أهل العلم فقال: قوله صلى الله عليه وسلم (والله أعلم بمن يكلم في سبيله)
      هذا تنبيه على الإخلاص في الغزو وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن
      أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قالوا: وهذا الفضل وإن كان
      ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال البغاة
      وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. والله أعلم.

      وأورد الإمام البخاري في باب المشي إلى الجمعة حديث: من اغبرت قدماه في سبيل
      الله حرمه الله على النار
      . وذكر أن الصحابي استدل به على ذلك، فقال: حدثنا علي بن
      عبد الله قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا يزيد بن أبي مريم قال: حدثنا عباية بن
      رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي صلى الله عيله وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار.

      قال ابن حجر في الفتح: أورده هنا لعموم قوله في سبيل الله فدخلت فيه الجمعة
      ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك
      . وأورده كذلك في باب الجهاد، وراجع كلام ابن القيم في الزاد عن أنواع الجهاد.

      والله أعلم.
    • الجهاد كلمة شاملة تعني لغوياً الجد والمبالغة وبذل الوسع والمجهود والطاقة
      كما في قوله تعالى:

      (والذين لا يجدون إلاّ جهدهم). وتعني دينياً تحقيق الإيمان
      الحقيقي وما يتمخّض عنه، ومقارعة كل ما يبغضه الله من كفر وانحلال وفسوق، ومن ثم
      قال ابن تيمية: "الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل
      الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان" (كتاب العبودية، ص104).
      وقد وردت كلمة الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة،، ومما ورد في القرآن الكريم
      من استخدام لكلمة (جهاد) قوله تعال: (لكن الرسول والذين آمنوا معه
      جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون
      )
      التوبة88

      وقوله: (يا أيها النبي
      جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبئس المصير)
      التوبة72،
      وقوله:

      (فلا تطع الكافرين وجاهدهم جهاداً
      كبيراً
      )
      الفرقان: 52.

      أهميّة الجهاد في منهج
      نبي الرحمة والمحبة والسلام:
      إن الجهاد في معنى القتال هو أحد المسالك التي سنها
      النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله تعالى من أجل أن يعم السلام وينتشر الخير
      ويدفع تسلط الطواغيت والظلمة والكافرين، إنقاذاً للمظلومين، وتحقيق لحرية الناس
      وحقهم في العيش في امن وسلام، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بجهاد الكفار
      والمنافقين بوقله: (يا أيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ
      عليهم ومأواهم جهنهم وبئس المصير
      )، وقوله تعالى: (فقاتلوا
      أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهُم لعلهم ينتهون
      ) التوبة: 12

      كما أمرنا أن نعد
      العدة من أجل ردع الظالمين وإرهابهم حتى لا يروّعوا الآمنين، فقال تعالى:
      (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله
      وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)
      الأنفال60

      كما ربط الله تعالى
      بين القتال وبين ذكر الله تعالى، فقال عز وجل: (يا أيّها الذين
      آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون
      ) الأنفال45، وحرّم الله استدبار العدو الكافر
      بقوله:

      (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين
      كفروا زحفاً فلا تولُّوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو
      متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواهُ جهنم وبئس المصير
      ). الأنفال: 15-16داعياً إلى بذل الغالي
      والنفيس من أجل تحقيق السلم الذي يأتي من خلال انتشار معاني حب الله والجهاد في
      سبيله، وإلى تفضيل ذلك على الآباء والأبناء والأموال والعشيرة على الدنيا الفانية
      والشهوات والهوى، فقال عز من قائل:

      (قُل
      إن كان آباؤكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتموها
      وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
      فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين
      ) التوبة 24.

      وقد وهب الله سبحانه
      المجاهدين درجات عليا وجزى المستشهدين في سبيله جزاءً أوفى قائلاً بمنح الجنة
      للمجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم: (إنّ
      الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة
      ) التوبة111 ، ومبشراً الشهداء بأنهم
      أحياءٌ عند ربهم يرزقون: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
      أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون
      ) آل عمران 169

      (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون)
      البقرة
      154 ، كل هذا ليس رغبة في القتال من أجل
      القتال، وليس رغبة في سفك الدماء، ولكنه دفع للعدوان حينما تنتفي الدوافع والمسالك
      السلمية لتحقيق السلم، وأن يكون الدين لله. ولذلك فإن الله تعالى يشدد على المؤمنين
      بأن يكون جهادهم على وعي تام بمبادئه وغاياته، فلا قتال لمن أراد السلم، قال تعالى:
      (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة
      الدنيا
      ) النساء94، وقال
      تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الأنفال61، كما أن المنهج النبوي يؤكد
      عدم العدوان بقوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا
      إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا
      ) النساء
      90 ، لأن القتال يكون لمن بدأ بالعدوان ومن أجل
      إنهاء العدوان فقط، قال تعالى: (فقاتلوا في سبيل الله الذين
      يقاتلونكم
      ) وقال سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم
      يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم
      ) الممتحنة: 8.

      لماذا جاهد رسول الله
      صلى الله عليه وسلم؟

      كما سبق القول فإن
      الإسلام دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه لم يفرض الجهاد رغبة في السيطرة
      والتوسع، أو كسباً للمنافع الدنيوية، أو إرغاماً للناس على تركهم عقائدهم السابقة
      والدخول في الدين الجديد، أو حبّاً في إظهار القوة والتفوق الحربي، وإنما شُرع
      دفعاً للظلم، ومقاومة للباطل ومقارعة للكفر، ونشراً للعدل والحرية والسلام عن طريق
      كسر الأطواق المضروبة حولها، وتحقيقاً لأهداف الدعوة إلى الله، ودفاعاً عن الأعراض
      والأوطان والأموال.
      والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه ما قاتل إلا
      لتحقيق السلم ونشر العدل وبناء الأخوة بين الناس من خلال رد العدوان وكسر طوق
      الظالمين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أُخرجوا من ديارهم بغير حق، فأمرهم
      الله تعالى بقتال من يعتدي عليهم، وبإخراج من يحاول إخراجهم من ديارهم وأراضيهم،
      (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) البقرة190، ولكن في إطار العدل والسلم كمسلك وغاية، فقال تعالى:
      (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا
      يحبّ المعتدين
      البقرة: 190.
      كما أن الجهاد شُرع
      لفتح الطريق أمام الفضيلة والخير والعدل والسلم إذا وقف أهل الباطل في طريق السلام
      العالمي، ومن أجل أن تتحقق الحرية والأمن والسلام للمستضعفين في الأرض، قال تعالى:
      (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنساء
      والولدان، الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلُها وأجعلْ لنا من
      لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا
      ) [النساء:
      75
      ].



      وبما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء رحمة للناس كافة، كما قال
      تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر
      الناس لا يعلمون
      ). [سبأ: 28]، وأرسل دينه رحمةً
      لجميع مخلوقاته، وهذه هي بعض دوافع شرع الجهاد، وهي واضحة في أنها مسلك لتحقيق
      السلم وفتح الآفاق أمام الناس حتى لا تكون هناك فتنة أو سفك للدماء بغير وجه
      حق.

      فجعل الله محمدا ً صلى الله عليه وسلم بحق رجل المحبة
      والرحمة والسلام.

      جزاه الله عنا خير جزاء
      لنبى عن أمته


    • [TABLE='width: 98%']
      [TR]
      [TD]عاشوراء .. يوم عظيـم من أيام الله
      [/TD]
      [/TR]
      [TR]
      [TD][/TD]
      [/TR]
      [TR]
      [TD][/TD]
      [/TR]
      [TR]
      [TD]
      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آل بيته وصحبه أجمعين وبعد :

      أربع مسائل تتعلق بصيام يوم عاشوراء

      [أولها] مسألة فضل صوم يوم عاشوراء
      [وثانيها] هل يكفر صوم يوم عاشوراء الكبائر ؟!!
      [وثالثها]مسألة استحباب صوم يوم التاسع مع صوم عاشوراء
      [ورابعها] مسألة هل يكره إفراد صوم عاشوراء ، أي صومه دون يوم قبله ويوم بعده


      [أولها] مسألة فضل صوم يوم عاشوراء


      [1] فأما يوم عاشوراء فإنه [ من أيام الله ] [ يوم عظيم. أنجى الله فيه موسى وقومه. وغرق فرعون وقومه.] أما صيام يوم عاشوراء
      فإنه يكفر السنة الماضية لقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم [ صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية و مستقبلة و صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ] رواه مسلم وغيره

      ## لكن صومه مستحب غير واجب فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه و من شاء تركه ] رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما

      ## أما كون يوم عاشوراء [ من أيام الله ] [ يوم عظيم. أنجى الله فيه موسى وقومه. وغرق فرعون وقومه.] فلما ثبت في صحيح الإمام مسلم وغيره :
      [[ عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. فوجد اليهود صياما، يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : 'ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ ' فقالوا: هذا يوم عظيم. أنجى الله فيه موسى وقومه. وغرق فرعون وقومه. فصامه موسى شكرا. فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'فنحن أحق وأولى بموسى منكم' فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بصيامه ]]

      ## ولعظم هذا اليوم فقد بوب البخاري في صحيحه : باب: [ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ،
      حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ] وبوب البخاري رحمه الله أيضا
      في صحيحه باب: قوله: [ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى.
      فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ، وأضل فرعون قومه وما هدى ] وقال تعالى [ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]


      [/TD]
      [/TR]
      [/TABLE]
    • [2] وأما السؤال هل يكفر صوم يوم عاشوراء الكبائر
      ؟!!

      فجوابه أن الصلاة وصيام رمضان أعظم من صيام عاشوراء ومع هذا قال رسول
      الله صلى الله عليه وسلم : [ الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان
      مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ] رواه مسلم والترمذي

      ## قال شيخ
      الإسلام ابن تيمية رحمه الله : [ وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة
      وعاشوراء للصغائر فقط وكذا الحج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه ] الكبرى م4ص 428
      والاختيارات ص 65

      ## قال النووي رحمه الله [ يُكَفِّرُ ( صيام يوم عرفة )
      كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ , وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا
      الْكَبَائِرَ . ] أما الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة.

      فأوصي إخواني بالتوبة
      والندم قبل أن تبلغ الروحُ الحلقومَ ف [الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له
      ]

      [[]] وثمة ما يبلغ المرء شفاعة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام فإنه
      قال [ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] وقال [ ليخرجن قوم من أمتي من النار بشفاعتي
      يسمون الجهنميين ] بل إن [ المقام المحمود الشفاعة] [ يخرج قوم من النار بشفاعة
      محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة و يسمون الجهنميين ] رواه
      البخاري

      وقد علم رسول الله صلى لله عليه وسلم أمته بعض أبواب الخير التي
      تبلغهم شفاعته عليه السلام

      فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :[ أسعد الناس
      بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا مخلصا من قلبه ]رواه البخاري
      وقوله [ من صلى على حين يصبح عشرا و حين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة ]
      وقوله [ من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت
      محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم
      القيامة ] رواه البخاري وأصحاب السنن

    • [3] وأما استحباب صوم يوم التاسع مع صوم عاشوراء

      فدليلها قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع
      ]رواه مسلم م2ص798 برقم1134 ك الصيام ورواه غيره

      قال الحافظ ابن القيم في
      تهذيب سنن أبي داوود : [ يصام يوم قبله أو يوم بعده ] م3ص324 قال ابن حجر :" ولأحمد
      من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا : [صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يوما
      قبله أو يوما بعده ] ، وهذا كان في آخر الأمر ... وهذا الحديث أورده الحافظ مرفوعا
      وسكت عنه في الفتح وفي تلخيص الحبير وأورده ابن القيم مرفوعا أيضا وسكت عنه في
      الزاد رحمهما الله ؛ لكن قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار : " رواية أحمد هذه
      ضعيفة منكرة من طريق داوود بن علي عن أبيه عن جده ، رواها عنه ابن أبي ليلى . "
      ورجح الإمام الألباني رحمه الله أيضا ضعف هذه الرواية وأوردها في ضعيف الجامع الصغير .
    • [4] وأما إفْرَادُ يوم عاشوراء بالصوم دون صوم التاسع والحادي
      عشر فلا حرج فيه

      ## قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله : [ صِيَامُ
      يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ ... ]
      الاختيارات ص10

      ## وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة
      الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله : [ يجوز صيام يوم عاشوراء يوماً واحداً فقط ،
      لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده ، وهي السُنَّة الثابتة عن النبي صلى الله
      عليه وسلم بقوله : ' لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ' قال ابن عباس رضي الله
      عنهما: ( يعني مع العاشر)وبالله التوفيق . المصدر : فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث
      العلمية والإفتاء م10ص401

      وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
      أجمعين
    • الصدقة فضائلها وأنواعها


      الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله
      وصحبه أجمعين وبعد:


      قال الله تعالى آمراً نبيه : قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ
      يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن
      قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
      [إبراهيم:31]. ويقول جل وعلا:
      وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... [البقرة:195]. وقال سبحانه: يَا
      أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم
      [البقرة:254]. وقال سبحانه: يَا
      أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
      [البقرة:267]. وقال
      سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
      وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
      الْمُفْلِحُونَ
      [التغابن:16].


      ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : { ما منكم من أحدٍ إلا
      سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر
      أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا
      النار ولو بشق تمرة }
      [في الصحيحين]. والمتأمل للنصوص التي جاءت آمرة
      بالصدقة مرغبة فيها يدرك ما للصدقة من الفضل الذي قد لا يصل إلى مثله غيرها من
      الأعمال، حتى قال عمر رضي الله عنه: ( ذكر لي أن الأعمال تباهي، فتقول الصدقة: أنا
      أفضلكم ) [صحيح الترغيب].

    • فضائل وفوائد الصدقة


      أولاً: أنها تطفىء غضب الله سبحانه وتعالى كما في قوله : { إن صدقة السر تطفىء غضب الرب تبارك وتعالى }
      [صحيح الترغيب].


      ثانياً: أنها تمحو الخطيئة، وتذهب نارها كما في قوله : { والصدقة تطفىء الخطيئة كما تطفىء الماء النار } [صحيح الترغيب].

      ثالثاً: أنها وقاية من النار كما في قوله : { فاتقوا النار، ولو بشق تمرة }.

      رابعاً: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة كما في حديث عقبة بن عامر
      قال: سمعت رسول الله
      يقول: { كل امرىء في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس }. قال يزيد: ( فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو
      كعكة أو بصلة )، قد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا
      ظله: { رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما
      تنفق يمينه }
      [في الصحيحين].


      خامساً: أن في الصدقة دواء للأمراض البدنية كما في قوله : { داووا مرضاكم بالصدقة }. يقول ابن شقيق: (
      سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها
      بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فأحفر بئراً في مكان حاجة
      إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ ) [صحيح
      الترغيب].


      سادساً: إن فيها دواء للأمراض القلبية كما في قوله لمن شكى إليه قسوة قلبه: { إذا إردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم } [رواه أحمد].

      سابعاً: أن الله يدفع بالصدقة أنواعاً من البلاء كما في وصية يحيى عليه
      السلام لبني إسرائيل: ( وآمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك رجل أسره العدو فأوثقوا يده
      إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه
      منهم ) [صحيح الجامع] فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من
      فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر فإن الله تعالى يدفع بها أنواعاً من البلاء، وهذا أمر
      معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه.


      ثامناً: أن العبد إنما يصل حقيقة البر بالصدقة كما جاء في قوله تعالى:
      لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
      [آل عمران:92].


      تاسعاً: أن المنفق يدعو له الملك كل يوم بخلاف الممسك وفي ذلك يقول : { ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما:
      اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً }
      [في
      الصحيحين].


      عاشراً: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: { ما نقصت صدقة من مال } [في صحيح مسلم].
    • الحادي عشر: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به كما في قوله
      تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة:272]. ولما سأل النبي عائشة رضي
      الله عنها عن الشاة التي ذبحوها ما بقى منها: قالت: ما بقى منها إلا كتفها. قال:
      { بقي كلها غير كتفها } [في صحيح مسلم].


      الثاني عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره كما في قوله عز وجل:
      إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
      يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
      [الحديد:18]. وقوله سبحانه:
      مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً
      كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
      [البقرة:245].


      الثالث عشر: أن صاحبها يدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب
      الصدقة كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: {
      من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة يا عبد الله، هذا خير: فمن كان من أهل
      الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من
      أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان
      }
      قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من
      ضرورة فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها: قال: { نعم
      وأرجو أن تكون منهم }
      [في الصحيحين].


      الرابع عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض
      في يوم واحد إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: { من أصبح منكم اليوم صائماً؟ } قال أبو بكر:
      أنا. قال: { فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ }
      قال أبو بكر: أنا. قال: { فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟
      }
      قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله : { ما
      اجتمعت في امرىء إلا دخل الجنة }
      [رواه مسلم].


      الخامس عشر: أن فيها انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته، فإن النبي
      ضرب مثل
      البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما فأما
      المنفق فلا ينفق إلا اتسعت أو فرت على جلده حتى يخفى أثره، وأما البخيل فلا يريد أن
      ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع [في الصحيحين] ( فالمتصدق
      كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة
      عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في
      الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقياً بالاستكثار منها والمبادرة
      إليها وقد قال تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ
      فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ
      [الحشر:9].


      السادس عشر: أنَّ المنفق إذا كان من العلماء فهو بأفضل المنازل عند الله
      كما في قوله :
      { إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً
      وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل..
      }
      الحديث.


      السابع عشر: أنَّ النبَّي جعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به،
      وذلك في قوله :
      { لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم
      به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار
      }
      ، فكيف إذا وفق الله عبده إلى الجمع بين ذلك كله؟ نسأل الله الكريم
      من فضله.


      الثامن عشر: أنَّ العبد موفٍ بالعهد الذي بينه وبين الله ومتممٌ للصفقة
      التي عقدها معه متى ما بذل نفسه وماله في سبيل الله يشير إلى ذلك قوله جل وعلا:
      إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
      بِأَنَ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ
      وَيُقتَلُونَ وَعداً عَلَيْهِ حَقّاً فِى التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرءَانِ
      وَمَنْ أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِرُواْ بِبَيعِكُمُ الَّذِى بَايَعتُم
      بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ
      [التوبة:111].


      التاسع عشر: أنَّ الصدقة دليلٌ على صدق العبد وإيمانه كما في قوله : { والصدقة برهان } [رواه مسلم].

      العشرون: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء
      اللغو، والحلف، والكذب، والغفلة فقد كان النَّبي يوصي التَّجار بقوله: { يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه
      بالصدقة }
      [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، صحيح الجامع].

    • أفضل الصدقات


      الأول: الصدقة الخفية؛ لأنَّها أقرب إلى الإخلاص من المعلنة وفي ذلك يقول
      جل وعلا: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا
      وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ
      [البقرة:271]، ( فأخبر أنَّ إعطاءها
      للفقير في خفية خيرٌ للمنفق من إظهلرها وإعلانها، وتأمَّل تقييده تعالى الإخفاء
      بإتيان الفقراء خاصة ولم يقل: وإن تخفوها فهو خيرٌ لكم، فإنَّ من الصدقة ما لا يمكن
      إخفاؤه كتجهيز جيشٍ، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك، وأمَّا إيتاؤها الفقراء
      ففي إخفائها من الفوائد، والستر عليه، وعدم تخجيله بين النَّاس وإقامته مقام
      الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنَّه لا شيء له، فيزهدون في
      معاملته ومعاوضته، وهذا قدرٌ زائدٌ من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص،
      وعدم المراءاة، وطلبهم المحمدة من الناس. وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إظهارها بين
      الناس، ومن هذا مدح النبي صدقة السَّر، وأثنى على فاعلها، وأخبر أنَّه أحد
      السبعة الذين هم في ظلِّ عرش الرحمن يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيراً للمنفق
      وأخبر أنَّه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته [طريق الهجرتين].


      الثانية: الصدقةُ في حال الصحة والقوة أفضل من الوصية بعد الموت أو حال
      المرض والاحتضار كما في قوله : { أفضل الصدقة أن
      تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم
      قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا }
      [في الصحيحين].


      الثالثة: الصدقة التي تكون بعد أداء الواجب كما في قوله عز وجل:
      وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ
      [البقرة:219]، وقوله : { لا صدقة إلا عن ظهر غنى... }، وفي رواية:
      { وخير الصدقة ظهر غنى } [كلا الروايتين
      في البخاري].

    • الرابعة: بذل الإنسان ما يستطيعه ويطيقه مع القلة والحاجة؛ لقوله : { أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول }
      [رواه أبو داود]، وقال : { سبق درهم مائة ألف
      درهم }
      ، قالوا: وكيف؟! قال: { كان لرجل
      درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها
      }
      [رواه النسائي، صحيح الجامع]، قال البغوي رحمه الله: ( والإختيار
      للرجل أن يتصدق بالفضل من ماله، ويستبقي لنفسه قوتاً لما يخاف عليه من فتنة الفقر،
      وربما يلحقه الندم على ما فعل، فيبطل به أجره، ويبقى كلاً على الناس، ولم ينكر
      النبي على أبي
      بكر خروجه من ماله أجمع، لَّما علم من قوة يقينه وصحة توكله، فلم يخف عليه الفتنة،
      كما خافها على غيره، أما من تصدق وأهله محتاجون إليه أو عليه دين فليس له ذلك،
      وأداء الدين والإنفاق على الأهل أولى، إلا أن يكون معروفاً بالصبر، فيؤثر على نفسه
      ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، فأثنى الله عليهم
      بقوله وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
      [الحشر:9]
      وهي الحاجة والفقر [شرح السنة].


      الخامسة: الإنفاق على الأولاد كما في قوله : {
      الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة }
      [في
      الصحيحين]، وقوله : { أربعة دنانير: دينار
      أعطيته مسكيناً، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار
      أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك }
      [رواه
      مسلم].


      السادسة: الصدقة على القريب، كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً،
      وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها
      طيِّبٍ. قال أنس: ( فلما أنزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ البِر حَتَّى
      تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
      [آل عمران:92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إنَّ
      الله يقول في كتابه لَن تَنَالُواْ البِرَّ حَتَّى
      تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
      وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها
      وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله : { بخ
      بخ مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيها، إني أرى أن تجعلها في الأقربين
      }
      . فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني
      عمه [في الصحيحين].


      وقال :
      { الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان
      صدقة وصلة }
      [رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة]، وأخصُّ
      الأقارب - بعد من تلزمه نفقتهم - اثنان:


      الأول: اليتيم؛ لقوله جلَّ وعلا: فَلا اقتَحَمَ العَقَبَةَ (11) وَمَا
      أدرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَو إِطعَامٌ فِى يَومٍ ذي
      مَسغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقرَبَةٍ (15) أَو مِسكِيناً ذَا مَتْرَبةَ

      [البلد:11-16]. والمسغبة: الجوع والشِّدة.


      الثاني: القريب الذي يضمر العداوة ويخفيها؛ فقد قال : { أفضل
      الصدقة على ذي الرحم الكاشح }
      [رواه أحمد وأبو داود والترمذي صحيح
      الجامع].

    • السابعة: الصَّدقة على الجار؛ فقد أوصى به الله سبحانه وتعالى بقوله:
      وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ [النساء:36] وأوصى النبي أبا ذر بقوله:
      { وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، واغرف لجيرانك منها
      }
      [رواه مسلم].


      الثامنة: الصدقة على الصاحب والصديق في سبيل الله؛ لقوله : { أفضل الدنانير: دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه
      الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل
      }
      [رواه مسلم].


      التاسعة: النفقة في الجهاد في سبيل الله سواء كان جهاداً للكفار أو
      المنافقين، فإنه من أعظم ما بُذلت فيه الأموال؛ فإن الله أمر بذلك في غير ما موضع
      من كتابه، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في أكثر الآيات ومن ذلك قوله
      سبحانه: انفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْبِأَموَالِكُمْ
      وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

      [التوبة:41]، وقال سبحانه مبيناً صفات المؤمنين الكُمَّل الذين وصفهم بالصدق
      إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَم
      يَرتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
      أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
      [الحجرات:15]، وأثنى سبحانه وتعالى على رسوله وأصحابه رضوان الله
      عليهم بذلك في قوله: لَكِنَ الرَّسُولُ وَالذَّينَ
      آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ
      الخَيرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ
      تَجْرِى مِن تَحتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوزُ العَظِيمُ

      [التوبة:89،88]، ويقول عليه الصلاة والسلام: { أفضل
      الصدقات ظلُّ فسطاطٍ في سبيل الله عز وجل أو منحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل
      في سبيل الله }
      [رواه أحمد والترمذي، صحيح الجامع]، وقال : { من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا } [في
      الصحيحين]، ولكن ليُعلم أن أفضل الصدقة في الجهاد في سبيل الله ما كان في وقت
      الحاجة والقلة في المسلمين كما هو في وقتنا هذا، أمَّا ما كان في وقت كفاية وانتصار
      للمسلمين فلا شك أن في ذلك خيراً ولكن لا يعدل الأجر في الحالة الأولى:
      وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
      السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ
      وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ
      وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
      خَبِيرٌ (10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
      وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
      [الحديد:11،10]. ( إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة،
      والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة، ولا سلطان، ولا رخاء غير الذي ينفق، ويقاتل،
      والعقيدة آمنة، والأنصار كثرةٌ والنصر والغلبة والفوز قريبة المنازل، ذلك متعلق
      مباشرةً لله متجردٌ تجرداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده،
      بعيدٌ عن كل سبب ظاهر، وكل واقع قريب لا يجد على الخير أعواناً إلا ما يستمده
      مباشرةً من عقيدته، وهذا له على الخير أنصارٌ حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد
      الأوليين ) [في ظلال القرآن].


      العاشرة: الصدقة الجارية: وهي ما يبقى بعد موت العبد، ويستمر أجره عليه؛
      لقوله : { إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو
      علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له }
      [رواه مسلم].


    • وإليك بعضاً من مجالات الصدقة الجارية التي جاء النص بها:

      مجالات الصدقة الجارية

      1 - سقي الماء وحفر الآبار؛ لقولة : { أفضل الصدقة سقي
      الماء }
      [رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة:صحيح الجامع].


      2 - إطعام الطعام؛ فإن النبي لما سُئل: أي الإسلام خير؟ قال: { تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف
      }
      [في الصحيحين].


      3 - بناء المساجد؛ لقوله : { من بنى مسجداً يبتغي
      به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة }
      [في الصحيحين]، وعن جابر
      أن رسول الله قال:
      { من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس
      ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله
      له بيتاً في الجنة }
      [صحيح الترغيب].


      4 - الإنفاق على نشر العلم، وتوزيع المصاحف، وبناء البيوت لابن السبيل، ومن كان
      في حكمه كاليتيم والأرملة ونحوهما، فعن أبي هريرة قال: قال : { إن
      مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه،
      أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو
      صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته }
      [رواه ابن
      ماجة:صحيح الترغيب].


      ولتعلم أخي أن الإنفاق في بعض الأوقات أفضل منه في غيرها كالإنفاق في رمضان، كما
      قال ابن عباس رضي الله عنه: ( كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه
      جبريل وكان بلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير
      من الريح المرسلة ) [في الصحيحين]، وكذلك الصدقة في أيام العشر من ذي الحجة، فإن النبي قال:
      { ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه
      الأيام }
      يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل
      الله؟ قال: { ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج
      بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك شيء }
      [رواه البخاري]، وقد علمت أن
      الصدقة من أفضل الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله.


      ومن الأوقات الفاضلة يوم أن يكون الناس في شدة وحاجة ماسة وفقر بيّن كما في قوله
      سبحانه: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ
      (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
      [البلد:11-14].


      فمن نعمة الله عز وجل على العبد أن يكون ذا مال وجدة، ومن تمام نعمته عليه فيه
      أن يكون عوناً له على طاعة الله { فنعم المال الصالح
      للمرء الصالح }
      [رواه البخاري].


      وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    • الـــرِّضــــا


      تعريفه:

      عرف العلماء الرضا تعريفات متعددة، وكل واحد
      تكلم على حسب مشربه ومقامه،وأهمها ما قاله السيد في تعريفاته: "الرضاء: سرور القلب
      بمُرِّ القضاء" ['تعريفات السيد' ص57].

      وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى:
      "الرضا: تلقي المهالك بوجه ضاحك، أو سرور يجده القلب عند حلول القضاء، أو ترك
      الاختيار على الله فيما دبر وأمضى، أو شرح الصدر ورفع الإِنكار لما يرد من الواحد
      القهار" ['معراج التشوف' ص8].

      وقال العلامة البركوي رحمه الله تعالى:
      "الرضا: طيب النفس بما يصيبه ويفوته مع عدم التغير" ['شرح الطريقة المحمدية'
      للنابلسي ج2. ص105].

      وقال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "الرضا:
      نظر القلب إلى قديم اختيار الله تعالى للعبد، وهو ترك التسخط" ['الرسالة القشيرية'
      ص89].

      وقال المحاسبي رحمه الله تعالى: "الرضا: سكون القلب تحت مجاري
      الأحكام" ['الرسالة القشيرية' ص89].

      فالرضا مقام قلبي، إذا تحقق به المؤمن
      استطاع أن يَتلقَّى نوائب الدهر وأنواع الكوارث بإيمان راسخ، ونفس مطمئنة، وقلب
      ساكن، بل قد يترقى إلى أرفع من ذلك فيشعر بالسرور والفرحة بمر القضاء، وذلك نتيجة
      ما تحقق به من المعرفة بالله تعالى، والحبِّ الصادق له سبحانه.
    • فضله:

      هو أسمى مقاماً وأرفع رتبة من الصبر، إذ
      هو السلام الروحي الذي يصل بالعارف إلى حب كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى، حتى
      أقدار الحياة ومصائبها، يراها خيراً ورحمة، ويتأملها بعين الرضا فضلاً
      وبركة.

      كان بلال رضي الله عنه يعاني سكرات الموت وهو يقول: "وافرحتاه! غداً
      ألقى الأحبة، محمداً وصحبه" ['السيرة النبوية' لأحمد زيني دحلان. ص242].

      وقد
      بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراضي بقضاء الله هو أغنى الناس لأنه أعظمهم
      سروراً واطمئناناً، وأبعدهم عن الهم والحزن والسخط والضجر، إذ ليس الغنى بكثرة
      المال إنما هو بغنى القلب بالإيمان والرضا، قال عليه الصلاة والسلام: (اتق المحارم
      تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً،
      وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)
      [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث
      غريب].

      وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرضا سبب عظيم من أسباب سعادة
      المؤمن الدنيوية والأخروية، كما أن السخط سبب الشقاء في الدنيا والآخرة فقال: (من
      سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى،
      ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له) [أخرجه الترمذي في كتاب القدر عن
      سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقال: حديث غريب].

    • ولقد كانت نعمة الرضا من العوامل في تلك السكينة التي شملت قلوب العارفين، ومن أقوى
      الأسباب في محق نوازع اليأس التي يوجدها التفكير في عدم الحصول على حظوظ الحياة
      وملذاتها ؛ مما يجلب لصاحبه القلق والحيرة والاضطراب.

      ولقد كان من هديه صلى
      الله عليه وسلم أن يُعلّم أصحابه ويغرس في قلوبهم الرضا بالله تعالى رباً،
      وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وكان يندبهم لتكرارها
      فيقول: (من قال إذا أصبح وأمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً،
      كان حقاً على الله أن يرضيه)[رواه أبو داود في باب ما يقول إذا أصبح عن أنس بن مالك
      رضي الله عنه ورواه الترمذي في كتاب الدعوات]، فكانوا يحرصون على تكرارها صباحاً
      ومساءً، يُعرِبون بذلك عما تُكنُّه قلوبهم من نعيم الرضا بالله والتسليم
      له.

      وما أكثر من يكرر هذا القول بلسانه، وهو غير مطمئن القلب به، ولا متذوق
      لمعانيه السامية، ولا متحقق بمقاصده العالية، خصوصاً حين تزدحم عليه المصائب،
      وتداهمه الخطوب، وتتكاثف على قلبه ظلمات الهموم والأكدار، أو عندما يدعى إلى حكم من
      أحكام الشرع يخالف هواه ويعارض مصالحه الخاصة.

      لهذا نرى أن ترْدادَه باللسان
      فحسب لا يفيد صاحبه إذا لم ينبع من قلبه. حيث إن من لوازم الرضا بالله تعالى رباً ؛
      الرضا بكل أفعاله في شؤون خلقه ؛ من إعطاءٍ ومنع وخفض ورفع، وضر ونفع، ووصل
      وقطع.

    • ومن لوازم الرضا بالإِسلام ديناً أن يتمسك بأوامره ويبتعد عن نواهيه، ويستسلم
      لأحكامه ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسه، ومعارضة لمصالحه الخاصة.

      ومن
      لوازم الرضا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن يتخذ شخصيته مثلاً
      أعلى وأسوة حسنة، فيتبع هديه، ويقتفي أثره، ويتحلى بسنته، ويجاهد هواه حتى يكون
      تبعاً لما جاء به، وحتى يكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين، كما دعا
      إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده
      والناس أجمعين" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب حب الرسول من الإيمان
      عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما].

      وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال
      للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنتَ يا رسول الله أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي
      فقال: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن
      والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن ياعمر"
      [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي صلى الله
      عليه وسلم ج8. ص160، ورواه أحمد في المسند ج4/233].

    • فمن تحلى بالرضا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد نبياً ورسولاً،
      ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة اليقين، ونال السعادة الأبدية، قال عليه الصلاة
      والسلام: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد
      نبياً" [رواه مسلم والترمذي في كتاب الإيمان عن العباس بن عبد المطلب رضي الله
      عنه].

      أما من حُرم لذة الإيمان ونعيم الرضا، فهو في قلق واضطراب، وتضجر
      وعذاب، وخصوصاً حين يحل به بلاء، أو تنزل به مصيبة، فتسودُّ الحياة في عينيه، وتظلم
      الدنيا في وجهه، وتضيق به الأرض على رحبها، ويأتيه الشيطان ليوسوس له، أن لا خلاص
      من همومه وأحزانه إلا بالانتحار. وكم نسمع عن حوادث الانتحار، تزداد نسبتها،
      ويتفاقم خطرها وخصوصاً في البلاد الكافرة الملحدة، وفي المجتمعات المارقة التي
      انحسر عنها ظل الإِسلام، وخبا فيها نور الإِيمان، وهم الذين عناهم الله تعالى
      بقوله: {ومَنْ أعرضَ عن ذِكري فإنَّ لهُ معيشةً ضَنْكاً . ونحشُرُهُ يومَ القيامةِ
      أعمى} [طه: 124].