كثيرة هي المؤشرات التي تدل على اهتمام الإدارة والأجهزة الأمريكية بالقضية الكردية في العراق ومحاولة توظيفها في تنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الكبير" . ومنذ مطلع خمسينات القرن الماضي توالت التقارير حول تغلغل الموساد الإسرائيلي في كردستان العراق . ولقد جاء سيمور هيرش ، بمقالته في صحيفة "نيويوركر" الأمريكية بتفاصيل وافية ، استناداً لمصادر معلومات أمريكية وألمانية وإسرائيلية عن تطور التغلغل الاستخباراتي والسياسي والعسكري الاسرائيلي ، واتخاذ كردستان العراق مركزاً للتأثير في أكراد سوريا وإيران والتجسس على البلدين ، وليس ممكناً الطعن بشهادة هيرش إذ هو باحث مشهود له بدقة مصادره ، فضلا عن أنه يهودي متعاطف مع إسرائيل .
ومنذ احتلال العراق والقادة الأكراد يمارسون أدوارا في مجريات الأمور على مختلف الأصعدة تتجاوز كثيرا ما تؤهلهم له إمكانياتهم الذاتية ونسبة الأكراد في المجتمع العراقي . وما كان ذلك ليكون لولا شعور كل من سلطة الاحتلال والقيادات الكردية الضالعة معها بأهمية الدور الكردي في تنفيذ المخطط الأمريكي – الصهيوني ، ليس في العراق المحتل فقط ، وإنما أيضا في محيطه العربي والإسلامي . وما كانت القيادات الكردية لتغالي بمطالبها بفرض الفيدرالية بالشروط الكردية ، وتمارس عملية طرد العرب والتركمان من كركوك ، لولا أنها واثقة من أهميتها عند صناع القرار الأمريكي والصهيوني على السواء .
وكان طبيعياً والحال كذلك أن يكثر في أوساط المعلقين السياسيين العرب والأجانب الحديث عن احتمالات أن تقيم الإدارة الأمريكية "إسرائيل" جديدة في كردستان العراق ، واحتمال توظيف القضية الكردية بمثل ما وظفت به المسألة الصهيونية ، برغم التمايز الكيفي بين الحقوق الكردية المشروعة وغير المرفوضة عربيا وبين الادعاءات الصهيونية غير المشروعة والمرفوضة من الأمة العربية جملة وتفصيلا . بل وان يسخر الأكراد في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في وسط آسيا الإسلامي كما الصهاينة مسخرون في خدمة هذه الاستراتيجية في الوطن العربي .
والأسئلة المحورية التي تفرضها الظاهرة الكردية الراهنة : هل من الممكن أن تغدو كردستان العراق "إسرائيل" الثانية ، وأن يلعب الأكراد دورا مماثلا لدور الصهاينة في المنطقة ؟ أم أن تمايز الظروف الموضوعية لكردستان والذاتية للأكراد عنها بالنسبة لفلسطين المحتلة والتجمع الاستيطاني الصهيوني فيها ، يجعل تحقيق الأمرين مستحيلا عمليا ؟ وهل إن كلا من النخب السياسية القائدة والفكرية والإعلامية المؤثرة ، العربية والكردية على السواء ، وفي العراق على وجه الخصوص ، تدرك حقائق الواقع الكردي المتميز كيفيا عن الواقع الصهيوني ، وقادرة على التعاطي مع القضية الكردية في ضوء ذلك ، لتحول دون التداعيات الخطرة التي تلوح نذرها في الأفق ؟ أم أن مثل هذا الطموح أمنية رغائبية صعبة التحقق في واقع من ابرز معالم أزمته المستعصية تخلف النخب الأشد تأثيرا في صناعة القرار وعجزها عن توظيف الإمكانيات المتوفرة لدى الأمة العربية في تقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الإمبريالي – الصهيوني ؟
وأول ما ألاحظه في محاولة الاجتهاد بالإجابة عن الأسئلة الأربعة وجود تشابه كبير في الدور الاستعماري بابراز كل من الحركة الصهيونية والقضية الكردية ، كما في العلاقة فيما بين صناع القرار البريطاني أولا والأمريكي تاليا بكل من القادة الصهاينة والأكراد . والثابت أن علاقة بريطانيا بالزعامات القبلية الكردية تعود للربع الأول من القرن التاسع عشر ، بتدخلها في نزاع العثمانيين مع الامارتين الكرديتين الصورانية والبابانية . إلا أنه حتى نهاية العهد العثماني اتسمت علاقات العرب والأكراد في العراق خاصة بقدر كبير من الإيجابية ، وليس في تاريخ الجماعتين أي اثر لصراع عرقي أو قومي . كما يقرر ذلك جلال الطالباني في كتابه "كردستان والحركة القومية الكردية" ، الصادر في بيروت عن دار الطليعة – وهي دار معروفة صلتها الوثيقة بحزب البعث العربي الاشتراكي - مما يدل على انعدام الموقف القومي العربي المعادي للحقوق السياسة والمدنية المشروعة للأكراد في العراق وخارجه .
وكان العراق قد شهد في السنوات الآخيرة من العهد العثماني البدايات الاولى لتبلور الوعي القومي العربي . في حين أن دعوة النخب الكردية التي برزت يومذاك في اسطنبول والقاهرة لم يكن لها صدى بين أكراد العراق . ولم يبرز الوعي الكردي على الذات ، ويتخذ شكل الحركة السياسية ، إلا بعد الاحتلال البريطاني سنة 1917 . وقد كان للإنجليز دورهم في إبراز وتغذية " الذاتية الكردية " . فالمذكرة المقدمة من سلطة الانتداب البريطاني لعصبة الأمم ، عندما ناقشت العصبة قضية الموصل سنة 1924 ، افاضت بشرح ما قامت به بريطانيا في سبيل تطوير اللغة الكردية ، والتشجيع على استخدامها ، وإنها اعتمدت في الألوية التي يشكل فيها الأكراد نسبة عالية بين سكانها أن يتم التقاضي أمام المحاكم بالكردية ، وليس بالعربية اللغة الرسمية الأولى . وصار متبعا أنه حين ترفع القضايا لمحكمة التمييز في بغداد أن ترفق بها ترجمة بالعربية . كما تشير المذكرة لتزايد عدد الموظفيين من أصل كردي في تلك الأقضية ، واتجاه نية الحكومة البريطانية إلي انقاص عدد الموظفين غير الأكراد فيها .
ولتحصل بريطانيا على المشروعية الدولية لمخططها في إبراز "الذاتية الكردية" في العراق استغلت قضية الموصل في الحصول من مجلس " عصبة الأمم " في 29/11/1924 على قرار تضمن ما نصه : " تدعى الحكومة البريطانية ، بصفتها الدولة المنتدبة ، لأن تعرض على المجلس التدابير التي ستتخذ من أجل أن تؤمن للأكراد من أهالي العراق التعهدات المتعلقة بالإدارة المحلية ، التي أوصت بها لجنة التحقيق في استنتاجها الأخير .." والنص لا يختلف كثيراً عما تضمنه صك الانتداب على فلسطين بالتزام بريطانيا إقامة " الوطن القومي " اليهودي ، غير أن بريطانيا أوفت بالتزامها للصهاينة ولم تف بما أوصت به عصبة الأمم للأكراد .
وكانت بريطانيا حين احتدم الصراع حول الموصل قد استغلت الأكراد بأن لوحت لكل من العرب والأتراك باحتمال إقامة دولة كردية . وتحت التهديد بفصل لواء الموصل أقرت الحكومة العراقية والمجلس التشريعي معاهدة 1922 ، والمعاهدة المعدلة لها سنة 1924 وملحقاتها ، واتفاقية النفط التي كانت قد حصلت عليها بريطانيا من الحكومة التركية قبل الحرب ، وذلك برغم المعارضة الشعبية للمعاهدتين والاتفاقية . وفي مناقشة المجلس التشريعي معاهدة 1924 أيدها 37 نائباً ، بينهم النواب الأكراد من الوية السليمانية وأربيل وكركوك وبعض أقضية لواء الموصل ، وعارضها 25 نائباً عربياً ، واستنكف 8 نواب بينهم كرديان .
ولقد اعتادت الحكومات والأجهزة البريطانية ، وكذلك الأمريكية ، التعامل مع الزعامات الكردية بكيفية متمايزة نوعياً عن تعاملها مع القادة الصهاينة . إذ كانت تجزل للأكراد الوعود وبعد أن ينتهي غرضها منهم تتجاهل وعودها . وفي تجربة الشيخ محمود البرزنجي وتعاطي بريطانيا معه ما بين 1917 – 1930 مثال تاريخي لممارسات الزعامات الكردية والموقف الاستعماري منها .
وكان البرزنجي قد برز في السليمانية عشية الحرب العالمية الأولى كزعيم أول في منطقته ، بانتسابه لرجل صالح من أصول عربية كان قد أقام بين الأكراد وحظى بقدسية لديهم . وحين أخلى الجيش التركي كركوك دفع قائده احسان باشا الذهب للبرزنجي لينظم حرب عصابات خلف خطوط الإنجليز . وعندما أعلنت الهدنة طلب احسان باشا من قائد الفوج التركي في المنطقة تسليم السلطة للبرزنجي ليحكم باسم تركيا . ولكن الشيخ محمود عقد صفقة مع الانجليز سلمهم بموجبها ضباط وجنود الفوج التركي لقاء تعيينه حاكماً للسليمانية يعاونه مستشاران انجليزيان : سياسي وعسكري . وبعد أن تعزز الموقف البريطاني بانسحاب الاتراك عين ضابط بريطاني حاكماً سياسياً للسليمانية ، وقلصت تدريجياً سلطات البرزنجي ، فقام بأول تمرد كردي في ربيع 1919 ، ولكنه سرعان ما اعتقل ونفي إلي الهند . ثم اعيد ليتمرد ثانية ، وثالثة . وفي كل مرة تزامن انتهاء تمرده مع توقيع حكومة العراق إحدى الاتفاقيات التي كانت تريدها بريطانيا . وفي سنة 1930 سويت أمور البرزنجي المالية ورحِّل واسرته عن العراق .
ولم تخرج حالات التمرد الكردي التي توالت من بعد ترحيل البرزنجي عن السياق ذاته ، حتى إنتهاء آخر تمرد قاده الشيخ مصطفي البرزاني سنة 1975 بالمصالحة التي تمت فيما بين صدام حسين وشاه ايران بواسطة الجزائر . وفيما نشر مؤخراً من أن المخابرات المركزية الأمريكية تبرئ صدام والجيش العراقي من جريمة حلبجة ، وتلقي بتهمة استخدام الكيماوي على إيران ، مؤشر على التوجه لتوظيف مأساة المدينة الكردية في الضغوط الأمريكية – الإسرائيلية المتزايدة على إيران . كما أن في ذلك ما يوحي ببداية نهاية شهر عسل الزعامات الكردية العراقية .
وأن يتكرر الأمر قرابة خمسة وثمانين عاماً ففي ذلك الدلالة القاطعة على صحة القول بالتمايز الكيفي فيما بين الظروف الموضوعية لكردستان والذاتية للأكراد عنها بالنسبة لفلسطين المحتلة والصهاينة ، وهي تمايزات تقع في تقديري على المحاور التالية :
1 - على محور الجغرافيا السياسية : إذ تتميز فلسطين بموقع استراتيجي باحتلالها الجسر الواصل ، الفاصل ، ما بين جناحي الوطن العربي . وبإقامة التجمع الإستيطاني الصهيوني فيها تعطلت احتمالات الوحدة العربية ، وكبحت فعالية مصر التاريخية . وتواصل بالنتيجة واقع التجزئة والتخلف والتبعية العربي ، الامر الذي لا يزال يخدم مصالح القوى الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني .
وبالمقابل تقع كردستان العراق على تماس مع مثلث : عربي ، إيراني ، تركي ، بين أطرافه الثلاث تمايزات قومية ، تسببت في حروب دامية فيما بينها . وبدلاً من أن تكون اقامة الدولة الكردية عامل فرقة ونزاع في محيطها الإقليمي ، كما هي الحال مع اسرائيل ، فإنها سوف تؤدي لتراجع حدة التناقضات فيما بين الاطراف العربية والإيرانية والتركية تحسباً من الخطر الكردي المدعوم إسرائيلياً وامريكياً على وحدة ترابها الوطني . وليس في مصلحة الطرفين دفع الأمور بهذا الاتجاه .
2- على محور الديموغرافيا : الغالبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة من النهر إلي البحر لا تربطهم صلة تاريخية بفلسطين ، وإنما هم مجلوبون من مختلف نواحي الأرض . ولأنهم مزروعون في غير موطنهم التاريخي ، وغرباء عن المحيط العربي الذي يعادونه ويعاديهم ، يظلون في حاجة دائمة للحليف الاستراتيجي الدولي الذي لا يملكون ترف التمرد على إرادته . ومنذ تواجد الصهاينة على تراب فلسطين في الربع الأخير للقرن التاسع عشر لم تبرز بين صفوفهم حركة سياسية ، ذات حضور وفعالية جماهيرية ، تناقضت مصالحها تناقضاً عدائياً مع القوة الاستعمارية الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني
أما الأكراد فهم في مناطق تواجدهم مواطنون اصلاء ، وشركاء مسيرة ومصير لمواطنيهم العرب والإيرانيين والترك ، ولطالما شاركوهم في التصدي للغزاة الأجانب . ولأنهم ليسوا دخلاء على المنطقة فإن عمقهم الاستراتيجي ممتد فيها . الأمر الذي يحول دون اجماعهم على موقف معاد لشعوبها ، إذ تغلب عند قطاعات غير يسيرة منهم مشاعرهم الاسلامية ، وحتى انتماءاتهم الوطنية ، على نوازعهم العرقية . وليس في تاريخ العراق الحديث ما يدل على أن اياً من حركات التمرد الكردية استقطبت اجماعاً كردياً ، وإنما كان لكل منها من يعارضها ويقف في الصف المعادي لتواطئها مع العدو الخارجي .
3 - على محور التناقضات مع شعب العراق والأمة العربية : برغم كل ما حفلت به سنوات ما بعد توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد سنة 1979 ، وتوالي مسلسل " عملية السلام " والتنازلات عن الحقوق الوطنية والقومية المشروعة . برغم ذلك كله لا يزال الصراع العربي الصهيوني محكوما بكونه صراع وجود ولا وجود مع استعمار استيطاني المعركة معه " مباراة صفرية " ، لا يمكن أن يكسبها إلا طرف واحد ، وتستحيل فيه التسوية بالتنازلات المتبادلة . والواقع الحي في فلسطين شاهد على ذلك ولشعب العراق مواقفه التاريخية في التصدي للهجمة الصهيونية .
وليس من شك أن من حق الشعب الكردي أن يطمح لتحقيق وحدته القومية ، غير أن الذي يحول دون ذلك ليست الأمة العربية وطموحها الوحدوي ، وإنما هو الواقع الجغرافي – السياسي والظروف الدولية . وعليه يغدو المطلب الواقعي والمتوافق مع الظروف الحاكمة للمسألة الكردية إنما هو التمتع بالحكم الذاتي حيث يشكلون أكثرية بين السكان ، وممارسة كافة الحقوق السياسية والمدنية والدينية ، والتعبير الثقافي عن الذات . وكلها مطالب مشروعة وذات صلة باشاعة الديمقراطية التي تناضل في سبيلها القوى الوطنية والقومية العربية . وليس من قومي عربي مدرك حقائق التجربة القومية وملتزم بالفكر القومي كما انتهى عند المؤتمر القومي العربي إلا وهو مناصر لتمتع الاخوة الاكراد بكامل حقوقهم الديمقراطية كمواطنين ، والتحفظ الوحيد إنما هو على انتهاج سياسات ومواقف تهدد وحدة التراب الوطني وتخدم المخططات الاستعمارية والصهيونية ، مثلهم في ذلك مثل بقية المواطنين العرب . وعلى ذلك فالتناقضات مع الاكراد المطالبين بحقوقهم الديمقراطية المشروعة تناقضات ثانوية لا تحتم الصدام . والتفاعل الايجابي معهم ممكن وميسور ، وقد شهدنا حالة مماثلة له مع الرئيس عبدالناصر الذي كان في غاية الايجابية تجاه المطالب الكردية عندما استقبل جلال الطالباني سنة 1964، بل واجاز ان يخصص "صوت العرب" برنامجا كرديا متبنيا مطالبهم الوطنية المشروعة .
4 – على محور الثقافة والقيم وانماط السلوك : من أبرز عوامل تاييد الرأي العام الاوروبي والامريكي للمشروع الصهيوني كونه يتوافق مع الثقافة الشائعة ، فضلا عن أنه يجسد التناقض التاريخي مع العروبة والاسلام . وعلى العكس من ذلك تماما لقد عاش الاكراد ولا زالوا في العراق وسوريا في الفضاء الثقافي العربي الاسلامي . وهم وإن كانوا يتمايزون بانتاسبهم السلالي ، إلا أنهم في الجانب الثقافي من حياتهم ، حيث وجدوا في الوطن العربي ، أنما هم عرب لغة وثقافة وانماط سلوك . ولا يقل عداء غالبيتهم الساحقة لمحاولات تشويه الثقافة والقيم العربية الاسلامية عن عداء المؤمنين بالعروبة والاسلام .
لكل ذلك متفاعلا تظل احتمالات فشل المحاولات الساعية الى نزع كردستان من فضائها الثقافي وتحويلها قسرا الى صورة شوهاء من المشروع الصهيوني محاولات في تضاد مع حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا ، غير أنه ما لم تصل النخب القومية العربية لصياغة الاستراتيجية المؤهلة لتقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الامبريالي – الصهيوني تظل مخاطر التغلغل الاسرائيلي في كردستان العراق وتعامل الزعامات الكردية مع الصهاينة تهدد أمن العراق واستقراره ، وأمن واستقرار جواره العربي والاسلامي . حتى وإن كان مستحيلا أن تقوم في كردستان العراق "اسرائيل ثانية ، وان يسخر الشعب الكردي الشقيق في اداء دور مماثل للدور الصهيوني .
ومنذ احتلال العراق والقادة الأكراد يمارسون أدوارا في مجريات الأمور على مختلف الأصعدة تتجاوز كثيرا ما تؤهلهم له إمكانياتهم الذاتية ونسبة الأكراد في المجتمع العراقي . وما كان ذلك ليكون لولا شعور كل من سلطة الاحتلال والقيادات الكردية الضالعة معها بأهمية الدور الكردي في تنفيذ المخطط الأمريكي – الصهيوني ، ليس في العراق المحتل فقط ، وإنما أيضا في محيطه العربي والإسلامي . وما كانت القيادات الكردية لتغالي بمطالبها بفرض الفيدرالية بالشروط الكردية ، وتمارس عملية طرد العرب والتركمان من كركوك ، لولا أنها واثقة من أهميتها عند صناع القرار الأمريكي والصهيوني على السواء .
وكان طبيعياً والحال كذلك أن يكثر في أوساط المعلقين السياسيين العرب والأجانب الحديث عن احتمالات أن تقيم الإدارة الأمريكية "إسرائيل" جديدة في كردستان العراق ، واحتمال توظيف القضية الكردية بمثل ما وظفت به المسألة الصهيونية ، برغم التمايز الكيفي بين الحقوق الكردية المشروعة وغير المرفوضة عربيا وبين الادعاءات الصهيونية غير المشروعة والمرفوضة من الأمة العربية جملة وتفصيلا . بل وان يسخر الأكراد في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في وسط آسيا الإسلامي كما الصهاينة مسخرون في خدمة هذه الاستراتيجية في الوطن العربي .
والأسئلة المحورية التي تفرضها الظاهرة الكردية الراهنة : هل من الممكن أن تغدو كردستان العراق "إسرائيل" الثانية ، وأن يلعب الأكراد دورا مماثلا لدور الصهاينة في المنطقة ؟ أم أن تمايز الظروف الموضوعية لكردستان والذاتية للأكراد عنها بالنسبة لفلسطين المحتلة والتجمع الاستيطاني الصهيوني فيها ، يجعل تحقيق الأمرين مستحيلا عمليا ؟ وهل إن كلا من النخب السياسية القائدة والفكرية والإعلامية المؤثرة ، العربية والكردية على السواء ، وفي العراق على وجه الخصوص ، تدرك حقائق الواقع الكردي المتميز كيفيا عن الواقع الصهيوني ، وقادرة على التعاطي مع القضية الكردية في ضوء ذلك ، لتحول دون التداعيات الخطرة التي تلوح نذرها في الأفق ؟ أم أن مثل هذا الطموح أمنية رغائبية صعبة التحقق في واقع من ابرز معالم أزمته المستعصية تخلف النخب الأشد تأثيرا في صناعة القرار وعجزها عن توظيف الإمكانيات المتوفرة لدى الأمة العربية في تقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الإمبريالي – الصهيوني ؟
وأول ما ألاحظه في محاولة الاجتهاد بالإجابة عن الأسئلة الأربعة وجود تشابه كبير في الدور الاستعماري بابراز كل من الحركة الصهيونية والقضية الكردية ، كما في العلاقة فيما بين صناع القرار البريطاني أولا والأمريكي تاليا بكل من القادة الصهاينة والأكراد . والثابت أن علاقة بريطانيا بالزعامات القبلية الكردية تعود للربع الأول من القرن التاسع عشر ، بتدخلها في نزاع العثمانيين مع الامارتين الكرديتين الصورانية والبابانية . إلا أنه حتى نهاية العهد العثماني اتسمت علاقات العرب والأكراد في العراق خاصة بقدر كبير من الإيجابية ، وليس في تاريخ الجماعتين أي اثر لصراع عرقي أو قومي . كما يقرر ذلك جلال الطالباني في كتابه "كردستان والحركة القومية الكردية" ، الصادر في بيروت عن دار الطليعة – وهي دار معروفة صلتها الوثيقة بحزب البعث العربي الاشتراكي - مما يدل على انعدام الموقف القومي العربي المعادي للحقوق السياسة والمدنية المشروعة للأكراد في العراق وخارجه .
وكان العراق قد شهد في السنوات الآخيرة من العهد العثماني البدايات الاولى لتبلور الوعي القومي العربي . في حين أن دعوة النخب الكردية التي برزت يومذاك في اسطنبول والقاهرة لم يكن لها صدى بين أكراد العراق . ولم يبرز الوعي الكردي على الذات ، ويتخذ شكل الحركة السياسية ، إلا بعد الاحتلال البريطاني سنة 1917 . وقد كان للإنجليز دورهم في إبراز وتغذية " الذاتية الكردية " . فالمذكرة المقدمة من سلطة الانتداب البريطاني لعصبة الأمم ، عندما ناقشت العصبة قضية الموصل سنة 1924 ، افاضت بشرح ما قامت به بريطانيا في سبيل تطوير اللغة الكردية ، والتشجيع على استخدامها ، وإنها اعتمدت في الألوية التي يشكل فيها الأكراد نسبة عالية بين سكانها أن يتم التقاضي أمام المحاكم بالكردية ، وليس بالعربية اللغة الرسمية الأولى . وصار متبعا أنه حين ترفع القضايا لمحكمة التمييز في بغداد أن ترفق بها ترجمة بالعربية . كما تشير المذكرة لتزايد عدد الموظفيين من أصل كردي في تلك الأقضية ، واتجاه نية الحكومة البريطانية إلي انقاص عدد الموظفين غير الأكراد فيها .
ولتحصل بريطانيا على المشروعية الدولية لمخططها في إبراز "الذاتية الكردية" في العراق استغلت قضية الموصل في الحصول من مجلس " عصبة الأمم " في 29/11/1924 على قرار تضمن ما نصه : " تدعى الحكومة البريطانية ، بصفتها الدولة المنتدبة ، لأن تعرض على المجلس التدابير التي ستتخذ من أجل أن تؤمن للأكراد من أهالي العراق التعهدات المتعلقة بالإدارة المحلية ، التي أوصت بها لجنة التحقيق في استنتاجها الأخير .." والنص لا يختلف كثيراً عما تضمنه صك الانتداب على فلسطين بالتزام بريطانيا إقامة " الوطن القومي " اليهودي ، غير أن بريطانيا أوفت بالتزامها للصهاينة ولم تف بما أوصت به عصبة الأمم للأكراد .
وكانت بريطانيا حين احتدم الصراع حول الموصل قد استغلت الأكراد بأن لوحت لكل من العرب والأتراك باحتمال إقامة دولة كردية . وتحت التهديد بفصل لواء الموصل أقرت الحكومة العراقية والمجلس التشريعي معاهدة 1922 ، والمعاهدة المعدلة لها سنة 1924 وملحقاتها ، واتفاقية النفط التي كانت قد حصلت عليها بريطانيا من الحكومة التركية قبل الحرب ، وذلك برغم المعارضة الشعبية للمعاهدتين والاتفاقية . وفي مناقشة المجلس التشريعي معاهدة 1924 أيدها 37 نائباً ، بينهم النواب الأكراد من الوية السليمانية وأربيل وكركوك وبعض أقضية لواء الموصل ، وعارضها 25 نائباً عربياً ، واستنكف 8 نواب بينهم كرديان .
ولقد اعتادت الحكومات والأجهزة البريطانية ، وكذلك الأمريكية ، التعامل مع الزعامات الكردية بكيفية متمايزة نوعياً عن تعاملها مع القادة الصهاينة . إذ كانت تجزل للأكراد الوعود وبعد أن ينتهي غرضها منهم تتجاهل وعودها . وفي تجربة الشيخ محمود البرزنجي وتعاطي بريطانيا معه ما بين 1917 – 1930 مثال تاريخي لممارسات الزعامات الكردية والموقف الاستعماري منها .
وكان البرزنجي قد برز في السليمانية عشية الحرب العالمية الأولى كزعيم أول في منطقته ، بانتسابه لرجل صالح من أصول عربية كان قد أقام بين الأكراد وحظى بقدسية لديهم . وحين أخلى الجيش التركي كركوك دفع قائده احسان باشا الذهب للبرزنجي لينظم حرب عصابات خلف خطوط الإنجليز . وعندما أعلنت الهدنة طلب احسان باشا من قائد الفوج التركي في المنطقة تسليم السلطة للبرزنجي ليحكم باسم تركيا . ولكن الشيخ محمود عقد صفقة مع الانجليز سلمهم بموجبها ضباط وجنود الفوج التركي لقاء تعيينه حاكماً للسليمانية يعاونه مستشاران انجليزيان : سياسي وعسكري . وبعد أن تعزز الموقف البريطاني بانسحاب الاتراك عين ضابط بريطاني حاكماً سياسياً للسليمانية ، وقلصت تدريجياً سلطات البرزنجي ، فقام بأول تمرد كردي في ربيع 1919 ، ولكنه سرعان ما اعتقل ونفي إلي الهند . ثم اعيد ليتمرد ثانية ، وثالثة . وفي كل مرة تزامن انتهاء تمرده مع توقيع حكومة العراق إحدى الاتفاقيات التي كانت تريدها بريطانيا . وفي سنة 1930 سويت أمور البرزنجي المالية ورحِّل واسرته عن العراق .
ولم تخرج حالات التمرد الكردي التي توالت من بعد ترحيل البرزنجي عن السياق ذاته ، حتى إنتهاء آخر تمرد قاده الشيخ مصطفي البرزاني سنة 1975 بالمصالحة التي تمت فيما بين صدام حسين وشاه ايران بواسطة الجزائر . وفيما نشر مؤخراً من أن المخابرات المركزية الأمريكية تبرئ صدام والجيش العراقي من جريمة حلبجة ، وتلقي بتهمة استخدام الكيماوي على إيران ، مؤشر على التوجه لتوظيف مأساة المدينة الكردية في الضغوط الأمريكية – الإسرائيلية المتزايدة على إيران . كما أن في ذلك ما يوحي ببداية نهاية شهر عسل الزعامات الكردية العراقية .
وأن يتكرر الأمر قرابة خمسة وثمانين عاماً ففي ذلك الدلالة القاطعة على صحة القول بالتمايز الكيفي فيما بين الظروف الموضوعية لكردستان والذاتية للأكراد عنها بالنسبة لفلسطين المحتلة والصهاينة ، وهي تمايزات تقع في تقديري على المحاور التالية :
1 - على محور الجغرافيا السياسية : إذ تتميز فلسطين بموقع استراتيجي باحتلالها الجسر الواصل ، الفاصل ، ما بين جناحي الوطن العربي . وبإقامة التجمع الإستيطاني الصهيوني فيها تعطلت احتمالات الوحدة العربية ، وكبحت فعالية مصر التاريخية . وتواصل بالنتيجة واقع التجزئة والتخلف والتبعية العربي ، الامر الذي لا يزال يخدم مصالح القوى الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني .
وبالمقابل تقع كردستان العراق على تماس مع مثلث : عربي ، إيراني ، تركي ، بين أطرافه الثلاث تمايزات قومية ، تسببت في حروب دامية فيما بينها . وبدلاً من أن تكون اقامة الدولة الكردية عامل فرقة ونزاع في محيطها الإقليمي ، كما هي الحال مع اسرائيل ، فإنها سوف تؤدي لتراجع حدة التناقضات فيما بين الاطراف العربية والإيرانية والتركية تحسباً من الخطر الكردي المدعوم إسرائيلياً وامريكياً على وحدة ترابها الوطني . وليس في مصلحة الطرفين دفع الأمور بهذا الاتجاه .
2- على محور الديموغرافيا : الغالبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة في فلسطين المحتلة من النهر إلي البحر لا تربطهم صلة تاريخية بفلسطين ، وإنما هم مجلوبون من مختلف نواحي الأرض . ولأنهم مزروعون في غير موطنهم التاريخي ، وغرباء عن المحيط العربي الذي يعادونه ويعاديهم ، يظلون في حاجة دائمة للحليف الاستراتيجي الدولي الذي لا يملكون ترف التمرد على إرادته . ومنذ تواجد الصهاينة على تراب فلسطين في الربع الأخير للقرن التاسع عشر لم تبرز بين صفوفهم حركة سياسية ، ذات حضور وفعالية جماهيرية ، تناقضت مصالحها تناقضاً عدائياً مع القوة الاستعمارية الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني
أما الأكراد فهم في مناطق تواجدهم مواطنون اصلاء ، وشركاء مسيرة ومصير لمواطنيهم العرب والإيرانيين والترك ، ولطالما شاركوهم في التصدي للغزاة الأجانب . ولأنهم ليسوا دخلاء على المنطقة فإن عمقهم الاستراتيجي ممتد فيها . الأمر الذي يحول دون اجماعهم على موقف معاد لشعوبها ، إذ تغلب عند قطاعات غير يسيرة منهم مشاعرهم الاسلامية ، وحتى انتماءاتهم الوطنية ، على نوازعهم العرقية . وليس في تاريخ العراق الحديث ما يدل على أن اياً من حركات التمرد الكردية استقطبت اجماعاً كردياً ، وإنما كان لكل منها من يعارضها ويقف في الصف المعادي لتواطئها مع العدو الخارجي .
3 - على محور التناقضات مع شعب العراق والأمة العربية : برغم كل ما حفلت به سنوات ما بعد توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد سنة 1979 ، وتوالي مسلسل " عملية السلام " والتنازلات عن الحقوق الوطنية والقومية المشروعة . برغم ذلك كله لا يزال الصراع العربي الصهيوني محكوما بكونه صراع وجود ولا وجود مع استعمار استيطاني المعركة معه " مباراة صفرية " ، لا يمكن أن يكسبها إلا طرف واحد ، وتستحيل فيه التسوية بالتنازلات المتبادلة . والواقع الحي في فلسطين شاهد على ذلك ولشعب العراق مواقفه التاريخية في التصدي للهجمة الصهيونية .
وليس من شك أن من حق الشعب الكردي أن يطمح لتحقيق وحدته القومية ، غير أن الذي يحول دون ذلك ليست الأمة العربية وطموحها الوحدوي ، وإنما هو الواقع الجغرافي – السياسي والظروف الدولية . وعليه يغدو المطلب الواقعي والمتوافق مع الظروف الحاكمة للمسألة الكردية إنما هو التمتع بالحكم الذاتي حيث يشكلون أكثرية بين السكان ، وممارسة كافة الحقوق السياسية والمدنية والدينية ، والتعبير الثقافي عن الذات . وكلها مطالب مشروعة وذات صلة باشاعة الديمقراطية التي تناضل في سبيلها القوى الوطنية والقومية العربية . وليس من قومي عربي مدرك حقائق التجربة القومية وملتزم بالفكر القومي كما انتهى عند المؤتمر القومي العربي إلا وهو مناصر لتمتع الاخوة الاكراد بكامل حقوقهم الديمقراطية كمواطنين ، والتحفظ الوحيد إنما هو على انتهاج سياسات ومواقف تهدد وحدة التراب الوطني وتخدم المخططات الاستعمارية والصهيونية ، مثلهم في ذلك مثل بقية المواطنين العرب . وعلى ذلك فالتناقضات مع الاكراد المطالبين بحقوقهم الديمقراطية المشروعة تناقضات ثانوية لا تحتم الصدام . والتفاعل الايجابي معهم ممكن وميسور ، وقد شهدنا حالة مماثلة له مع الرئيس عبدالناصر الذي كان في غاية الايجابية تجاه المطالب الكردية عندما استقبل جلال الطالباني سنة 1964، بل واجاز ان يخصص "صوت العرب" برنامجا كرديا متبنيا مطالبهم الوطنية المشروعة .
4 – على محور الثقافة والقيم وانماط السلوك : من أبرز عوامل تاييد الرأي العام الاوروبي والامريكي للمشروع الصهيوني كونه يتوافق مع الثقافة الشائعة ، فضلا عن أنه يجسد التناقض التاريخي مع العروبة والاسلام . وعلى العكس من ذلك تماما لقد عاش الاكراد ولا زالوا في العراق وسوريا في الفضاء الثقافي العربي الاسلامي . وهم وإن كانوا يتمايزون بانتاسبهم السلالي ، إلا أنهم في الجانب الثقافي من حياتهم ، حيث وجدوا في الوطن العربي ، أنما هم عرب لغة وثقافة وانماط سلوك . ولا يقل عداء غالبيتهم الساحقة لمحاولات تشويه الثقافة والقيم العربية الاسلامية عن عداء المؤمنين بالعروبة والاسلام .
لكل ذلك متفاعلا تظل احتمالات فشل المحاولات الساعية الى نزع كردستان من فضائها الثقافي وتحويلها قسرا الى صورة شوهاء من المشروع الصهيوني محاولات في تضاد مع حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا ، غير أنه ما لم تصل النخب القومية العربية لصياغة الاستراتيجية المؤهلة لتقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة التحدي الامبريالي – الصهيوني تظل مخاطر التغلغل الاسرائيلي في كردستان العراق وتعامل الزعامات الكردية مع الصهاينة تهدد أمن العراق واستقراره ، وأمن واستقرار جواره العربي والاسلامي . حتى وإن كان مستحيلا أن تقوم في كردستان العراق "اسرائيل ثانية ، وان يسخر الشعب الكردي الشقيق في اداء دور مماثل للدور الصهيوني .