الأسلوبية عند ميشال ريفاتير

    • الأسلوبية عند ميشال ريفاتير

      بسم الله الرحمن الرحيم


      الأسلوبية عند ميشال ريفاتير


      الدكتور طارق البكري
      تمهيد:
      الأسلوب في اللغة والأصطلاح :
      يقول ابن منظور في اللسان: ( يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب، فالأسلوب هو الطريق والوجه والمذهب، ويقال أنتم في أسلوب سوء... ويقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه).
      ويعرف ابن خلدون الأسلوب في المقدمة فيقول: ( إنه عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار فادته كمال المعنى من خواص التركيب الذى هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي وظيفته البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب) ويخلص للقول إن الأسلوب هو(الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب الصحيحة باعتبارالإعراب والبيان فيرصها فيه رصاً).
      وفي اللاتينية كلمة(stilus) تعني ريشة ثم تطورت لتصل إلى الأعمال الأدبية .
      وأشهر تعريف للمصطلح الحديث المعاصر نجده عند الكونت بوفون بقوله:
      ( الأسلوب هو الإنسان نفسه ولا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير) .



      مقدمة :
      يعتبر ميشال ريفاتير من أبرز الباحثين في الدراسات الأسلوبية الحديثة، فقد قدم العديد من الأفكار والمبادئ التي تفاعلت بمجملها مع أفكار غيره المصنفين في دائرة الأسلوبية البنيوية وسواهم من الضالعين في سبر أغوار الأسلوبية وسبك بنائها المتماسك من نواحيه.
      وبالفعل، فقد وضع ريفاتير مجموعة قيمة من الأسس استطاعت أن تشقً طريقها وتثبت ذاتها، وتقدم للباحثين أضواء ساطعة كاشفة .
      ركز ريفاتير على جملة من القضايا الهامة، وتكلم على عدد من الظواهر الأسلوبية البارزة في النص، ولفت إلى الجمل التي تستوقفنا كقراء وتلفت انتباهنا، معتبراً أن الأسلوب يعد إبداعا من المنشيء وإرجاعا من المتلقي ، فالمبدع يسعى للفت انتباه المخاطب والوسيلة هي شيفرات تستوجب كشفاً من القارىء.
      ويعتبر ريفاتير من أبرز الأسلوبيين، وقد عمل في جامعة كولومبيا منذ مطلع العقد الخامس من القرن الماضي وله دراسات عديدة منها "إنتاج النص" و " دراسات في


      ريفاتير والأسلوب:
      يصنف ريفاتير مع الأسلوبية البنيوية ومن الذين يقولون بأن الأدب شكل راق من أشكال الإيصال وأن النص الابداعي ما أن يتم خلقا ويكتمل نصا حتى ينقطع عن مرسله لتبقى العلاقة بين الرسالة والمستقبل زمنا لا يتنتهي دوامه. وهو بذلك خالف ياكبسون الذي يهتم بالمرسل والمرسل إليه وينصب اهتمامه بالدرجة الأولى على القارئ دون أن ننسى الوظيفة الشعرية.
      ويعتبر ريفاتير من المجددين في التنظير الأسلوبي بمقالاته التي نشرها في بداية الستينات ثم جمعت واستكملت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي في كتابه مقالات في الأسلوبية البنيوية (Essais de stylistique structurale).
      ويعرف ريفاتير الأسلوب بأنه: ( إظهار عناصر المتوالية الكلامية على اهتمام القارئ ) وتظهر من كتابات ريفاتير أن الأسلوبية ما هي( سوى هذا التأثير المفاجئ الذي يحدثه اللامتوقع في عنصر من السلسلة الكلامية بالنسبة إلى عنصر سابق).ويستشهد ريفاتير ببيت شعر لكوريني: (هذه عتمة مضيئة تسقط نجوما) ويقول : هذه مفارقة غير متوقعة.
      ولا شك أن ريفاتير أحسن كثيرا بالاستشهاد بهذا النص الفريد، فمن حيث التباين الظاهر يقع القارئ في حيرة بين الضوء والعتمة والاستعارة غير المتوافرة في تكتيك شعري فريد ينقل المتلقي من حيثيات الكلمات المعتادة إلى أفق جديد غير متوقع ، وهذه الصدمة المفاجئة التي تحدث لدى المتلقي هي المقصودة من فعل التغيير المنطقي للكلمات المتتالية في السياق، ويرى البعض أن هذه الطريقة هي بنية ثنائية متباينة منتظمة في زمن التكون التتابعي للنص .
      ويقدم ريفاتير في كتابه أسلوبية البنيوية تعريفاً محدداً للأسلوب يتولى بعد ذلك شرحه والتعليق عليه، فيقول :
      يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أسلوب مشهد واحد.. ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه هذا بقوله: إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من الأفضل أن نقول بدلا من (شكل مكتوب) كل شكل دائم ، حتى يشمل الآداب الشفاهية التى لا تستمر نتيجة للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب، بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور فك شفراتها، مثل : الافتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة ، وقابلة لأن نتعرف عليها بالرغم من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء.
      أما قوله:( ذو قصد أدبي) فلا يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله ولا يهدف إلى التمييز بين الأدب الجيد والردئ ولكنه يعني أن خواص النص المحدد تدل على أنه ينبغي اعتباره عملاً فنياً وليس مجرد تعاقب كلمات.
      من هذه الخواص شكل الطباعة وشكل الوزن وعلامات الأجناس الأدبية والعناوين الفرعية مثل رواية أو قصة أو حتى ظهوره في الوقت الحاضر في مجموعات معينة قصصية أو مسرحية أو شعرية .
      ويبدو أنه من الأسهل لنا في ريفاتير أن نطلق كلمة الأدب على كل كتاب ذات طابع أثري أي كل كتابة تجذب انتباهنا بصياغتها وشكلها.
      ثم يعود إلى تعريفه للأسلوب قائلا :
      وهنا نفهم من الأسلوب كل إبراز وتأكيد سواء أكان تعبيريا أو عاطفيا أو جماليا يضاف إلى المعلومات التي تنقلها البنية اللغوية دون التأثير على معناها. ويشرح كلماته فيما بعد مشيرا على أن هذا التعريف لا يتميز بالمهارة اللازمة لأنه يبدو كما لو كان يفترض معنى أساسياً لوناً من ألوان درجة الصفر- على حد تعبير بارت-
      تقاس عليه عملية التكثيف التي نسعى لتقييمها ولا يمكن أن نصل إلى هذا المعنى الأساسي إلا عن طريق نوع من الترجمة أي عن طريق تحطيم النص كشيء أو نقص القصد منه أي استبعاد النص المكتوب وإحلال فرض يدور حول المؤلف حوله. ثم يضيف: ( لكنني كنت أفكر في نوع من الكثافة التي يمكن أن تقاس عند كل نقطة من القول في المحور التركيبي طبقا للمحور الاستبدالي حيث تعد الكلمة الماثلة في النص (أقوى) بشكل أو بآخر من نظيراتها أو مترادفاتها الممكنة دون أن يؤدي هذا إلى خلل في المعنى، لكن هذا المعنى - مهما كان المستوى اللغوي الذي ننظر إليه من خلاله- لا بد أن يختلف بما يسبقه وما يلحقه). ويردف قائلا: (وربما كان من الأوضح والأدق أن نقول أن الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الكلمات في الجمل على انتباه القارئ بشكل لا يمكن حذفه دون تشويه النص ولا يمكن فك شفرته دون أن يتضح أنه دال ومميز مما يجعلنا نفسر ذلك بالتعرف فيه على شكل أدبي أو شخصية المؤلف أو ما عدا ذلك. وباخصار فإن اللغة تعبر والأسلوب يبرز).


      الأشكال الفردية:
      الأشكال الفردية عند ريفاتير بالنسبة للأسلوب كالكلام بالنسبة للغة، فدراستها تسمح بالحصول على البيانات اللازمة لإقامة النظام وعندما يستخدم المؤلف عناصر اللغة الأدبية لإحداث تأثير خاص تتحول إلى عناصر أسلوبية وميزتها تكمن في هذا التنفيذ الخاص لقيمتها لا في قيمتها المحتملة في نظام موحد. ولولم تستخدم لإحداث تأثير محدد فإن أقصى ما يقال حينئذ إنها تمثل خلفية سياقية متخصصة بالنسبة للأسلوب الفردي أكثر من القول العادي.على أن الأساليب الفردية في الكلام يصعب في أحسن الحالات وصفها ويسهل وضعها في أنماط عامة، مما يجعلها أقل تخالفاً فيما بينها وأقرب إلى اللغة العامة من الأساليب الكتابية، أما الأساليب الأدبية فهي معقدة متشابكة، ولهذا فهي ذات ملامح يمكن تمييزها بوضوح .


      وعي المؤلف:
      ويرى ريفاتير أنه إذا كانت مهمة عالم اللغة تنحصر في الإمساك بجميع ملامح القول دون استثناء فإن دارس الأسلوب ينبغي له أن يعتد فحسب بتلك الملامح التي تنقل المقاصد الواعية للمؤلف، مما لا يعني أن وعي المؤلف يشمل كل ملامح القول. وغالبا ما يستحيل التعرف على هذه المقاصد دون تحليل الرسالة مما يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة لولا أن هذه المقاصد ربما تتضح بإجراءات أخرى، مثل التحليل الفيلولوجي أو تصريح المؤلف بها وغير ذلك من الإشارات.
      كما يرى أن هذا التمييز بين الاختيارات الواعية واللا شعورية لا يفيد إلا في حالة دراسة كيفية توليد الأسلوب، إما في دراسة ظاهرة الأسلوب نفسها وتأثيرا على توجه إليه، فإن جدواه ضئيلة للغاية، إذ لا يمكن الوصول فيه حينئذ إلى نتائج حاسمة .


      الفرادة في العمل الأدبي :
      يذهب ريفاتير في كتابه ( إنتاج النص) باحثا عن سمة الفرادة في العمل الأدبي ومن أجل الوقوف على هذه السمة يقترح مقاربة شكلية ويذكر أن التحليل الذي يعتزم إجراءه لا علاقة له بالأسلوبية المعيارية القديمة أو البلاغة، وإذا كان ريفاتير للبلاغة مفارقا فإنه أيضا من النقد الأدبي نفور.
      وليس ذلك منه إلا لأنه لا يريد أن يجعل من التحليل مطية تعلوها أحكام القيمة، وما هذا الموقف بدعا، فمنهجه في التحليل يقف عند الظاهرة ويتحقق من وجودها، وأما النقد فيأتي بعد ذلك أي بعد هذه الخطوة فيتبنى الظاهرة التى وقف عليها وتحقق من وجودها.ولكن ريفاتير عندما عمد إلى دراسة سلوك الكلمة في العمل الأدبي، لاحظ أن سمة قرابة تجمع بين دراسته التحليلية والدرس اللساني، غير أنه أكد أم السمات الخاصة بالعمل الأدبي تتطلب أن يبقى التحليل النصي واللسانيات مختلفين ضمن هذا التقارب نفسه .
      ولتعليل هذا الأمر يرى أنه لا يكفي أن نلجأ إلى اللسانيات فقط لدراسة الأدب، ذلك لأن العمل الفني يطرح على اللسانيات قضية غير لسانية، ألا وهي الأدبية.
      ويلاحظ ريفاتير أن ثمة محاولة قامت لحل هذه القضية وذلك بتعميم الوقائع التي تم الكشف عنها في النصوص من جهة وباستخلاص القواعد الخاصة باللغة الشعرية من جهة أخرى .
      وقد كانت غاية هذه المحاولة - كما يرى ريفاتير- تكمن في وضع التعبير الأدبي في إطار نظرية عامة للإشارات، غير أنه لم يلبث أن وجد في هذه المحاولة مطعنا جعله يعرض عنها، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر بقوله: ( إن هذا البحث الذي هو ميدان الشعرية، لا يستطيع أن يكشف عن السمة الخاصة بالرسالة الأدبية)، وهويرى( أن الشعرية تعمم هي الأخرى على حين أن طبيعة الرسالة هي النص).
      ويؤكد ريفاتير أننا لا نستطيع أن نعرف حقاً هذا النوع من الرسائل إلا بالنصوص، خاتماً نقده لهذه المحاولة بقوله: ( إن القواعد المستخلصة من النص حتى ولو كانت لا تنتج إلا جملا منحرفة وموازية لجمل النص فإنها لا تنتج مع ذلك نصا أدبيا جديداً).
      ثم يتدرج ريفاتير منهجا وطريقة في بحثه إلى أن ينتهي إلى تقرير أمور ثلاثة:
      1- الأدبية وفرادة النص .
      2- الفرادة هي الأسلوب.
      3- النص والأسلوب .

      وسنحاول فيما يلي تقديم تعريف مختصر لكل من هذه الأمور الثلاثة :

      أولاً: الأدبية وفرادة النص :
      يقول ريفاتير: ( النص فريد دائما في جنسه، وهذه الفرادة هي التعريف الأكثر بساطة، وهو الذى يمكن أن نعطيه عن الأدبية، ويمكننا أن نمتحن هذا التعريف فورا إذا فكرنا أن الخصوصية في التجربة الأدبية تكمن في كونها تغريبا وتمرينا استلابياً وقلبا لأفكارنا ولمدركاتنا ولتعبيراتنا المعتادة) .

      ثانياً: الفرادة هي الأسلوب:
      يقول ريفاتير:( إن النص يعمل كما يعمل برنامج الحاسوب، وذلك لكي يجعلنا نقوم بتنفيذ تجربة الفرادة .. الفرادة التي نعطيها اسم الأسلوب، والتي تم خلطها ردحا طويلاً مع الفرد المفترض المسمى الكاتب).

      ثالثا: النص والأسلوب :
      في نهاية المطاف يعلن ريفاتير مقرراً:( الأسلوب في الواقع هو النص).

      وأشار هنا بعض الباحثين إلى ملاحظتين:

      الأولى : أن الأسلوب يخرج من كونه بصمة من بصمات الشخص ليصبح شيئا من أشياء النص، او بمعنى أدق ليصبح هو النص نفسه وليس الشخص أو الرجل كما ذهب بيفون إلى ذلك.

      الثانية : أن هذا الأمر عند ريفاتير بمنزلة الشيء الذي يدور على نفسه، إذ إن مفهوم النص عنده يرتبط بأدبيته والأدبية ترتبط بالفرادة والفرادة أسلوب والأسلوب هو النص، وبما أن الأدبية لا تقوم إلا ضمن هذا الأخير فإن خلو أي نص من الأدبية يرفع عن صفته كنص.

      ويستنتج الباحثون من هاتين النقطتين السابقتين ما يلي :
      إن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن حاجة النص الأدبي إلى أسلوبه حاجة واكدة، بها يصير إلى وجوده، وهذا يعني أنه لا وجود لنص إلا في أسلوبه ولا وجود لأسلوب إلا في فرادته.
      وهكذا ترتبط الفرادة والأدبية بالنص كما يرتبط النص بالأسلوب، ويدور الأمر على نفسه حتى لا إنفكاك.


      ريفاتير وموقفه من القاريء:
      يرى ريفاتير في كتابه دراسات في الأسلوبية البنيوية (أن القاريء يجلي الأسلوب بفعل الأثر الذي يتركه، فالأسلوب يستأثر بانتباه القاريء واهتمامه عبر ما يفضيه في سلسلة الكلام ، والقارئ يستجيب بدوره للأسلوب فيضيف إليه من نفسه عن طريق رد الفعل الذي الذي يحدثه فيه)، وهذا يشير إلى خلاصة مفادها أننا نقول ما نقول، أي نعبر في استعمالنا للكلام،ولكن الأسلوب هو يجعل لما نقول ميزة ويعطيه فرادته ، وريفاتير يقول:
      ( إن االلغة تعبر والأسلوب يجعل لهذا التعبير قيمة).
      ويرى ريفاتير ( أن إطالة الأثر الأسلوبي زمنا والإحساس بالشعر في أي لحظة من اللحظات إنما هو أمر يتعلق كلية بالقارئ. ثم يخلص للقول: ( إن هذا التداخل بين الطريقة الأسلوبية والإحساس بها، إنما هو من صلب القضية) ولذا يقترح أن نتبنى هذا الإحساس ( لتعيين الوقائع الأسلوبية في الخطاب الأدبي).
      ويعلق عبد السلام المسدي عل موقف ريفاتير هذا فيقول: ( ويفضي هذا التقدير بريفاتير إلى اعتبار أنً البحث الموضوعي يقتضي ألا ينطلق المحلل من النص مباشرة، وإنما ينطلق من الأحكام التي يبديها القارئ حوله .
      وفي كتابه إنتاج النص يتضح منظوره بشكل أكبر فيما يخص القارئ حيث يرى أن ( الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) .
      من هنا نستطيع أن نستنتج أن ريفاتير يولي الأهمية الكبرى لأمر خارج حدود النص نفسه، فهو لا ينسب الفضل للمؤلف ولا للسياق الأسلوبي أو التعبير النسقي في الكلام ولكنه يميل صراحة إلى الاعتراف بدور القارئ باعتباره المنتج الأول للنص حيث تتحدد قيمة النص عبره وحده.
      وهذا الاعتبار الذي يقودنا إليه ريفاتير يقدم للقارئ فضاءات واسعة ويجعلة حاكماً وحكماً ومنفذاً للحكم، وبذلك يكون القارئ هو صاحب السلطة والسلطان والقدرة على التحكم بالنص برفعه أو بخفضه.
      وهو يقول بشكل أو بآخر ( إن النص في وجوده مدين لمباشرة القارئ له، أو بكلمة أخرى وجود غير محقق لا يتم ظهوره وتنفيذه إلا بقراءة القارئ له ). وبهذا نستطيع أن نفهم معنى قوله ( إن الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) .
      ويطلق ريفاتير اسم (القارئ النموذج) ويدفع الباحث عن نفسه تهمة إحلال القارئ ورد فعله محل المؤلف ونفسيته، ملاحظا أن المؤلف لا يبقى منه سوى النص، أما القارئ فالبرغم من أن عملية تلقيه إنما هي نفسية، إلا أنه وباستخدام القارئ النموذجي فإننا نصفي العناصر الشخصية من المتلقي بحيث لا يبقى منها سوى ما يتصل بالمثيرات الموضوعية، وإقامة التفسير بعد ذلك على أساس الوقائع نفسها لا على أساس النص الذي استصفته شخصية القارئ أو حصرته فيما يذكره به بما يتوافق مع ذوقه أو فلسفته أو ما يظن أنه ذوق وفلسفة المؤلف المدروس.
      ويؤكد ريفاتير أهمية الزمن كعامل مغير في الدلالة الأسلوبية، فاستجابة القارئ النموذجي لا تصلح إلا بالنسبة لحالة اللغة التي يفهمها، إذ إن وعيه اللغوي الذي يتحكم في ردود فعله يتصل فحسب بفترة زمنية وجيزة في تطور اللغة.


      النص والمستقبل :
      وهنا يعالج ريفاتير القضية بما لها من صلة من نظرية الإيصال، بحيث يصل إلى نتيجة يفترق فيها الإيصال الأدبي عن العادي فالإيصال الأدبي لا يحتوي إلا عنصرين لهما تمثيل مادي فيه وهما: النص والقارئ، أما العناصر الأخرى التى يقوم عليها الإيصال العادي فأشياء بديلة عن النص.
      ويعلق على الشرح الذي يستهدف القارئ بقوله: ( إن الشرح يقتضي إظهار الأثر الأدبي الذي تحمله العبارة في مظانها فهي توجه القارئ نحو بعض التأويلات وتزوده بشفرات لفك شيفرات النص). وهنا يؤكد مجددا على دور القارئ وعلى مكانته الأولى بالنص مهما كان هذا النص باعتبار أنه رسالة موجهة إليه ولولاه لما كان هنالك رسالة والرسالة نفسها لا تنفتح على مغاليقها إلا من خلال قارئ يفك رموزها.


      طاعة واعية للنص:
      لكنه من جانب آخر يؤكد أن الوحدات الأسلوبية تفرض نفسها على القارئ وهو يرى وجود شرطين للتحقق من وجودها:
      أولا : يجب أن يقوم التحليل على طاعة مطلقة للنص.
      ثانيا: أن تكون الطاعة القاعدة الأصولية للشرح.
      لكن تجدر ملاحظة قضية هامة وهي أن الطاعة للنص عند ريفاتير ليست مطلقة، ولا تعني مجرد أن يبتعد القارئ تماما عن التدخل في النص لتصحيحه أو لاستكماله، ولكنها تعني أيضا أن يكون الشرح قائما على عناصر ذات قابلية إدراكية إجبارية، وهو يؤكد ( أن الشرح يختلف بهذا التحديد عن التأويل البنيوي العادي الذي يبحث أن يضم كل شيء إلى نظامه ولكنه لا ينجح إلا في ضم النص باعتباره مادة لسانية وليس باعتبار النص نصا ً).


      الوحدة الأسلوبية :
      ويقدم ريفاتير تعريفا قيما للوحدة الأسلوبية بأنها: ( ثنائية لقطبين لا يفترقان، الأول منهما يبدع الاحتمال والثاني يلغيه) ويعتبر أن الأثر الأسلوبي ينتج عن التضاد الحاصل بينهما).ولا يمكن لهذه الوحدة الأسلوبية برأيه أن تختلط مع التقطيع الطبيعي، أي مع الكلمة والجملة ذلك لأنها ( لا تستطيع أن تكون سوى مجموعة من الكلمات أو الجمل المرتبطة بطريقة أخرى غير المقطعية ).
      وقد دفع هذا الموقف بريفاتير إلى الإعراض عن شرح الكلمة معزولة لأن ذلك يؤدي إلى إنكار الحدث الأسلوبي ( ومن أراد الشرح عليه أن يذهب إلى ما وراء الكلمة ). ويقترب ريفاتير هنا تماما مع رأي عبد القاهر الجرجاني بأن الكلمة المفردة وحدها ليست هي الأسلوب بل طريقة نظم الكلم .


      السياق الأصغر والسياق الأكبر:
      الطريقة الأسلوبية ليست عند ريفاتير هي الأسلوب، فما هي سوى مظهره المنتظم، إن أسلوب نص أو عمل أو كاتب ليس مجموع طرائقه الأسلوبية،بل هو علاقاتها التركيببية المحتملة. وأول خطوة على طريق توسيع المنظورات يميز ريفاتير إلى جانب السياق الذي يسميه بالسياق الأصغر (Microcontexte) الذي يسهم في إنتاج الأسلوبية، ويميز ما يطلق عليه السياق الأوسع (Macrocaontexte)، وهو بالتحليل الأولي خارجي ومتقدم على هذه الطريقة الأسلوبية ولكنه ذات مدى متبدل سواء في البداية أو النهاية وقابل للائتلاف مع سابقه،
      أو لإعادة التشكيل في نهايته، والتحديد من خلال اللامتوقع في العناصر التي تكونه.


      الانحراف والسياق:
      الانحراف عند ريفاتير حيلة مقصودة لجذب انتباه القارئ، وكان الاعتقاد السائد أن النمط العادي يحدده الاستعمال، غير أن مفهوم الاستعمال نسبي، ولا يمكن الدارس من مقياس موضوعي صحيح، فيقترح ريفاتير تقويض مفهوم لاستعمال بماهو يسميه ( السياق لأسلوبي ).
      ومفهوم الانزياح والانحراف عند ريفاتير ( انزياح عن النمط التعبيري المتواضع عليه، وهو خرق للقواعد حينا ولجوء إلى ما ندر من الصيغ حينا آخر).
      وقد استقر ريفاتير عند فكرة الانحراف الداخلي بعد أن تبين له أن طريقة القارئ العمدة -الذي سنتعرض له لاحقاً- تكفي لاكتشاف الانحراف، ويحدد ريفاتير معيار الانحراف بالسياق الخارجي ويسمي وحدته الأساسية السياق الأصغر فهما مع الانحراف أو المخالفة يكونان معا ما يسميه مسلكا أسلوبيا نحو وصف الشيء بما لا يعد من صفاته، كأن يقال: شمس سوداء أو ضوء خجول، فالاسم الأول من العبارتين سياق أصغر والوصف مخالفة أو انحراف، ويضع ريفاتير المعادلة التالية:

      سياق أصغر + مخالفة = مسلك أسلوبي

      لكن لا بد ملاحظة أن السياق الأصغر لا يقتصر على هذا النوع فقط .
      وعموماً يمكن للسياق الأصغر أن يدخل في سياق أكبر، ليشكل سلسلة لغوية ممتدة يكون السياق جزئا منها، ولا تنحصر داخل حدود الجملة النحوية أو عدد معين من الجمل، وإنما تتحدد نهايتها بشعور القارئ كما تتحدد بدايتها بقدرته على التذكر.ويعين ريفاتير شكلين أساسيين للسياق الأكبر:

      سياق + مسلك أسلوبي + سياق
      سياق + مسلك أسلوبي يبتدئ سياقاً أسلوبياً جديدا + مسلك أسلوبي

      فكأن السياق الأكبر في كلتا الحالتين يتحدد بالعبارات التي تحيط بالسياق الأصغر، وإن كان من الجائز أن تمتد المخالفة حتى تصبح هي نفسها سياقاً.
      ولتوضيح ما يقصده، نورد هذا المثال الذي قدمه للنوع الأول وهو قول لبرنارد شو:
      إنهم يصورون المسكين على أنه مجرم، مع أنه لم يكن إلا رجلاً إنكليزياً صميماً ذا عيال.
      فالعبارة الأخيرة تكون مع العبارة التي تسبقها مباشرة مسلكاً أسلوبياً، وهي في هذه الحالة تعد سياقاً أصغر، والعبارة ليست في النهاية إلا جزءا من السياق الأكبر الذي يبدأ مع بداية الجملة حتى نهايتها.


      التشبع عند ريفاتير:
      التشبع مصطلح يستخدم بالكيمياء عادة، ويعني أن المادة المنحلة في السائل - كالسكر في الماء - قد بلغت كميتها حداً لم يعد لكمية السائل معه القدرة عل الامتصاص.
      أما ريفاتير فقد استعمل هذا المصطلح مجازا للدلالة على أن الخاصية الأسلوبية هي بمثابة المادة المنحلة، والنص بمثابة السائل، فإذا تكررت السمة الأسلوبية باطراد تشبع النص فلم يعد يطيق إبرزها كعلامة مميزة.
      ومثال ذلك أن ينبني نص على ظاهرة السجع فإذا تراوحت مواطنها ظلت محتفظة بطاقتها التأثيرية، وإن اطردت اختفي تأثيرها بل لعل عدول صاحب النص عن ظاهرة السجع يصبح هو نفسه خاصية أسلوبية.
      ويمكن تلخيص هذه الفكرة بأن الاستخدام المتكرر لظاهرة أسلوبية معينة لدى كاتب ما أو عدة كتاب يجعل الظاهرة أمراً عادياً ولا يعود لها أي مزية أسلوبية، وهذا الأمر يستدعي من الكاتب أن يبتكر دائماً ولا يعتز بظاهرة معينة ويواظب على استخدامها، فمع استخدامها المتكرر تفقد بريقها ولا تعود لها قيمة لدى القارئ .


      القارئ العمدة (architecteur):
      لكن من هو القارئ الذي لديه القدرة على تمييز النص واكتناهه وسبر محتواه؟
      الأثر الأسلوبي كما ذكرنا سابقاً يتعلق بالقارئ، لذا فإن النص نفسه سيتعدد دائما بتعدد القراء له ، لذلك أراد ريفاتير أن يحل العقدة فرأى تعيين الانحراف بمعونة عدد من القراء، وبمجموع القراءات يصل إلى ما يسميه بالقارئ العمدة.
      فريفاتير يعين مواضع الانحراف بمعونة عدد من القراء المدربين على هذا النوع من القراءة، كما يفعل علماء اللغة في الفروع الأخرى لهذا العلم، فيعتمدون على أخبار الرواة من أهل اللغة عن كيفية النطق ومعاني الكلمات...، ويسمى مجموع هذه الأخبار على سبيل التجريد " القارئ العمدة".
      وعيب على هذا الاقتراح الأخير أنه يجرد العملية التذوقية من محتواها الشخصي باسم الموضوعية.
      والقارئ العمدة بتعبيره هو محصلة ردود أفعال عدد من الخبراء اللغويين تجاه النص بضمنهم نقاد ومترجمون وعلماء وشعراء وغيرهم، فالقارئ العمدة ليس قارئا بعينه إنما هو مجموعة الاستجابات للنص التي يحصل عليها المحلل من عدد من القراء الخبراء.
      ويحدد ريفاتير القارئ العمدة بقوله: ( هو مجموع الرواة الذين يستخدمون لكل مثير أو متواليه أسلوبية كاملة... إنه وسيلة لاستخراج مثيرات النص لا أكثر ولا أقل) لكنه يستدرك قائلا:( من الضروري أن نستبعد تصنيفات القراء حتى لا نتورط في تصنيفات جاهزة).
      وهنا لا بد من الاشارة إلى أن قضي القارئ العمدة تحتاج إلى دراسة قائمة مستقلة تتناول هذا الجانب بالبحث والتحليل نظرا لأن ريفاتير أولى هذه المسألة جانبا مهما من أبحاثه وهي تحتاج إلى تعمق أكبر ومجال أوسع للبحث .


      الأسلوبية البنيوية:
      مع ميشال ريفاتير بدأت الأسلوبية البنيوية مساراً مهماً في تناول الأسلوب في النص الأدبي، وقد افرد كتابا خاصاً لهذا الغرض وسماه (محاولات في الأسلوبية البنيوية) صدر عام 1976. وتمثلت غاية الكاتب في أن الأسلوبية البنيوية تقوم على تحليل الخطاب الأدبي لأن الأسلوب يكمن في اللغة وووظائفها ولذلك ليس ثمة اسلوب أدبي إلا في النص.وقد عرف ريفاتير الأسلوب الأدبي بأنه كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً.
      ويرى ريفاتير في مقال له ( لا يمكن فهم الوقائع إلا في اللغة، لأن اللغة هي أداتها، ومن ناحية أخرى يجب أن تكون للوقائع الأسلوبية خاصة مميزة، وإلا لم نستطع أن نميزها عن الوقائع اللغوية).



      التواصل :
      يركز ريفاتير على فكرة التواصل التى تحمل طابع شخصية المتكلم في سعيه إلى لفت نظر المخاطب، ولهذا اعتنى عناية كبيرة بالمنشيء الذي هو يشفر (Encode) تجربته الذاتية، وبالمخاطب الذي يفك شيفرة (decode) .
      هذا التعبير، وهو بذلك يؤكد تجاوز ما جاء به جاكبسون الذي كانت نظريته لا تنظر إلى الرسالة الشعرية بوصفها تكيفاً لمتطلبات التواصل، وبدلا من ذلك ينظر إلى إسقاط مبدأ التماثل على الرسالة بكيفية ما، بوصفه يحررها من المقام الأول ويجعلها غامضة وغير تداولية، وبذلك يتجاوز ما يطرحه جاكبسون في أن الرسالة قائمة بذاتها، ولا يظهر من ذلك أن هذه الرسالة تحقق تواصلا مع المخاطب، أما ريفاتير فإنه يرى أن الرسالة لا يمكن أن توجد بذاتها، وإنما هناك علاقة يجب أن تنشأ بين الرسالة والمخاطب، فالعلاقة التي تقوم بينهما عنصر مهم من عناصر الأسس التي أقام عليها ريفاتير أسلوبه ، وهي رؤية تتجاوز كون الأسلوبية تحليلا ألسنيا يميز عناصر الأسلوبية في رسالة ما، وإنما يكون للقارئ دور في تمييز هذه العناصر، ولذلك يقوم القارئ في أسلوبية ريفاتير بدور مهم جدا(كما أشرنا سابقاً) وهو دور يقوم على الوعي والإدراك لما تمثله العناصر الأسلوبية من وظائف داخل النص الأدبي.
      ويصبح طرفا الإخبار عند ريفاتير المرسل والمتلقي، ويتضح ذلك من القول: ( فإذا كانت عملية الباث في عملية الإبلاغ العادي أن يصل بالمتقبل إلى مجرد تفكيك الرسالة اللغوية لإدراكها، فإن الغاية من الباث في عملية الإبلاغ الأدبي تتمثل في توجيه المتقبل توجها يقوده إلى تفكيك الرسالة اللغوية على وجه معين مخصوص، فيعمد الباث عندئذ إلى شحن تعبيره بخصائص أسلوبية تضمن له هذا الضرب من الرقابة المستمرة على المتقبل في تفكيكه للمضمون اللغوي).
      وهذه الأفكار الخطيرة التي يطرحها ريفاتير بجرأة تفصل ما بين نوعين من التواصل البشري، الأول التواصل العادي المجرد من الأسلوب الأدبي البليغ، والتواصل القائم على الحاجات والتبادل والخدمات، أما الجانب الأدبي وهو الجانب المتمثل بالشعور فغير ذلك تماماً، فالنص الذي يشحنه الشاعر أو الأديب بنصه يحتاج برأي ريفاتير إلى رقابة مستمرة ليس على نفسه فقط بل وأيضا على المستقبل في عملية التمحيص والتفكيك وإعادة التشكيل، ولكن من حيث الاجمال فإن ذلك يبدو مستحيلا من الناحية العملية، وربما يكون القصد غير ذلك حيث على الباث أن يكون مهيئاً ليستوعب قدرة المتقبل على تفكيك النص واستشعاره، وهو أقرب إلى الظن لأن الباث بطبيعة الحال يستحيل له مراقبة كل المستقبلين وخصوصاً مع مرور الزمن واستمرارية النص بعد سنين من زوال صاحبه .




      عنصر المفاجأة:
      وهنك عنصر مهم جدا أشار إليه ريفاتير أهميته ليست دون أهمية ما سبق، وهو عنصر المفاجأة من خلال المثير والمنبه الأسلوبي، حتى إنه رد الميزة بالنص إلى هذا العنصر، فقال: ( تنتج القوة الأسلوبية من إدخال عنصر غير متوقع إلى نموذج، فالسياق الأسلوبي يتكون من نموذج لغوي يكسره بغتة عنصر لا يتنبأ به).
      ويرتبط مفهوم الأسلوب عنده بعنصر المفاجأة التي تصدم المستقبل وتحدث صدمة في نفسه، فكلما كانت السمة الأسلوبية متضمنة للمفاجأة فإنها تحدث خلخلة وهزة في إدراك القارئ ووعيه.
      وقد ساق ريفاتير مثلا هو قول كورني ( عتمة مضيئة تسقط نجوما) فجمع العتمة مع الضوء، وبهذا أحدثت المقابلة منبها أسلوبيا لا بد له أن يحدث استجابة ما لدى المستقبل، فكل واقعة أسلوبية تنشأ من سياق ومن تعارض ولذلك على الدارس الأسلوبي أن يمنح التعارض عنايته، لأنه يشكل الأجراء الأسلوبي في النص المدروس.
      ومما لا شك فيه أن عنصر المفاجأة عند ريفاتير هو بنفسه تجسيد للانحراف( الذي تحدثنا عنه سابقا)، فقد عرف الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار، كما وصف الانحراف بالانزياح، والمقصود انزياح أو انحراف الأسلوب عن الاستخدام العادي للغة، مما يجعل اللغة تستخدم استخداما غير مألوف.
      وقد لقي مفهوم الانحراف عند ريفاتير تطورا جذريا استخلص منه مقولة ( التضاد البنيوي ) وحدد ما يترتب عليها من إجراءات أسلوبية أي من عمليات التكوين الأسلوبي حسب مصطلحه، وهي إجراءات تعتمد على القارئ أساسا لأنه هدف الكاتب الموجه إليه الرسالة.
      ولا شك أن الكتابة الفنية تتطلب من الكاتب أن يفاجئ قارئه من حين لآخر بعبارة تثير انتباهه حتى لا تفتر حماسته بمتابعة القراءة أو يفوته معنى يحرص الكاتب على إبلاغه إياه. وفي هذا تختلف الكتابة الفنية عن الاستعمال العادي للغة فالإنسان في حديثه العادي يستطيع أن يلجأ إلى وسائل كثيرة مصاحبة للكلام كي ينبه سامعه إلى فحوى الرسالة: من استخدام النبر والتعبير بحركات الوجه أو الإشارة باليدين إلى هز ذراع السامع إذا كان المتكلم في حالة انفعالية تدفعه إلى ذلك، وأما إذا تأملنا الكتابة الفنية وجدنا في تعابير اللغة أحيانا ما يشبه هز الذراع وربما الإمساك بالتلابيب، وإذا كانت هذه الحركات والنبرات في لغة الحديث لا تفعل فعلها إلا لكونها خارجة عن المألوف، فكذلك وسائل اللغة التي يراد بها جذب الانتباه إنما تحدث ذلك بفضل ما فيها من المفاجأة أو الخروج على سياق الكلام العادي ، أي بفضل ما فيها من الانحراف.





      السياق الأسلوبي :
      بما أن التقوية الأسلوبية تنتج من إدخال عنصر غير متوقع في نسق، فهي تفترض إشعارا بالانقطاع الذي يغير السياق، وهنا فرق جوهري - كما يقول ريفاتير- بين المفهوم الشائع لكلمة السياق وبين السياق الأسلوبي.
      فليس السياق الأسلوبي ترابطيا، بمعنى أنه ليس السياق اللفظي الذي يقلل تأثير لمشترك اللفظي أو يضيف إيحاءات إلى لفظة ما، فالسياق الأسلوبي كما يقول ريفاتير: ( نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع- مفاجئ كما أشرنا في الفقرة السابقة- والتقابل الذي ينشأ عن هذا الاقتحام هو المثير الأسلوبي) ويوضح ريفاتير أنه يجب أن يفهم أن هذا الانقطاع ليس من باب الفصل، فقيمة المقابلة الأسلوبية ترجع إلى نظام العلاقات الذي تقيمه بين العنصرين المتصادمين، وما كانت لتحدث أي تأثير بدون وصلهما في متتابعة.
      إن صنع النسق الذي تتوقف عليه "المفاجأة" يرجعه ريفاتير بالضرورة إلى سير المتواليات، والسياق يبتع القارئ مارا بكل متواليات الحدث.
      ويرى ريفاتير أن السياق لا ينفصل عن الإجراء الأسلوبي ويتمايز بالخواص التالية :
      1- التلاؤم اللازم مما لا يحدث بالنسبة للقاعدة.
      2- قابليته الفورية للتحديد وإمكانية الإمساك به على التو فليس غامضا ولا مبهما ولا ذاتيا.
      3- التنوع، إذ إنه يشكل مجموعة من مظاهر التضاد مع الإجراءات الأسلوبية المتوالية، وهذا التنوع هو الذي يوضح لنا السبب في أن وحدة لغوية ما تكتسب تأثيرها الأسلوبي أو تعدله أو تفقده نظرا لوضعها، كما أنه هو الذي يوضح السبب في عدم اعتبار اطراد القاعدة واقعة أسلوبية بالضرورة بمثل ما أن التأثير الأسلوبي لا يتوقف دائما على الشذوذ عن القاعدة.

      الانصباب:
      وهناك ظاهرة تتصل بالسياق الأسلوبي يطلق عليها ريفاتير اسم الانصباب، فقد تتجمع العناصر الناجمة عن الإجراءات الأسلوبية مما يجعل تأثيرها يعتمد على التوافق بين الجوانب الدلالية والصوتية وتتراكم حتى تصل إلى نقطة محددة، بحيث يكون كل إجراء أسلوبي منها- على استقلاله في ظاهر الأمر- جزءا من بنية أكبر تمثل القوة التعبيرية التي تصب فيها جميع الإجراءات المستخدمة.
      وهذا الانصباب ذو طبيعة تراكمية ويمثل السياق الدلالي الذي يحد من تعدد معاني النص ويوضح مقاصد المؤلف، كما أن هذا الانصباب هو الإحراء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه يتم بطريقة واعية إذ إنه حتى لو كان قد نبت في النص بشكل لا شعوري من المؤلف فإنه لا يلبث أن يدركه على التو عند قراءة ما كتب ولو اقتصر على الاحتفاظ به أو اجتهد في تكوينه، فإنه يصبح مثلا للوعي الواضح في استخدام اللغة.
      ويعد الانصباب أقوى وأعقد أشكال الإجراءات الأسلوبية، ومن المسلم به أنه معيار خصب للتحليل فلو فرض أن القارئ النموذجي قد لاحظ وجود إجراء أسلوبي ما لكنه لا يمثل تضادا موسوما مع السياق السابق فبوسع الدارس أن يبحث حينئذ عن الانصباب كواقع أسلوبي.
      وكثيرا ما ينجم عن خطأ حذف لإجراءات الأسلوبية ألا يستطيع قارئ اليوم استجلاء البروز الأسلوبي للنصوص القديمة وبوسعه حينئذ أن يعتمد على الانصباب ليكتشف هذا البروز بتحليل اتجاه الإجراءات الأسلوبية الأخرى، وتوقع أن تكون الإجراءات المندثرة مساوقة للتيار نفسه مما يساعده في نهاية الأمر على اكتشافها وتحديدها وجبر حذفها. فالانصباب في الواقع هو العامل الأسلوبي الذي يضمن استمرار نظام التشفير في النص، ولو كانت هناك أجيال من القراء لم تعد تتبين اتجاه بعض الإجراءات الأسلوبية لأنها فقدت قدرتها على التضاد في النظام اللغوي الجديد، كأن تكون المصطلحات الجديدة أو المستعارة قد فقدت جدتها وطرافتها وصارت من اللغة الأدبية المشتركة فمن الممكن أن تظل بعض هذه العناصر محتفظة بفاعليتها كمثير أسلوبي للتعبير يمس مجموعة الإجراءات التي وضعها المؤلف، ويصبح الانصباب هو وسيلتنا للتعرف على بقيتها.








      الخاتمة:


      يتوارد إلي ذهني في نهاية هذه الدراسة الموجزة مجموعة ضخمة من التداعيات كنتيجة حتمية لما يورثه البحث في جانب من جوانب الأسلوبية وخصوصاً عند علم من أعلامها الكبار( ريفاتير)، ويتضح من الصفحات السابقة جملة كبيرة من القضايا التي تناولها ريفاتير بإسهاب ولم نورد إلا قليلا من تحديداته الأسلوبية البالغة الأهمية والـتأثير على المدارس الأسلوبية قديما وحاضراً.
      ومن هذه التداعيات؛ تصور عن مدى تحقق هذه الأفكار والقدرة على ترجمتها إلى الواقع النقدي المشرقي بالتحديد، وقلب المفاهيم الرائجة بإحداث ما يشبه الثورة أو الهزة، فضلاً عن تقارب المفاهيم التي أرساها ريفاتير مع المفاهيم البلاغية القديمة التي نشأت مع الجرجاني وغيره، وقدمت أفكارا لم نستفد منها حتى تاريخنا المعاصر بالشكل النقدي المطلوب، فجاء من الغرب من يوقظ فينا هذا المارد النقدي ويلفتنا بشدة إلى تراثنا الذي قد يحتاج إلى رؤية جديدة تختلف تماما عن الرؤية القديمة باعتبار أن النصوص تتحكم بها السيرورة التاريخية.
      وقد تبينا في هذا البحث المدى الخطير الذي وصل إليه ريفاتير مما جعله أهلاً ليتبوأ مكانة مرموقة في الدراسات الأسلوبية، وقد لا نتصفح كتاباً في بابه، ولا أقول نتفحصه، حتى نعثر على شخصية ريفاتير منتشرة في جوانبه، توافقا أو اعتراضا. ولعلنا لا نبعد كثيرا عن تقرير أن دراسات ريفاتير لم تتناول بالشكل المعمق الذي تستحقه، وربما يدعونا هذا البحث إلى إجراءات مماثلة لا تستنكف عن تعميق دراسة كل جانب من آرائه - التي لم نتناولها كلها بالطبع واكتفينا بأبرزها- وسبر قيعانها وتتبع الإشارات النقدية التي أرسى قواعدها فنالت استحسان الكثيرين ونقدهم في جانب آخر، وإن كنا لم نتناول النقد الذي وجه لأفكاره وآرائه لأن مكانها ليس هذا البحث المختصر.
      ولا أدعي أنني بهذا البحث قد أوفيت كل الجوانب الكبرى التي أثارها ريفاتير - ولا حتى معظمها ربما - ولكنني حاولت تتبع بعض ما قيل عن هذا الباحث الأسلوبي الكبير، ورصد بعض الإشارات الهامة التي قالها بكثير من الاهتمام والترصد، نظرا لما تصبه من رؤى نقدية تختلف كثيرا عن الرؤى والأفكار السائدة والرائجة التي هي تحتاج - بالتأكيد- إلى مراجعة وإعادة تقويم، بالنظر إلى ما استجد من رؤى تقدمية ذات تطلعات منسلة من الأثواب التقيليدية الموروثة، التي تحد تالياً من قدرة الناقد وكذلك من قدرة المؤلف على حد سواء.
      وأعتقد أن البحث الأسلوبي الحديث لو قدر له أن يستمر، وينهض، لوجد له قبولا واسعا بين صفوف الدارسين، ليس في المراحل الجامعية العليا فحسب، بل في المراحل الجامعية الأولى وربما المدرسية، ولتبدلت نظرتنا إلى النصوص التي نتلقاها ولأوجدنا أجيالا نقدية قادرة على استجلاب الكثير من الخير، ونزع البرقع الذي يكلل خفايا تراثنا العريق الممتد بدلا من العيش في رؤى نقدية مكرورة لا تحمل روح العصر ولا التفاتاته حتى.
      ولا يعوزنا إلا النظر إلى كبار النقاد العرب القدماء - من أمثال الجرجاني - الذين بإمكاننا أن نعتبرهم مجددين في عصرهم وفي العصور التالية، فقد كان لهم الجرأة الأدبية على قول كلمة التغيير وتبديل المفاهيم التي كانت بمثابة (كليشيهات) رائجة، ولم يتوان الجرجاني نفسه عن تفسير بعض آيات القرآن الكريم بأسلوب مختلف عن الأساليب التقليدية مطمئنا إلى سداد رأيه في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة...

      وأخيرا، هل بإمكاننا القول إن الدراسات الأسلوبية قد نالت حقها من البحث والتمحيص؟
      الواقع بلا شك يبشر بكثير من الخير ويجعلنا نطمئن إلى ما نحن قادمون عليه، والدراسات الأسلوبية باتت سمة العصر، وباتت الكتب التي تتناول هذا الموضوع متوافرة رغم قلتها والحاجة إلى أضعاف منها، وتبسيطها لتصل إلى ذهن القارئ المتوسط الذي تحدث عنه ريفاتير، لا القارئ الخبير فقط.
      وبعد، ماذا نتوقع للأسلوبية؟
      لا شك أن الغد يخفي الكثير، والوعي الأسلوبي لا بد وأن يتحقق في ضوء الأسلوب الحديث بالنقد والتحليل، وقد ظهر الكثير من الدلائل والمبشرات، ولعل أقلها إقبال الدارسين على هذا النمط الذي بات سمة المثقفين في هذا العصر.

      طارق البكري
      الكويت



      مصادر البحث الأولية:


      1- ابن منظور: لسان العرب.
      2- بيير جيريو : الأسلوبية ، ترجمة منذر عياش.
      3- عبد السلام المسدي : الأسلوب والأسلوبية.
      4- شكري عياد : مبادئ علم الأسلوب العربي.
      5- شكري عياد : اتجاهات البحث لأسلوبي.
      6- صلاح فضل : علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته.
      7- محمود عياد : الأسلوبية الحديثة: محاولة تعريف.
      8- منذر عياش: مقالات في الأسلوبية.
      9- موسى ربابعة: الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها.
    • الاسلوب في وجهة نظري : المنهج الذي يتبعه الإنسان لتسيير حياته
      بكل اختصار
      شكراً لك أخي على هالموضوع
      ونحن بحاجة لمثل هذه المواضيع من فترة لأخرى
      لنرى وجهات النظر المختلفة للعلماء والمفسرين
      لك تحيتي
    • يقول عز وجل في محكم التنزيل :ــ
      فاستجاب لهم ربهم اني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر او انثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم واوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب
      قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين
      يا ايها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول واياكم ان تؤمنوا بالله ربكم ان كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون اليهم بالمودة وانا اعلم بما اخفيتم وما اعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل

      ومن هنا نعرف يا دكتور أن الدراسة التي قدمتها جاءت متأخرة ... فلقد ورثنا كتاب الله عز وجل .. ففيه مبتغانا وغايتنا ..!!
      وأن كنت لا أجد ضيرا من الأخذ بما يتناسب مع احتياجاتنا .. سواء كانت تلك العلوم شرقية أو غربية ...
      أم بخصوص ما أوردت في الخاتمة وهذا قولك (يتوارد إلي ذهني في نهاية هذه الدراسة الموجزة مجموعة ضخمة من التداعيات كنتيجة حتمية لما يورثه البحث في جانب من جوانب الأسلوبية وخصوصاً عند علم من أعلامها الكبار( ريفاتير)، ويتضح من الصفحات السابقة جملة كبيرة من القضايا التي تناولها ريفاتير بإسهاب ولم نورد إلا قليلا من تحديداته الأسلوبية البالغة الأهمية والـتأثير على المدارس الأسلوبية قديما وحاضراً.)
      فأقول أن المتمعن في القرآن الكريم وما ورد به من قصص مثل قصة يوسف عليه السلام .. ليجد الإبداع الرباني الذي يأخذ بالألباب ... في سياق قصة طرحت من بدايتها إلى نهايتها
      (holyquran.net/cgi-bin/almizan.pl?ch=12&vr=108&sp=0 )
      كما أن هناك عدة دراسات تقوم على مفاهيم جديدة أو مجددة في مضمون واحد ولعل في هذا الرابط ما يفيد إلى ما أرمي إليه (m-adwani.8m.com/m.naagdi%20links1.htm )

      nizwa.com/volume1/p28_35.html
      وأن كنت لست متخصص في هذا العلم .. ولكني متذوق لبعض النصوص الأدبية أو الشعرية التي ولا شك تلامس شيء في نفسي ( بصفتي متلقي أو متذوق لتلك النصوص )

      وهنا استفسار أرجو أن تقبله بصدر رحب
      ما دور اختلاف اللغة والعادات والتقاليد والمكان والزمان وطريقة العرض في تقيم أو العمل الأدبي ونقده .. وما مدى تقبله من فئة دون غيرها ... ؟؟؟

      لعلي وفقت في صياغة الاستفسار الذي أريد له جوابا وفق منظورك بالذات ...

      سيدي الدكتور
      لا شك أنك بذلت جهدا جبارا في إنجاز هذه الدراسة .. أسأل الله لك الأجر والمثوبة ...

      وأن شاء الله لي عودة أخرى

      arresalah.net/material/library…at%20qurania/taaweel.html

      arabworldbooks.com/ArabicLiterature/literatureAB5.htm

      aljamahiria.com/Pages/thakafa/maqal.almalke.html

      nizwa.com/volume21/p61_68.html

      بقيت إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة رهينة جدل لا ينتهي منذ بدأت في القرن الماضي، ولا يختلف أحدٌ في أن «المعاصرة» هي موقف إيجابي تجاه الحداثة ـ بكل ما تعنيه من فلسفات وعلوم ومناهج وأدوات بحث، بل وواقع يبسط نفوذه على حياة العالم ـ بغض النظر عن حدود هذا الموقف (1)، وإذا حاولنا البحث في الدراسات التي اشتغلت على القرآن الكريم تحت مظلّة المعاصرة، فإننا سنقف على مرحلتين متمايزتين مرّت بهما تلك الدراسات:
      المرحلة الأولى:
      وهي التي بدأت مع الشيخ محمد عبده، حيث شهدنا ممارسة فعلية للتفسير والتأويل مستفيدةٌ من معطيات العصر، وكان محمد عبده قد نعى على العلماء عدم الاستفادة من العلوم الغربية الحديثة (2)، وعندما شرع في تفسيره تأوّل القرآن طبقاً لتلك العلوم، والنظريات العلمية، مما جعل الداروينية (3) مقولة قرآنية، كما هو الحال تماماً مع اللاماركية، التي تعتبر ـ حسب عبده ـ من سنن الله في هذا الكون!، ثم تأوّل المعجزات تأويلاً وضعيا (4). كما سنجد امتداد ذلك لاحقاً مع طنطاوي جوهري في تفسيره «الجواهر» (5)، وهو تفسير يبرهن فيه على أن كل العلوم في الغرب موجودة في القرآن!، وأن القرآن قد سبق إليها!، ليطمئننا بذلك «إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة» (6). ثم مع أبو زيد الدمنهوري في كتابه «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» (7)، والذي خَلُصَ فيه إلى استنطاق القرآن بما يتلاءم مع أفكار العالم المعاصر، في المرأة والحدود، و.. الخ، إلى أن جاء المصطلح معبّراً في عنوان «التفسير العصري» مع مصطفى محمود(8) في بداية السبعينات.
      تتميّز هذه المرحلة ـ التي امتدّت إلى أواخر السبعينيَّات ـ بعدّة خصائص:
      - فهي لم تخرج عن مناهج التفسير التقليدية، ولهذا لم تتجاوز التأويلات «الإجرائية» التي تناولت بعض الآيات بما يتلاءم مع مقولات العصر الشائعة، حتى لو خرقت تلك التأويلات الأطر المنهجية التقليدية في التفسير. بل إننا نجد في هذه المرحلة كيف وصل التفسير إلى «مجرّد» تأمّلات(9) تتسم بالبساطة والسذاجة أحياناً.
      - والاجتزاء يبدو ظاهرةً واضحةً، حيث لا يتم التأويل «المعاصر» إلاّ في تلك الآيات المتعلقة بالإشكالات الفكرية المعاصرة، أو تلك التي يشتبه بها في استنطاق الاكتشافات الحديثة!
      ونظراً لاحتكام التفسير/ التأويل ـ في هذه المرحلة ـ إلى المناهج التقليدية في التفسير، فقد ظلَّ مصطلح التفسير مهيمناً كاسم لهذه العملية التأويلية، ولارتباطها بالعصر كان من الطبيعي أن يبرز مصطلح «التفسير العصري» أو «المعاصر» تعبيراً عنها.
      المرحلة الثانية:
      ويحيلنا إليها مصطلح «القراءة» (10) نفسه؛ الذي يشير إلى مصادر منهجيّة معاصرة هي مناهج النقد الأدبي واللسانيات الحديثة، فنحن هنا إذن أمام استخدام لـ «مناهج» و«أدوات» جديدة في دراسة القرآن، نستطيع أنْ نقدّر بدايته في نهاية السبعينيَّات وبداية الثمانينيات حيث كانت المناهج الأدبية واللسانية قد أخذت حضورها إلى جانب الدراسات الأخرى ـ في العالم العربي، وبدأت تتسرّب إلى كل شيء، فكان لنا أن نرى عام (1979م) «العالمية الإسلامية الثانية» لأبي القاسم حاج حمد، والتي اعتمد فيها على مزيج من المقولات اللسانية والفلسفية، ربما لأوّل مرّة (11)، وفي الثمانينيّات ظهرت محاولة أركون في «قراءة» التراث الإسلامي، وتأويل النص الديني(12)، ويعتبر أركون أكثر مَن توسَّع في استخدام المناهج الحديثة وخصوصاً اللسانية، وحسن حنفي الذي حاول أن يؤسِّس لتفسير معاصر اعتماداً على معطيات العصر المنهجية، ثم محمد شحرور في «الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة» (13) الذي اعتمد فيه على خليط من البنيوية والتاريخية، ونصر حامد أبو زيد الذي طرح في «مفهوم النّص» منهجه القائم على التأوّلية (hermeneutics) من خلال نقد تراث علوم القرآن... وغيرهم.
      تتميّز القراءة المعاصرة، وهي المرحلة الثانية في الدراسة المعاصرة للقرآن بالخصائص التالية:
      - مارست «قطيعة» جذرية في مناهج التأويل مع التراث، في حين تواصلت مناهج «التفسير العصري» معه، إلى حدّ التطابق، وهي «نقلة» سمحت بتجاوز عقبات المنهج التقليدي أمام التأويلات المتعسِّفة.
      - سمحت بتأويل لـ «كامل النص»، من خلال نماذج قابلة للتكرار، أو ممارسة شاملة (محمد شحرور)، في الوقت الذي كان فيه التفسير العصري يتعثّر في ترقيعاته، فليس هنا اجتزاء أو تأملات، بقدر ما هي ممارسة وبحث معرفي يتوسل بجهود ذهنية كبيرة ومنظَّمة.
      وإذا كان من ضرورات «الظاهرة» التكرار، والوضوح، فإننا نستطيع أن نصف «القراءة المعاصرة» بـ«الظاهرة»، خصوصاً منذ عقد التسعينات، حيث ساهم في هذا التحول الصَّخَبُ الذي تَمخضّ عن صدور كتاب شحرور «الكتاب والقرآن» تحت العنوان الفرعي: «قراءة معاصرة»، هذا الصَّخب الذي لم ينته بعد، والذي يعكس «استفزازاً» حقيقياً لمنظومة العقل المسلم المعهودة.
      النظرية:
      - النصَّ والدلالة: السلفية والمعاصرة!
      القرآن بوصفه «نصاً» وإن كان لا يتجاوز الحدود اللغوية، إلاّ أن مصدره الإلهي يجعل تلك اللغة لا تتجاوز وصفها «حاملاً» فكرياً، ولا تتعداه إلى السجن الثقافي (14). ولكن النصّ بوصفه «منجزاً لغوياً»، ونظاماً دلالياً، جهازٌ معقدّ لإنتاج المعنى، يتضمَّن مستويين للدلالة: «مستوى أولي: هو المستوى النظامي للدلالة، بمعنى أن الدلالة تتشكّل فيه طبقاً لقوانين التركيب (النحوي، المعجمي، الصرفي،...)، وهنا الدلالة (...) تنمو خطيّاً، وليس [هناك] (...) قراءة/ تأويل بالمعنى الحقيقي.
      والمستوى الثاني: هو مستوى الدلالة «غير النظامي»، هنا لا يمكن النظر إلى النّص على أنه رصفٌ للكلمات، وتركيب للجمل فحسب، ولكن يُنظر إليه على أنه فضاء متعدد الأبعاد، حيث المعنى الكلي للجملة لا يساوي مجموع مفرداتها، والمعنى الكلي للنص لا يساوي مجموع جمله، وعلى هذا المستوى تكون القراءة والتأويل. وإن وجود المستوى الأول يجعلنا لا نفهم الكلام كما يحلو لنا، وإن لم يكن في الوقت نفسه كما يريده المؤلف.. هو مستوى يحكم القارئ والنَّاص معاً، فهو ليس فردياً بقدر ما هو جماعي» (15). وهكذا يصبح تأويل/ قراءة النّص اجتهاداً يتساوى فيه الجميع.
      إذا كان هذا شأن «المساحة» التي يتم فيها التأويل، والتي تستلزم القدرة العقلية الاجتهادية أكثر من أي شيء آخر، فإلى أي حدّ يمتلك «السلف» سلطةً مرجعية للخطاب التفسيري المحاك عن النّص؟
      إن إعطاء السلف «سلطة» تأويلية ترجح على سلطتنا، بحيث يتحول السلف إلى مرجعية يقوم على مقولات عدة أبرزها المعرفة باللغة، وبأساليب التعبير والبيان بها. ولكن هذه المقولات نفسها تنشَأ عن مسلَّمة أن اللغة مطابقة للنّص.. واللغة مجموعة ألفاظ، وأساليب تعبير ثابتة تتوسل بها. والنص بما أنه لغة فهو كذلك مجموعة ألفاظ... إنها في الواقع رؤية ساذجة للنص تفتقد تصور النّص كجهاز دلالي، فعملية التأويل هي عملية «فوق لغوية»، وإن كانت تستند إلى اللغة، والمفردات المعجمية ليست إلاّ أرضية ابتدائية تتحدد بها فضاءَات الدلالة النصّية، وحينئذ «أهل اللغة وغيرهم في معرفة ذلك سواء، وإنما يختصّ أهل اللغة بمعرفة الأسماء والألفاظ الموضوعة لمسميّاتها، بأن يقولوا إن العرب سمّت كذا بكذا، فأما المعاني ودلالات الكلام فليس يختصّ بها أهل اللغة دون غيرهم» (16)، هذا فضلاً عن أن اللغة ـ بهذا المعنى ـ أصبحت في متناول الجميع من الخلف، بعد أن تراكمت الجهود المدونة في جميع الألفاظ وتحليلها، وتعقيد اللغة والكشف عن أنظمتها المتعددة التي تقوم بها. فالسلف بعد ذلك لم يعد يمتلك تلك المرجعية التأويلية، بل إن القول بهذه السلطة والإقرار بها يوقف النص عن إنتاج دلالته في كل عصر، ويقطع امتداده في الزمن الصالح ثقافة تاريخية راحلة.
      - مقومات المشروعية:
      مع تراكم البحث في دلالة النّص القرآني، أخذ علماء الإسلام في تأسيس قواعد لتناول النّص وقراءته/ تأويله. فقد كان علم أصول الفقه قد درس «الخطاب» كنّص، وجمل، ومفردات. فتناول بذلك المستويات الثلاثة لبناء «الخطاب» القرآني، وهو العلم الوحيد في العلوم الإسلامية الذي تجاوز الجملة لتقعيد الدراسة في النّص القرآني بشكل منهجي، بل إنه كان واعياً تماماً لمفهوم النّص إلى الدرجة الكافية (17) لتتعامل معه. فالمهمة التي نذر أصول الفقه نفسه لها منذ البداية هي النّص، وليس تقعيد اللغة؛ التي تعتبر بالنسبة له مقدِّمات ضرورية (18).
      وعندما تقدم البحث فيه، تكشّف عن مناهج متعددة (اعتزالية، حنفية، شافعية، ....)، ولكن ورغم ثراء علم الأصول في دراسة النّص القرآني، إلاّ أن تلك المناهج الأصولية بقيت معزولة بشكل أو بآخر عن ممارسة التفسير والتأويل، أو لم تستنفذ تلك الآلة الأصولية، لأنه كان ينظر دائماً إلى أصول الفقه كوسيطٍ بين الأحكام العملية وحدها والنص الشرعي، فمهمتّه كانت ترى دوماً في بحث الأحكام العملية (كما يوحي بذلك اسمه)، وكانت نزعته المذهبية تدعم آفة العمل الفقهي «الاجتزائي» كآلية تلتقي مع المنهجية التقليدية في التفسير.
      وإذا كان التفسير يقوم على مسافةٍ لغويةٍ بين خطابين: الخطاب القرآني، وخطاب التفسير نفسه، فإنه لمن المحال أن يتم اختصار هذه المسافة إلى درجة يمكن فيها للتطابق أن يأخذ سبيله إليها (19)، لأن خطاب التفسير ناتجاً ثقافياً لا محالة، قائماً على النسبي والممكن، وحاصلاً في الأفهام على مقدار اختلافها وتفاوتها، فهو رهن بشروطنا التاريخية والزمنية، وبظروف ذاتية وإنسانية بحتة. وإذا كان التفسير كـ «خطاب» منتج ثقافي تاريخي، فأدواته بالضرورة منتج مثله (ثقافي وتاريخي).. أي أنه ممكن التجاوز، فتلك الأدوات والمناهج ليست «فوق تاريخية».. إنها نسبيّة كنسبيتنا نحن منتجي الخطاب ذاته.
      يصبح أصول الفقه ـ بناءً على ذلك ـ كغيره من الأدوات ومناهج البحث التي ولدت مشروطة بتاريخها، وإن لم يعني ذلك أنها لم تعد تحمل أي صلاحية للقيام بالدور التأويلي، وإنما يعني ذلك أنه ليس ثمّة ما يلزمنا بالوقوف عندها، أي ثمّة فسحة لإمكانية التجاوز والإضافة، بل والاستبدال الكلي.
      من هنا تأخذ «القراءة» المعاصرة مشروعيتها، حيث حركة (الفهم/ التأويل/ القراءة) تستند إلى نسيج معرفي يحاول التكييف بين استرداف المنهج، وخصوصية الثقافة من جهة، وبين حداثة القراءة وتراثية المقروء من جهة ثانية، كما تحاول هذه الحركة التأويلية على مستوى آخر أن تقيم جسراً بين وعي المطلق ووعي التاريخ (20).
      إنه من العسير إثبات وَقف «الاجتهاد» في إنشاء مناهج البحث وأدوات استكشاف وتحليل المعنى في النّص القرآني وغيره، وبالتالي فإن من لوازم ذلك وجود إمكانية قيام مناهج جديدة(21).
      وهكذا يمكن القول إن القراءة المعاصرة تمتلك نظرية لها مشروعيتها، تلك النظرية التي تعتمد على مبدأ الاستفادة من «منجزات» الدراسات اللسانية الحديثة ومناهج النقد الأدبي المعاصرة، باعتبارها نتاج العصر الراهن أي الوليد الشرعي لهذا التاريخ المعاصر، (بغض النظر عن مدى سلامة هذا الوليد وصحته)، وإن كان السؤال لا زال يلحّ عن مدى سبق وتجاوز تلك المناهج والأدوات مثيلاتها التراثية؟!
      يبقى أن أحد عيوب القراءة المعاصرة تجاهلها «للنزعة الوضعية» التي ألحَّ عليها أصحاب تلك المناهج أنفسهم(22)، تلك النزعة التي تناقض بشكل صارخ خصائص النّص القرآني، وتصطدم مع البعد الأهم وهو المصدرية الإلهية بكل ما يعني ذلك من تحرر واستقلال عن ثقافة تاريخية ما. وإمكان إطلاقية أحكام النّص واعتبارها فوق تاريخية(23).
      والعيب الثاني الذي تسقط فيه أكثر تلك القراءات المعاصرة، تعاملها مع تلك المناهج والأدوات وكأنها كلها حقائق ثابتة وليست ـ كما هو الحال ـ نظريات لم تستقر، ولن تستقر كونها لا تحتمل القطع. إن الحقيقة التي ينبغي أن لا يُغفل عنها أن استنفاذنا لإمكانات النص القرآني دلالياً غير ممكن، بحيث إننا حين نظن ذلك نكون قد استنفذنا أدواتنا، واستهلكنا مناهجنا ذاتها وليس النص!. ذلك لأن النص القرآني نزل ليكون «عالمياً» خاتماً، فلابدّ أن لا يتوقف عن إنتاج الدلالة في كل زمان ومكان.
      - القراءة المعاصرة: من انتقائية المنهج إلى التوليف الإيديولوجي:
      كانت المناهج التراثية في التفسير تحول دوماً دون إقامة تأويل إيديولوجي، يستغرق كامل النص القرآني، مما جعل التأويلات الأيديولوجية التي مورست عليه تبدو نشازاً وترقيعاً فاقعاً، بحيث قلّما تحرر هذه الأيديولوجيا دون تعسُّف في التأويل، وتحميل النّص ما لا يحتمل. وهذا ما عزز الطريقة التجزيئيّة التي أشرنا إليها في البداية.
      ولكن مع القراءة المعاصرة التي استبدلت المناهج نشهد للمرة الأولى تأويلاً إيديولوجياً لكامل القرآن، فيه كثير من التماسك ومسحة المنطقية‍! بحيث أمكن إقامة «توليفاً» شاملاً للنص، أتاح فرصة للبعض لكي يحوّل نصوص القرآن وكأنها «حواشٍ ماركسية»! ينفي من خلالها اللهُ ذاتهَ!.. إن قراءة شحرو المعروفة نموذج صارخ لذلك؛ بحيث أن هذه القراءة حاولت مخاتلة النّص القرآني وخداعه أحياناً من موقف مضادٍ له، أو معادٍ له، لاستنطاقه بإيديولوجياها!.
      وبوصول القراءة إلى هذا التطوّر والمقدرة، استبّدت المخاوف في أوساط الدارسين الإسلاميين على ما آل التأويل مع هذا العبث الفاضح بدلالات النص القرآني، والخوف من كل تأويل «معاصر» خصوصاً عندما أصبحت تلك الممارسات الإيديولوجية التأويلية مقرونة باسم «القراءة المعاصرة».
      لقد تسبب ذلك في تزايد الشك بالغرب؛ كونه مصدر تلك المناهج والأدوات وحتى الأيديولوجيات! وفي تشكيك البعض في قيمة تلك الأدوات والمناهج الحديثة جملة وتفصيلاً(24). فما هؤلاء جميعهم من السذاجة والبساطة بحيث تمرر عليهم تلك التوليفات الغارقة في وحل الأيديولوجيا، ولكنهم وهم بعيدون عن تلك المناهج والأدوات (بحكم القطيعة الناشئة بينهم وبين الغرب) لم يكن من سبيل في مواجهة تلك القراءات سوى باتهامها وفضحها(25).
      ومن الضروري التمييز بين «القراءة المعاصرة» كنظرية، وبين «القراءة المعاصرة» كتطبيقات قائمة ومنجزة حتى الآن، فثمّ مسافة تفصل بينهما؛ بحيث يمكن تلك التطبيقات محاولات فيها الكثير من الخيبة. وإذا كان لنا أن نذكر فضل تلك القراءات، فإننا نذكر نجاحها في التنبيه إلى قيمة المناهج الحديثة، وقدرتها العالية على ممارسة التأويل، وإن كان ما تمّ ممارسته عملياً من تلك المناهج والأدوات حدّ ضئيل في الغالب؛ لا يتجاوز بعض المبادئ الأولية فيها (كالبنية، أو الدراسة التزامنية، ....) وهي مبادئ اللسانيات البنيويّة، أو بعض مقولات التأوّلية الحديثة، وبعض مقولات الأسلوبية.
      وفي المقابل نذكر أن الطريقة «الأيديولوجية» التي وظّفت لها تلك المناهج تحت مظلّة المعاصرة و«التجديد» كانت سبباً في تصعيد التوجس من أي محاولة جديدة في التأويل أو المراجعة النقدية، وهو أمرٌ يضاف إلى المساوئ العديدة التي أفرزتها تلك القراءات.
      غير أن بعض الباحثين لم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من اتهام للمناهج التي اسْتُخدمت في تطبيقات «القراءة المعاصرة» فقد كان وعيهم لطبيعة تلك المناهج، والطريقة التي استُغلت فيها عميقاً، مما دفعهم للإصرار على التعامل معها والاستفادة منها دون توجّس(26).
      إشكالية المنهج:
      تتميّز مناهج النقد الأدبي الحديثة وأدوات البحث الألسنية ونظرياتها بتنوع وتعدد واسعين، وداخل منهج هناك مدارس واتجاهات.. وعندما تمت محاولات «القراءة المعاصرة» للقرآن الكريم من خلال تلك المناهج لابدّ وأنها اصطدمت بهذا التنوع و التعدد، فكيف إذن مارست حضورها من خلال هذا الواقع؟
      من الطبيعي والحال هذه أن تكون طريقة التعامل مع تلك المناهج «انتقائية»، ولكن هذه الانتقائية قلّما تقوم على معطى معرفي، أي قلّما يفرضها البحث المعرفي نفسه، فقد قام «معيار» هذه الانتقائية طبقاً للأيديولوجيا التي يحملها القارئ! فمعضلة الأيديولوجيا تفرض نفسها دوماً في القراءة المعاصرة، هي مبدأ وغاية في الوقت نفسه، هي خلفية مستترة وهدف واضح، فقد اختارت منهجها تبعاً لقدرتها على «تبريرها»، واستنطاق النّص بها. وهكذا عندما مورست «القراءة المعاصرة» كان الهدف هو البحث عن شرعية أيديولوجياها، وأفكار مسبقة مرافقة لها، ولم يكن الهمُّ هو البحث عن موقف تأويلي أكثر قرباً من الصواب قط!.
      إذا تجاوزنا قضية الانتقائية تلك، فسيوقفنا ما أشرنا إليه قبل قليل من الإشكالية الحقيقيّة لتلك المناهج التي تتمثل في استخدام مناهج وأدوات بحث أُنشئت وصيغت لدراسة وبحث النّص البشري الإنساني ـ بمعنى أنها مفعمة بالوضعية ـ لدراسة نصّ «إلهي» المصدر، مفارق للوضعية البشرية؟
      إن أية قراءة تتجاوز هذه الإشكالية دون حلولٍ، ستقوم ـ بشكل أو بآخر ـ بأنسنه الله (سبحانه)! وإن تحييد تلك المناهج والأدوات عن جرعتها «الوضعية» أمرٌ في غاية الصعوبة؛ ولكنه ممكن. ولا يمكن بحالٍ الاستفادة من تلك المناهج دون ملاحظة هذه الإشكالية ووعيها. فالشرط الأساسي للقراءة بتلك الأدوات والمناهج لتحقق مشروعيتها هو مراعاة خصائص النّص القرآني، أي تطويع تلك المناهج والأدوات لخصائصه كنّص ديني إلهي المصدر (27).
      - التراث والمعاصرة:
      هل تقتضي «المعاصرة» قطيعةً جذرية مع مناهج البحث التراثية وتراكماتها المعرفية حول النّص؟ لا شك أن القراءة المعاصرة نحت هذا المنحى، متجاهلةً تلك الجهود، وعندما نحاول استكشاف خلفيات هذه القطيعة فإننا سنعثر على أسباب عديدة، أدت بمجموعها إلى الجهل بالتراث وانقطاع الصلة مسبقاً، مما يجعله عسيراً عن البحث، فضلاً عن ارتباطه «جملةً» بمفاهيم بسيطة ولا معقولة عن النّص.
      في وقت يعكس فيه هذا الموقف ـ في المقابل ـ عجز القارئ عن تناوله والتواصل معه، عجز ارتبط في كثير من الأحيان مع أيديولوجياه المنبتة عن التراث أصلاً.
      إننا نستطيع أن نعزو ذلك (القطيعة الجذرية مع التراث) إلى شيء أكثر تأثيراً برأينا، وهو «الرغبة المحمومة» في المعاصرة والأخذ بالجديد (28).
      المناهج التراثية في المحصلة جهود بنيت من داخل لغة النص، وعلى ضوء معايشته، وعلى وعي حقيقي لمفهوم «النص». وتتضمن الكثير مما لم يتم استنفاذه أو الاستفادة منه. ولا شك أن تجاهل أو تجاوز ذلك الإرث الأصولي الضخم خسارة جسيمة في حق مناهج البحث والتأويل المعاصرة في قراءة النّص القرآني، ولن نبالغ إذا قلنا أن بعض المقولات الأصولية متجاوزة في جوانب عديدة لمقولات تلك المناهج الأدبية واللسانية الحديثة، كما هي في الوقت نفسه قاصرة عنها في جوانب كثيرة أيضاً. ومع ذلك تبقى تلك المناهج قادرة على «قراءة مشروعة» بحدّ ذاتها؛ إذا تُجنّبت صيغتها الوضعية.
      - النّص والمعاصرة:
      النّص القرآني بوصفه «نّصاً دينيّاً»، لابُدَّ أن ينتج دلالته باستمرار، فهو «لا يخلق من كثرة الترداد»، وبوصفه نصّاً لرسالة خاتمة (أبدية) لابُدَّ أن يكون معاصراً باستمرار، بحيث يصبح على الدوام «مجاوزاً للتاريخ، وأمام الظروف الإنسانية لا خلفها» (29). وإن البحث عن «تجديد» لمنهج دراسة النص القرآني ضرورة، ليست لعدم كفاية الخطاب التفسيري فحسب، بل لفتح آفاق معناه، وتفجير إمكاناته، فالنَّص القرآني يتجاوز دوماً المنهج بقدر مما يفتح للمنهج آفاقاً لقراءته.

      الهوامش:
      (1). يرى الدكتور محمد خاتمي أن سؤال الحداثة كان مستحوذاً على عقول المجتمعات «غير الغربية» دائماً، وتبعاً للإجابة التي قدّموها كانت هناك ثلاثة تيارات تبرز باستمرار: التيار المتشبّث بالتراث، والتيار المتغرّب، والتيار الإصلاحي.
      (انظر: مطالعات في الدين والإسلام والعصر، بيروت، دار الجديد، ط3، 1999م، ص56-57).
      (2). مقال للشيخ محمد عبده بعنوان: العلوم الحديثة والعالم الإسلامي، منشور في مجلة الأهرام بدءاً من العدد (36) (نقلاً عن: عاطف العراقي، الشيخ محمد عبده: مفكراً عربياً ورائداً للإصلاح الديني والاجتماعي (بحوث ودراسات عن حياته وأفكاره، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 1995م، ص389-395).
      (3). ( الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، تحقيق محمد عمارة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972م، ج6، ص153، (نقلاً عن أبو عاذرة عطية سليمان، مشكلتا الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي الحديث: عند كل من محمد عبده ومحمد إقبال (دراسة مقارنة)، بيروت، دار الحداثة، ط1، 1985م، ص69-70).
      (4). المصدر نفسه، ص70.
      (5). طبع في القاهرة عام 1923م.
      (6). بنت الشاطئ، عائشة. القرآن والتفسير العصري: هذا بلاغ للناس، القاهرة، دائرة المعارف، ط1، 1970م، (سلسلة إقرأ/ 335)، ص38-39. وأشارت إلى أنه ولد في ظروف صعود العلمانية عقب ثورة عرابي، وأنه جاء ردّ فعل «ليريحنا من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف».
      (7). طبع في القاهرة عام 1956م، ثم منع من التداول بقرار من لجنة الأزهر (انظر الذهبي، حسين. التفسير والمفسّرون، القاهرة، ط ، 19، ج4، ص ) وقد صنّفه الذهبي تحت «لون التفسير الإلحادي»!.
      (8). ظهر المصطلح لأول مرّة مع مصطفى محمود عام 1970م، في مقالات مجلّة «صباح الخير» المصرية، ثم جمعها في كتاب تحت عنوان: «القرآن: محاولة لفهم عصري»، طبع في العام نفسه.
      (9). كما في محاولة مصطفى محمود نفسها.
      (10). يمكن اختصار مفهوم «القراءة» على أنه «موقف من النّص»، وهو بذلك أكثر من «تأويل»، وإن كان يتضمنه. استخدم هذا المصطلح لدى الباحثين العرب بمعنى التأويل والتحليل غالباً.
      (حول مفهوم «القراءة» انظر: خالد السعيداني، إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: محمد أركون نموذجاً. لنيل شهادة الدراسات المعمّقة، تونس، جامعة الزيتونة، 1998م، ص ).
      (11). نعتبر طرح أمين الخولي لـ«التفسير البياني» إحياءً لمنهج تراثي، أكثر منه منهجاً جديداً، كونه لا يمت إلى المناهج الحديثة بصلة كبيرة. ولذلك نعتبر تجربة حاج حمد في العالمية الثانية البداية.
      (12). انظر حول جهد أركون في ذلك، خالد السعيداني، م. س، من ص إلى ص .
      (13). طبع في دمشق عام 1990م، الطبعة الأولى.
      (14). يذهب اللسانيّين المعروفين وورف وسابير إلى أن اللغة مرتبطة بالثقافة، ولا تنفك عنها. وبذلك حين نفكر فإننا نفكر بلغة، وبالتالي محكومين بثقافة تلك اللغة، والتي تصبح مع الزمن تاريخاً. كما أن التأوُّلية كمنهج لتأويل النص، قام أساساً على مبدأ ارتباط النّص بظرفه التاريخي، لأن الوعي الإنساني مموقع في التاريخ ولا يستطيع تجاوزه. كما أن العالم فيرث يرث أن السياق جزءٌ من النّص، والتاريخُ من السياقِ. وقد اعتمد نصر حامد أبو زيد على هذه المقولات لإثبات تاريخيّة النّص القرآني (انظر: مفهوم النّص: دراسة في علوم القرآن، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990م، ص24-ص28، والباب الأول من الكتاب يشير إلى ذلك، فعنوانه «النص في الثقافة (التشكُّل والتشكيل)» من ص29-ص112).
      (15). انظر للباحث: ميتافيزيقا النّص القرآني: إشكالية النّاص والمعنى، مجلة الملتقى، العدد صفر، بيروت، الملتقى الفكري للإبداع، أيار/ مايو، 1999م، ص5.
      (16). الجصّاص، أبو بكر الرازي الحنفي (ت370هـ)، الفصول في الأصول، تحقيق: عجيل النشمي، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ط2، 1994م، ج1، ص307.
      (17). يذكر كثير من الباحثين إلى أن استعمال كلمة «نص» في التراث الإسلامي والأصولي خصوصاً، كان محصوراً في درجات قوة الدلالة وضعفها (في القطع والظن). وفي الواقع أننا نعثر لدى الأصوليين استخداماً لمصطلح «النّص» أشهر تعريفات النَّص المعاصرة. فكان الأصوليون يفرقون بين الخطاب ويذكرون أن له أنواعاً، أما النّص فلا أنواع له، وللكلام أقسام، وللخطاب «مفهوم» أو «مسكوت عنه»، اصطلح عليه أحياناً بـ «دليل الخطاب»، و«فحوى الخطاب»، و«لحن الخطاب». أما النّص فهو إما وصف للدلالة، أو وصف للخطاب، حيث يعرَّف النّص أحياناً بأنه «خطاب يمكن أن يعرف المراد منه».
      لمراجعة هذه المصطلحات انظر على سبيل المثال: (الزركشي، بدر الدين بن بهادر الشافعي (745-794هـ)، تحرير: عبد الستار أبو غدّه، ومراجعة: عبد القادر العاني، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة، ط2، 1992م، ج6/ص636، ص639، ص673، ص684، وج1/ 463، وحول مفهوم النّص راجع ج1، ص462).
      ولكن ورغم أن الأصوليين كانوا على وعي بمفهوم النّص والخطاب والكلام. لم ينظّروا لتحليل النّص مجرّداً عن كونه نصّاً قرآنياً، ولهذا يغيب مصطلح «النَّص» ويبقى مفهومه حاضراً في تقعيد البحث الأصولي في كثير من المواطن. بل إن قضايا الأصول أسست على التعامل مع النّص، الذي يتطابق مع استعمالاته المعاصرة.
      (18). عياشي، منذر. قراءة الذات للقرآن. مقدمة ترجمة كتاب: القرآن وعلم القراءة، لجاك بيرك، بيروت، داء التنوير، حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1996م، ص22.
      (19). تشير إلى ذلك كل كتب الأصول في مقدّماتها التمهيدية.
      (20). منير، وليد. النص القرآني من الجملة إلى العالم، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1997م، سلسلة المنهجية الإسلامية، 14-15.
      (21). مزيك، سامروفا. حرية العقل في الاجتهاد، بحث تمهيدي لمرحلة الماجستير، بإشراف الدكتور طيب الإبراهيم، بيروت، كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية، 1998م، ص30.
      (22). بارت، رولان. نقد وحقيقة، ترجمة: منذر عياشي، الأعمال الكاملة/ 3، حلب، مركز الإنماء الحضاري، 1994م، ص16.
      (23). انظر: ميتافيزيقا النّص القرآني، م. س، ص4.
      (24). يقول الدكتور البوطي ـ مثلاً ـ «كنت ولا أزال أستهين به، وأشكُّ في قيمته وجدواه» «إن الدعاة إلى العلمانية، ومحترفي الغزو الفكري من يسعى لاهثاً إلى شطب الدلالات التي تحملها نصوص القرآن والسنّة الصحيحة، وحشوها بدلالات ومعانٍ جديدة، باسم (اللسانيات)، وما يقتضيه قانون (اللسانيات)، أي أنهم يحاولون أن يجعلوا من (اللسانيات) هذه بديلاً عن قانون الدلالة العربية المنبثقة عن الاصطلاحات التوفيقية في ربط المعاني بألفاظها الدالة عليها، وبديلاً عن القواعد التوفيقية الأخرى المتبعة في فقه اللغة. وأذكر أن حواراً جرى في أحد المؤتمرات بيني وبين الدكتور محمد أركون وهو أحد الذين يصرّون على الاستعاضة عن قواعد فقه اللغة، وقاموس الدلالات اللغوية، مما يسميه (الألسنية)، ومن ثم فهو يقرر ضرورة تفريغ القرآن من المعاني، التي كانت منوطةً به إلى اليوم، وملئه بعد ذلك بما توحي به قواعد الألسنية هذه، وحسب فهمه وقناعته، وهي نفسها الترنيمة التي يشدو بها دعاة (القراءة المعاصرة)».
      وإن أعمال بعضهم للسانيات هو «عملُ من يحلم بأن يجعل من هذه التجربة وسيلةً خفيَّة للعبث بحقائق ثابتة في دين الله وكتابه عن طريق العبث بقواعد فقه اللغة».
      (انظر: مقدمته لكتاب: نبيل خياط، وإذ أعيد قراءة الجهاد، دمشق، دار الفكر، ط1، 1997م، ص12-13).
      (25). كانت هذه هي مجموعة ردود الفعل التي قوبلت بها القراءات المعاصرة، والملفت للنظر أن المتخصصّين في الدراسات القرآنية والأصولية قلّما كتبوا ردّاً عليها.
      (26). انظر في هذا المجال تجربة وليد منير في كتابه «النص القرآني: من الجملة إلى العالم»، م. س. ومنذر عياشي الذي قدّم مقاربة لسانية للنص القرآني في كتابه اللسانيات والدلالة «الكلمة» (طبع: حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1996م، ص92). وهو مهتمٌّ الآن بإنجاز دراسة لسانية في القرآن بعنوان: جنون اللغة في قراءة القرآن (أعلن عنها في بعض كتبه). ونبيل خيّاط، الذي أعلن عن مشروع لدراسة مصطلحات القرآن، دراسة لسانية في مجالس جودت سعيد، حيث قدّم نماذج منها خصوصاً عام 1997م. ومارس شيئاً من ذلك في كتابه «وإذ أعيد قراءة الجهاد»، م. س، ص21-33.
      (27). يرى الدكتور العلواني أن أزمة التعامل مع الكتب التي أنزلت على الرسل، ليست في رفضها، ولكن «في تعامل من أنزلت عليهم معها تعاملاً بشرياً، محكوماً بما تعارفوا عليه فيما بينهم من مألوف لسانهم، وأنه ليس شيئاً سوى ذلك، وتجاهلهم للفرق الكبير بين اللغة حين يستعملها الإنسان للتعبير عن مكنوناته، واللغة حين يستعملها خالقه ليضمّنها نوره وهدايته».
      (انظر: العلواني، طه جابر. تقديم كتاب: النص القرآني: من الجملة إلى العالم، م. س، ص11. وحول أثر تلك الخصائص النص القرآني: إشكالية النّاص والمعنى، م. س).
      (28). نلحظ هذا جلياً عند أركون في مجموع جهوده.
      (29). عياشي، اللسانيات والدلالة، م. س، ص13.

      الرابط (almultaka.net/web/m00-p2.htm )