بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، سيدنا محمد وعلى إخوانه النبيين وآله الطاهرين وصحبة أجمعين، ومن أتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد،
إن من مفرزات حركة تحرير المرأة المسلمة هي الدعوة إلى القضاء على الحجاب، فدعوة الملكة رانيا ليست جديدة بل هي قديمة أسسها المستشرقون العلمانيين، فما جاءت به ليس إلا ترديد ما جاء في كتاب المرأة في الشرق تأليف مرقص فهمي المحامي - نصراني الديانة - والكتابان تحرير المرأة، والمرأة الجديدة فكلاهما من تأليف قاسم أمين ، نشر الأول في عام 1899 والثاني في عام 1900م، بدعم من الشيخ محمد عبدة وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد. فقد زعما بأن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وإن الدعوة إلى السفور ليست خروجًا على الدين.
هذا والله أسأل أن يصعد هذا ذروة القبول، ويجعله خالصاً لذاته الكريمة، وينفع به من ضل عن سبيله، ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول.
وحين بلغ القول الملكة رانيا إلى هذا المبلغ أخذت في سرد مقاصد الهدي، حتى أرفع عن وجوه عرائس العلوم وتراجمها حجاباً، فالذي يراعي سياق الآيات القرآنية ويقن بأنها مترابطة ببعضها البعض. فقوله سبحانه {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يثبت بأن ما من شيء إلا وهو في الكتاب، فلا يقصد بالكتاب في هذه الآية القرآن، بل المقصود هو أم الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ. قال تعالى {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ففي هذا الآيات يثبت سبحان بأن أم الكتاب غير القرآن. فلهذا يجب الحذر في التعامل مع ألفاظ القرآن، فلا يجب علينا أن نعين لفظ "الكتاب" على القرآن إلا بعد التيقن بأن القصد هنا هو القرآن، فالكلمة "كتاب" و"الكتاب" ذكرت في 161 موضوعاً في القرآن، 43 منها معرفة و118 غير معرفة بألف لام التعريف، فمع تعدد مواضع الذكر تعددة المعاني، ومن المعاني:
1) القرآن، {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}
2) التوراة، {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
3) الإنجيل، {وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ}
4) التوراة والإنجيل معاً، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}
5) عدة الزوجة، {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
6) اللوح المحفوظ، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
وغيرها، من المعاني.
فالقرآن نزل مفصلاً مبيناً فيه الحكم فيما يختصم فيه، فقد قال سبحانه {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} فقد أمرنا الله بأن نعمل بالحق الذي أنزله الله ولا نكون من الممترين، أي من الشكاكين. وهنا يجب علينا أن نقف، فأحكام القرآن هما نوعان:
1) أحكام مفصلة، كأحكام النكاح وغيرها.
2) أحكام مجملة، كأحكام الصلاة والحج وغيرها.
فقد ترك سبحانه للسنة النبوية تفسير الأحكام المجملة وشرحها، فلا يجب بأي حال من الأحوال إنكار السنة النبوية والتي لا بد منها، فقد فرْض الله طاعةَ رسول الله مقرونةً بطاعته، فقد قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم يكن ذلك يَصلح لغير الله ورسوله، ففي حال النزاع الرجوع لله ورسوله، فإن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة فيه، لقول الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} ومن تنازع ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصًّا فيهما ولا في واحد منهما، فالرد قِياساً على أحدهما، كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى. وقال {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} كما قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}
فقبل التطرق لأمر الحجاب، يجب تعريف الحجاب لغةً واصطلاحاً، فالحجاب في اللغة: السَّاتِر، وتأْويلُ الحِجاب: المُطيعُ؛ ومستوراً ومأْتياً أما اصطلاحاً: جاءت بمعاني عديدة، فالحجب والحجاب: المنع من الوصول، يقال حجبه حجباً وحجاباً، وحجاب الجوف ما يحجب عن الفؤاد، وقوله تعالى {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}، ليس يعني به ما يحجب البصر، وإنما يعني ما يمنع من وصول لذة أهل الجنة إلى أهل النار، وأذية أهل النار إلى أهل الجنة، كقوله عز وجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، وقال عز وجل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، أي من حيث ما لا يراه مكلمه ومبلغه وقوله تعالى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}، يعني الشمس إذا استترت بالمغيب. والحاجب المانع عن السلطان، والحاجبان في الرأس لكونهما كالحاجبين للعين في الذب عنهما. وحاجب الشمس سمي لتقدمه عليها تقدم الحاجب للسلطان، وقوله عز وجل {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} إشارة إلى منع الكفار من رؤية الله عز وجل والسماح به للمؤمنين. أما قوله تعالى {مِن وَرَاء حِجَابٍ} المقصود به حجاب المرأة الشرعي الساتر لسائر البدن وفي قول عدا الوجه والكفين.
ففرض الحجاب لم يثبت بالسنة النبوية فحسب، بل من القرآن، ففي شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، نزلت آية الحجاب، قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} ولما نزلت حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه عن الأجانب عنهن، وحجب الصحابة نساءهم عن الأجانب عنهن؛ فالحجاب فرض عام على كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة، وبيان ذلك:
1) لمات نزلت هذه الآية تحجب أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن, واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين.
2) قوله {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}ْ علة لفرض الحجاب في قوله سبحانه {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} بمسلك الإيماء والتنبيه، وحكم العلة عام لمعلولها هنال؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة، مطلوبة من جميع المسلمين ، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة رضي الله عنهن. فثبت فرض الحجاب حكماً عاماً على جميع النساء، ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه.
3) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقصر أحكامها في دائرة أسبابها ليس دليل لتعطيل للتشريع، أن قاعدة توجيه الخطاب في الشريعة، هي أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، كما في قوله {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} فنفهم بأن حكم هذه الآية عام لجميع الأمة؛ للاستواء في أحكام التكليف، ما لمن يرد دليل يجب الرجوع إليه دالاً على التخصيص، ولا مخصص هنا.
4) زوجات النبي أمهات لجميع المؤمنين، قال تعالى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فلذلك حرم نكاح أمهات المؤمنين على التأييد كنكاح الأمهات {وَلَا تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً}. وإذا كانت زوجات النبي كذلك، فلا معنى لقصر الحجاب عليهن دون بقية نساء المؤمنين؛ ولهذا كان حكم فرض الحجاب عاما لك مؤمنة، مؤبدا إلى يوم القيامة، وهو الذي فهمه الصحابيات.
5) فمن القرائن الدالة على عموم حكم فرض الحجاب على نساء المؤمنين، أن الله سبحانه استفح الآية بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} وهذا الاستئذان أدب عام لجميع بيوت المؤمنين، ولا أحد يقول بقصر هذا الحكم على بيوت النبي دون بقية بيوت المؤمنين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" (رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي) ومن قال بتخصيص فرض الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول بقصر حكم الاستئذان كذلك ولا قائل به.
6) ومما يفيد العموم أن الآية بعدها {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام وهو فرض الحجاب، ودعوى تخصيص الأصل يستلزم الفرع، وهو غير مسلم إجماعا؛ لما علم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها كالأب غير محجبة، أما غير المحارم فواجب على المرأة الاحتجاب عنهم.
7) ومما يفيد العموم، ويبطل التخصيص، قوله {وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} في قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} وبهذا ظهر عموم فرض الحجاب على التأييد.
اسأل الله تعالى أن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه انه على كل شئ قدير. و الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه أخوكم/ أبو إبراهيم الرئيسي (18 شوال 1422 هـ)
المصادر والمراجع:
1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري.
2) الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري.
3) لسان العرب لابن المنظور الإفريقي.
4) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني.
5) البداية والنهاية، لإسماعيل بن كثير الدمشقي.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، سيدنا محمد وعلى إخوانه النبيين وآله الطاهرين وصحبة أجمعين، ومن أتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد،
إن من مفرزات حركة تحرير المرأة المسلمة هي الدعوة إلى القضاء على الحجاب، فدعوة الملكة رانيا ليست جديدة بل هي قديمة أسسها المستشرقون العلمانيين، فما جاءت به ليس إلا ترديد ما جاء في كتاب المرأة في الشرق تأليف مرقص فهمي المحامي - نصراني الديانة - والكتابان تحرير المرأة، والمرأة الجديدة فكلاهما من تأليف قاسم أمين ، نشر الأول في عام 1899 والثاني في عام 1900م، بدعم من الشيخ محمد عبدة وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد. فقد زعما بأن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وإن الدعوة إلى السفور ليست خروجًا على الدين.
هذا والله أسأل أن يصعد هذا ذروة القبول، ويجعله خالصاً لذاته الكريمة، وينفع به من ضل عن سبيله، ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول.
وحين بلغ القول الملكة رانيا إلى هذا المبلغ أخذت في سرد مقاصد الهدي، حتى أرفع عن وجوه عرائس العلوم وتراجمها حجاباً، فالذي يراعي سياق الآيات القرآنية ويقن بأنها مترابطة ببعضها البعض. فقوله سبحانه {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يثبت بأن ما من شيء إلا وهو في الكتاب، فلا يقصد بالكتاب في هذه الآية القرآن، بل المقصود هو أم الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ. قال تعالى {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ففي هذا الآيات يثبت سبحان بأن أم الكتاب غير القرآن. فلهذا يجب الحذر في التعامل مع ألفاظ القرآن، فلا يجب علينا أن نعين لفظ "الكتاب" على القرآن إلا بعد التيقن بأن القصد هنا هو القرآن، فالكلمة "كتاب" و"الكتاب" ذكرت في 161 موضوعاً في القرآن، 43 منها معرفة و118 غير معرفة بألف لام التعريف، فمع تعدد مواضع الذكر تعددة المعاني، ومن المعاني:
1) القرآن، {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}
2) التوراة، {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
3) الإنجيل، {وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ}
4) التوراة والإنجيل معاً، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}
5) عدة الزوجة، {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
6) اللوح المحفوظ، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
وغيرها، من المعاني.
فالقرآن نزل مفصلاً مبيناً فيه الحكم فيما يختصم فيه، فقد قال سبحانه {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} فقد أمرنا الله بأن نعمل بالحق الذي أنزله الله ولا نكون من الممترين، أي من الشكاكين. وهنا يجب علينا أن نقف، فأحكام القرآن هما نوعان:
1) أحكام مفصلة، كأحكام النكاح وغيرها.
2) أحكام مجملة، كأحكام الصلاة والحج وغيرها.
فقد ترك سبحانه للسنة النبوية تفسير الأحكام المجملة وشرحها، فلا يجب بأي حال من الأحوال إنكار السنة النبوية والتي لا بد منها، فقد فرْض الله طاعةَ رسول الله مقرونةً بطاعته، فقد قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم يكن ذلك يَصلح لغير الله ورسوله، ففي حال النزاع الرجوع لله ورسوله، فإن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة فيه، لقول الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} ومن تنازع ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصًّا فيهما ولا في واحد منهما، فالرد قِياساً على أحدهما، كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى. وقال {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} كما قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}
فقبل التطرق لأمر الحجاب، يجب تعريف الحجاب لغةً واصطلاحاً، فالحجاب في اللغة: السَّاتِر، وتأْويلُ الحِجاب: المُطيعُ؛ ومستوراً ومأْتياً أما اصطلاحاً: جاءت بمعاني عديدة، فالحجب والحجاب: المنع من الوصول، يقال حجبه حجباً وحجاباً، وحجاب الجوف ما يحجب عن الفؤاد، وقوله تعالى {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ}، ليس يعني به ما يحجب البصر، وإنما يعني ما يمنع من وصول لذة أهل الجنة إلى أهل النار، وأذية أهل النار إلى أهل الجنة، كقوله عز وجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، وقال عز وجل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، أي من حيث ما لا يراه مكلمه ومبلغه وقوله تعالى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}، يعني الشمس إذا استترت بالمغيب. والحاجب المانع عن السلطان، والحاجبان في الرأس لكونهما كالحاجبين للعين في الذب عنهما. وحاجب الشمس سمي لتقدمه عليها تقدم الحاجب للسلطان، وقوله عز وجل {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} إشارة إلى منع الكفار من رؤية الله عز وجل والسماح به للمؤمنين. أما قوله تعالى {مِن وَرَاء حِجَابٍ} المقصود به حجاب المرأة الشرعي الساتر لسائر البدن وفي قول عدا الوجه والكفين.
ففرض الحجاب لم يثبت بالسنة النبوية فحسب، بل من القرآن، ففي شهر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، نزلت آية الحجاب، قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} ولما نزلت حجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه عن الأجانب عنهن، وحجب الصحابة نساءهم عن الأجانب عنهن؛ فالحجاب فرض عام على كل مؤمنة مؤبد إلى يوم القيامة، وبيان ذلك:
1) لمات نزلت هذه الآية تحجب أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن, واستمر ذلك في عمل نساء المؤمنين، هذا إجماع عملي دال على عموم حكم الآية لجميع نساء المؤمنين.
2) قوله {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}ْ علة لفرض الحجاب في قوله سبحانه {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} بمسلك الإيماء والتنبيه، وحكم العلة عام لمعلولها هنال؛ لأن طهارة قلوب الرجال والنساء وسلامتها من الريبة، مطلوبة من جميع المسلمين ، فصار فرض الحجاب على نساء المؤمنين من باب الأولى من فرضه على أمهات المؤمنين، وهن الطاهرات المبرآت من كل عيب ونقيصة رضي الله عنهن. فثبت فرض الحجاب حكماً عاماً على جميع النساء، ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عموم علة الحكم دليل على عموم الحكم فيه.
3) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكثير من آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها، وقصر أحكامها في دائرة أسبابها ليس دليل لتعطيل للتشريع، أن قاعدة توجيه الخطاب في الشريعة، هي أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، كما في قوله {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} فنفهم بأن حكم هذه الآية عام لجميع الأمة؛ للاستواء في أحكام التكليف، ما لمن يرد دليل يجب الرجوع إليه دالاً على التخصيص، ولا مخصص هنا.
4) زوجات النبي أمهات لجميع المؤمنين، قال تعالى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فلذلك حرم نكاح أمهات المؤمنين على التأييد كنكاح الأمهات {وَلَا تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً}. وإذا كانت زوجات النبي كذلك، فلا معنى لقصر الحجاب عليهن دون بقية نساء المؤمنين؛ ولهذا كان حكم فرض الحجاب عاما لك مؤمنة، مؤبدا إلى يوم القيامة، وهو الذي فهمه الصحابيات.
5) فمن القرائن الدالة على عموم حكم فرض الحجاب على نساء المؤمنين، أن الله سبحانه استفح الآية بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} وهذا الاستئذان أدب عام لجميع بيوت المؤمنين، ولا أحد يقول بقصر هذا الحكم على بيوت النبي دون بقية بيوت المؤمنين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" (رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي) ومن قال بتخصيص فرض الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول بقصر حكم الاستئذان كذلك ولا قائل به.
6) ومما يفيد العموم أن الآية بعدها {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام وهو فرض الحجاب، ودعوى تخصيص الأصل يستلزم الفرع، وهو غير مسلم إجماعا؛ لما علم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها كالأب غير محجبة، أما غير المحارم فواجب على المرأة الاحتجاب عنهم.
7) ومما يفيد العموم، ويبطل التخصيص، قوله {وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} في قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} وبهذا ظهر عموم فرض الحجاب على التأييد.
اسأل الله تعالى أن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه انه على كل شئ قدير. و الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه أخوكم/ أبو إبراهيم الرئيسي (18 شوال 1422 هـ)
المصادر والمراجع:
1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري.
2) الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري.
3) لسان العرب لابن المنظور الإفريقي.
4) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني.
5) البداية والنهاية، لإسماعيل بن كثير الدمشقي.