عاجل جدا

    • أنا وجدت هذا الشرح في إحدى المنتديات التربوية :) باسم رحمه زهدي جمال الدين
      وسأضع المصدر في نهاية النقل للأمانة
      عاد ان شاء الله تستفيد منها





      أنشودة المطر - بـدر شاكر السياب
      محمد لطفي اليوسفي
      في كل قطرة من المطر
      حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
      و كل دمعة من الجياع و العراة
      وكل قطرة تراق من دم العبيد
      فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
      أو حلمة توردت على فم وليد
      في عالم الغد الفتي واهب الحياة
      بدر شاكر السياب مبدع "أنشودة المطر" جمع في شعره كل المفارقات التي خلخلت البلاد العربية وهزتها جذريا منذ بداية الخمسينات ثقافيا واجتماعيا
      انه شاعر الحب، والثورة، والموت
      لذلك يمكن أن نقول بأن قراءة نتاجه هي، بمعنى ما، محاولة للنفاذ إلى عمق تلك المفارقات وضبط إرهاصات التحولات الكبرى التي شهدتها القصيدة العربية. ذلك أنه- أي السياب- من أول المبدعين الذين مارسوا التغيير وعانوا من عذاباته عندما شرعوا في البحث عن القصيدة التي تلغي، نهائيا، مسألة الموضوع الواحد (الغرض) وتستوعب تجربة حياتية كاملة تقولها بلغة شعرية تستمد كل طاقاتها الفنية من النصوص ما يوفره من أبعاد جمالية تستند إلى علاقاته الداخلية وحركاته

      لذلك سنحاول أن نقترب من هذه التجربة في أبرز لحظات تألقها وعطائها أي في المرحلة التي دخل فيها السياب حقل البحث عن القصيدة التي تحاول أن تقول عصرا كاملا من الصراعات (الأسلحة والأطفال 1 - حفار القبور 2 - المومس العمياء 3 أي مرحلة البحث عن الملحمة؟ يقول إحسان عاس 4

      تنبني قصيدة أنشودة المطر (على علاقة مركزية تنشأ بين صوت الشاعر والرمز الذي يستدعيه (عشتار: آلهة الخصب) التي يتحول النص في حضرتها إلى قداس ابتهالي تمثل هذه الحلاقة دائرة مركزية أولى يتحلق حولها حشد من الدوائر المتتابعة. فنلمح في الدائرة الثانية الأم التي ماتت والطفل يهذي قبل أن ينام. ونرى في الدائرة الثانية "العراق الذي يذخر الرعود و البروق" الخ… حتى لكأن القصيدة سلسلة من التموجات الدائرية التي تقود الواحدة منها إلى الأخرى على نحو انسيابي تلقائي. لذلك يتجلى النص في شكل حشد من الومضات المتناوبة، تأتي لتضيء الواقع كشكل دوري وتكشف التناقضات التي تعتمل في صلبه، ثم تغور، من جديد، في منبعها (صوت الشاعر)

      نتيجة لهذا الشكل الدائري، تتمكن القصيدة من الإحاطة بمسيرة الشاعر ووطنه، تنفذ في نبرة درامية، إلى دواخل هذه التجربة، محاولة أن تصوغها في قالب "أسطورة ملحمية"

      إنها لم تعد مجبرة على التصاعد الخطي، بل صارت تعود بصفة مستمرة إلى الواقع من زوايا عديدة وتعريه بطرق مختلفة، لتصهره أخيرا في قالب وحدة متناغمة، لا يمكن أن تدرس من خارج منطقها الداخلي، أي دون الإمساك بالقانون الذي يديرها على ذلك النحو المحكم ويسمح لها بأن تدور على نفسها ولا تسقط في الرتابة والتكرار. هذا القانون هو: الرمز. انه الرابط الأساسي الذي يشد مفاصل النص ويجنبه الانكسار والتفكك، ذلك أنه يتحكم بجميع الحركات الداخلية التي تؤسس مجتمعة بنية النص الشعري ذاته نظام الحركات
      الحركة الأولى
      تنشأ الحركة الأولى في شكل علاقة بين الشاعر والرمز الذي يوظفه. وتأخذ في التشكل فجأة، حتى لكأنها علاقة أبدية قائمة خارج الزمن. هنا يوظف الشاعر الجمل الاسمية ليوحي باللازمان. عيناك غابتا نخيل ساعة
      السحر
      وشرفتان راح ينأى عنهما القمر
      هكذا تبدأ القصيدة، منذ اللحظة الأولى، برسم طموحها: أنها تريد أن تفلت من شروط الزمن وتتحول إلى نبوءة أو إلى أسطورة. وتضطلع الجمل الاسمية، ضمن نفس التوجه، بدور آخر، في غاية الأهمية عندما توحي بالسكون والهدوء. بذلك تأتي الجملة الشعرية الأولى وكأنها نوع من التجلي، وتأتي الصورة موغلة في الشفافية وتتضافر مع النبرة الابتهالية التي تسم صوت الشاعر لترسم منذ البدء مسار النص: انه يتنزل في عمق الصراعات أي في لحظة البدء، لحظة تحاول الحياة أن تكون.

      الحركة الثانية

      تأتي هذه الحركة بعد أن تكون الحركة الأولى قد بلغت ذروة الهدوء. وهذا الهدوء هو، في الحقيقة، حالة السكون القصوى التي تسبق البدء، بدء الحياة أو تجددها لذلك تأتي الحركة بعده مباشرة:

      ……. تورق الكروم
      وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
      تبعا لذلك تطغى الصبغة الفعلية، وتتكاثر الأفعال التي ترشح بدلالة واحدة: إنها لحظة البدء (تورق الكروم... ترقص الأضواء... تنبض النجوم...). تأتي هذه الحركة بمثابة النتيجة للحركة الأولى، لذلك لا تلغي الهدوء إلغاء كليا بل تجاوره وتتقدم لتتجاوزه تدريجيا. فتحافظ الصور غلى طابعها الانسيابي وعلى شفافيتها لتوحي ببداية الحياة، حتى لكأننا في لحظة البدء فعلا. الطبيعة وحدها حاضرة (ا لكروم... ا لمياه... ا لنور).

      هكذا تصل القصيدة إلى ضبط أجوائها وتبلغ أحد منعطفاتها الكبرى، فتستعصي على التقدم بشكل يصعب معه على صوت الشاعر أن يواصل الوصف. ذلك أن المواصلة تقود حتما إلى تعطل هذا التكثيف الشعري و إلغائه، والانتقال إلى موضوع آخر يجعل النص ينكسر من الداخل. هنا بالضبط يتدخل الرمز ويأخذ على عاتقه هذه المهمة الصعبة.
      الحركة الثالثة
      تأتي هذه الحركة لتنتشل النص: إنها تتغلغل هابطة داخل الرمز نفسه. فينفتح تدريجيا على جملة من الدلالات بتعبير آخر اكثر دقة، إن الرمز يبرز في شكل ذوات أو تجليات تظل، تظهر وتختفي بصفة دورية عبر مجمل مراحل النص. معنى ذلك: أن الرمز يظهر في اكثر من وجه ويلبس اكثر من قناع: إنه:

      أ - عشتار، آلهة الخصب والعطاء، ربة الطبيعة والحياة المتجددة. ذلك أنها تستمد جميع صفاتها وخصوصياتها المميزة من عناصر الطبيعة (عيناك غابتا نخيل) وتسهم في إيجادها (عيناك حين تبسمان- تورق الكروم- ترقص الأضواء- يرجه المجذاف)
      ب - الأم التي ماتت عندما كان الشاعر طفلا. إنها "تنام نومة اللحود"
      ج - الوطن: العراق أرض التناقضات والقهر (ما مر عام والعراق ليس فيه جوع. وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق)
      د - الخليج: هنا تنشط الذاكرة وتطرح مخزونها في شكل ومضات توحي بغربة الشاعر أثناء ذهابه إلى إيران لاجئا (أصيح بالخليج يا خليج إ...!
      هاء المطر: في هذا المستوى تطفو الصبغة الرمزية من جديد. ذلك أن كلمة المطر ترد، نتيجة دخولها في شبكة من العلاقات مع بقية الألفاظ، متضمنة لامكانات متعددة من الدلالات تتضافر، جميعا، لتوحي بمفهوم الثورة أو التجدد الدائم.
      لذلك نجده حاضرا مع الأم في اللحد
      مع الأطفال في عرائش الكروم
      (مع العبيد في مواسم الحصاد)
      إنه يرجع إلى مستقره (عشتار) ويتحد به. فتتخذ القصيدة بذلك شكلا دائريا، أي تتقدم في قالب تموجات دائمة أو دوائر مترابطة داخليا

      التوجه الدرامي
      يلعب الرمز دور الدعامة المركزية التي تسم القصيدة بنبرة درامية. ذلك انه يعطل النبرة التفجعية التي يتردى فيها النص أحيانا، يمكنه من استيعاب حركة الصراع، ببعديها الاجتماعي والوجودي.. فيصبح قائما على جملة من المبادئ يمكن أن نلخصها في الظواهر التالية
      أنشودة المطر - بـدر شاكر السياب
      ظاهرة التضاد

      يتحول النص، بموجبها، إلى حركة تستوعب في صلبها مفارقات الحياة، وكل ما فيه يوحي بحركة الجدل التي تعتمل في الواقع. تشمل هذه الظاهرة جميع العناصر المكونة للنص. نأخذ على سبيل المثال عنصرين:
      : الألفاظ
      و أول ما نلاحظه في هذا الصدد، أن الألفاظ جميعها تقريبا تأتي موظفة للإيحاء بالمفارقة الضاربة بجذورها في عمق الوجود، وما ينتج عنها من صراع. نأخذ كمثال هذه الكلمات
      الموت ________________________ الميلاد
      الظلام ________________________ الضياء
      (المطر (رمز الخصب ________________________ الجوع
      (عشتار (الأم الخالدة ________________________ (الأم (الرميم
      : الصور
      ترد الصور أيضا موقعة بمبدأ التضاد، نأخذ على سبيل المثال: صورة الأطفال في الكروم __________صورة العبيد في الحقول الخليج يطرح المحار __________الخليج يطرح عظام بائس غريق
      يجب أن نشير هنا إلى أن هذا الانتقال من الضد إلى الضد يتبع نوعا من التسلسل الدوري المنتظم فيرفد النص بأبعاد إيقاعية تجنبه الاتكال على الوزن والقافية، وتقوم، في الآن نفسه، بتخليصهما من طابعهما الاكراهي فيصبح كل من الوزن والقافية مجرد عنصر إيقاعي داخل حشد كبير من العناصر المتناغمة
      : ظاهرة الجدل بين الذاكرة والرؤيا:
      يأتي هذا الجدل بمثابة الصدى المباشر لتواجد الأضداد وتصبح القصيدة مشروطة في تقدمها بنوع من الجدل الدائم بين الذاكرة: وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع ثم اعتللنا- خوف أن نلام- بالمطر
      : و الرؤيا
      في كل قطرة من المطر
      حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
      وكل دمعة من الجياع والعراة
      وكل قطرة تراق من دم العبيد
      فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
      أو حلمة توردت على فم الوليد
      في عالم الغد الفتي واهب الحياة


      تطرح الذاكرة مخزونها في شكل ومضات تنبع من الماضي (الطفولة- الغربة على الخليج- الصراع في عراق القهر والنضال) فتلجم الغنائية التي سيطرت على النص نتيجة طابعه الابتهالي، وترفده بنبرة واقعية
      وتلح في الآن نفسه على أن تلك المفارقة الضاربة بجذورها في عمق الوجود موجودة بالضرورة في الواقع المعيش فينفتح النص على الواقع ويصوغه في شكل ومضات واقعية تشحنه بدلالات سياسية

      وكل عام- حين يعشب الثرى- نجوع
      ما مر عام- والعراق ليس فيه جوع
      -----------------------------------
      أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
      ويخزن البروق في السهول والجبال

      وبالمقابل، تتحفز الرؤيا وتنشط لتوضح مسار تلك الصراعات وترسم توجهاتها الكبرى مؤكدة، دائما، على حتمية الخلاص الجماعي
      هذا الجدل يتحكم بجميع حركات النص ويمزج الواقعي بالرمزي. فيصبح الرمزي عبارة عن مثير يحرك الومضات الواقعية ويستوعبها فتذوب في تلاوينه وتكف عن كونها ناشزة أي مقحمة إقحاما في (القداس الابتهالي). تبعا لذلك، تغلت القصيدة من جميع أشكال الانفعالات الآنية المسطحة. لكن الطابع الغنائي يتضافر مع بعض الألفاظ المشبعة بنبرة تفجعية واضحة (تنشج المزاريب- كم ذرفنا... من دموع- تسح من دموعها الثقال) ويسم النص بنفس تفجعي يمارس على توجهه الدرامي نوعا من اللجم يحبطه فلا يتأسس. بل كظل مجرد نزوع لا غير
      تبدو هذه الفجوة، لأول وهلة، عميقة جدا. لكن الرمز يخفف من حدة هذا الانكسار ويحمل القصيدة على تجاوز كل أنواع المباشرة السطحية والحماسة الاحتجاجية

      مزج الذاتي بالموضوعي

      يتدخل الرمز مرة أخرى هنا ويسمع للنص بتجاوز البنية المتعارفة. فتستند القصيدة إليه وتتخلى نهائيا عن التصاعد المألوف الذي تنبني عليه القصيدة العربية القديمة. وبذلك تخلق بنيتها الخاصة التي تتماشى مع متطلبات التوجه الدرامي، فتتحول إلى مجموعة من الومضات تظل تخفق بشكل دوري داخل الدائرة الكبرى (النص)
      ترد هذه الومضات في شكل تداعيات تطرأ على الرمز من داخله كما بينا سابقا، فيتحفز و تستقطب جميع الحركات، ويسمح للصوت الخارجي (صوت الشاعر) الذي يبرز لينقلنا من وحدة إلى أخرى ثم يختفي، بالتراجع والامحاء. هنا بالضبط يدخل الرمز ويشهد نوعا من التفرع الداخلي فإذا به (عشتار موت الأم- وطن القهر والصراع - خليج التشرد والضياع..). تنكشف هذه الوجوه المتعددة، تدريجيا، لتشكل عالما متناغما يمتزج فيه الذاتي، أي طفولة الشاعر (وكركر الأطفال في عرائش الكروم (...) كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام...) وغربة المناضل المطارد (أصيح بالخليج .. يا خليج/ يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى،) وآلامه في عراق القهر والجوع (وكل عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مر عام والعراق ليس فيه جوع) بالموضوعي، أي الصراع المصيري الذي تخوضه قوى التغيير

      أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
      ويخزن البروق في السهول والجبال
      حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
      لم تترك الرياح من ثمود
      في الوادي من أثر

      وتلتقي فيه الرؤيا (سيعشب العراق بالمطر) بالواقع (وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق)
      من هنا، تتمرد القصيدة على الماضي وتستوعب مسيرة الشاعر ووطنه. بتعبير أكثر وضوحا، إنها تلغي ما يسميه المصطلح النقدي القديم بالغرض، وتصبح الحياة بجميع مفارقاتها موضوعها الرئيسي
      يجب أن نشير في هذا الصدد إلى أمر-ش بالغي الأهمية. يتمثل الأول في كون التلاقي بين هذه المستويات المختلفة يتبع نوعا من التسلسل الدوري أي يتتابع ويتناوب فيفرز إيقاعا داخليا يذوب في الايقاع النابع من الطابع الابتهالي الغنائي الذي ينبني عليه النص. أما الثاني فيتعلق بالتزاوج الذي يحدث بين المستوى الرمزي والمستوى الواقعي وبموجبه يسحب الرمز تأثره على الومضات الواقعية فيسمها بنوع من الشفافية، ويجعلها تذوب في النسيج العام وتنفتح، في الآن نفسه، على اكثر من معنى. تبعا لذلك "تكسر الكلمات صلبانها" أي تتخلى عن مباشريتها وتتسربل بالغموض فيكف البيت بالنتيجة، عن كونه صدرا، أو عجزا، ويتحول إلى وحدة ذات دلالات كثرة متناغمة بعضها يقود إلى البعض الآخر. ومن ثم تصعب بل تستحيل علينا قراءتها في ضوء ما نعرفه من الشعر العربي القديم. نأخذ على سبيل المثال هذه الوحدة

      وكركر الأطفال في عرائش الكروم
      ودغدغت صمت العصافير على الشجر
      .أنشودة المطر

      ونشير إلى أننا نستطع أن نأخذ كلمتي- الأطفال والعصافير- في معناهما الحقيقي وتظل الوحدة مع ذلك موحية نتيجة الصورة التي ترعها وما تخلقه من أبعاد تخييلية. لكن الرمز يسحب تأثيره. على الكلمتين يشحنهما بدفق دلالي فتوحي الأولى بتجدد الحياة وولادة "العالم الفتي" الذي بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق. وتدل الثانية، بمعنى ما، على الحرية والانطلاق
      بهذا تتمكن القصيدة من شد المتلقي وتحمله في "رحلة ذهنية" داخل دفق الدلالات المتعددة المنبثقة من عدول الشاعر عن الطريقة المنطقية في تشكيل الكلام. بالمقابل تقوم الومضات الواقعية بلجم التوجه الغنائي وتسمه، كما بينا سابقا، بنبرة واقعية تجعله كشف عن التناقضات التي تزخر بها مرحلة تاريخية تختزلها القصيدة وترسم توجهاتها الكبرى
      هكذا تحاول (أنشودة المطر) أن ترسي بنيتها حسب ما يتطلبه التوجه الدرامي من عناصر مسرحية. لكن الصراع ظل، في الحقيقة، خافتا محتشما. فالذوات الحاضرة في النص لا تشارك في توتير الحركة الكبرى الماضية من العدم (الأم الميتة) إلى الحياة أو الوجود (عشتار أو عالم الغد الفتي)
      صحيح أن صوت الشاعر ينجح في الانتقال من وحدة إلى أخرى مستخدما وسيلتين: المخاطبة والتداعي حتى لا يبدو ناشزا، ولكنه طفو على السطح على حساب تلك الذوات الحاضرة في النص، فتبدو "محنطة" أحيانا لا تشارك في خلق الحركات والأفعال على نحو بارز محدد. لذلك تصبح جميع أفعالها (العراق الذي يذخر الرعود/ المهاجرون الذين يصارعون عواصف الخليج/ العبيد في الحقول...) مجرد حركة صغرى داخل حركة حتمية كبرى هي حركة الحياة التي تحاول أن تكون وتتجدد (عشتار)
      تبعا لذلك جاء الصراع الخارجي في شكل إشارات لا تسمح للتوتر الدرامي ببلوغ ذروته وجاءت رموزه (العبيد... العراق الذي يذخر الرعود...) غير فاعلة في النص على النحو الذي يسمح ببروز ذلك التوتر ودفعه إلى الأمام. إنها مجرد مشاهد تنبع من ذاكرة الشاعر مشبعة بالحنين، وتلحق بالرمز العشتاري لتذوب فيه
      وبالإضافة إلى ذلك جاء الصراع الداخلي باهتا أيضا. ذلك انه يتجلى في شكل انفعالات يعيشها الشاعر،تستفيق ملء روحي رعشة البكاء) ولا ينقلنا إلى داخل الذوات الحاضرة في النص ويكشف ما تعانيه من تمزقات
      يشكل هذا الإخفاق في الوصول إلى ذروة التوتر الدرامي الوجه الآخر لنجاح الشاعر في جعل صوته محملا للنص بأسره من البداية إلى النهاية. إن جميع حركات النص منبثقة، كما قلنا سابقا، عن هذا الصوت الذي يشهد، فيما هو يتقدم، جملة من الانبثاقات تظل تصعد من العمق إلى السطح أي تطلع من ذاكرة الشاعر محكومة بإيقاع المطر (الوجه الآخر للرمز العشتاري) الذي يجعلها تذوب من جديد في مستقرها (عشتار). هنا تتجلى إرهاصات النبرة الصوفية التي تحد من الطابع الغنائي الراجع إلى المخاطبة (مخاطبة الشاعر لرمزه) لكنها تعجز عن كسر المساحات التي يحتلها الصوت. بتعبير آخر، إن النص يعجز عن إرساء بناء درامي مكتمل فيستند إلى الصوت الخارجي الذي بزوده بطاقات جديدة (تداعيات الذاكرة) تسمح له بالتقدم. لذلك نجد ذاكرة الشاعر تطرح مخزونها على مراحل أي في شكل دفعات واضحة المعالم "الطفل/ المناضل المقموع)
      من هنا يمكن أن نقول أن النص يطمح إلى "مسرحة" بنيته من ناحية وينزع، من ناحية أخرى، إلى التشكل وفق ما يتطلبه التوجه الدرامي من توتر وانفراج. لكن هذا الطموح يظل مجرد نزوع. وبذلك تكون (أنشودة المطر) قد أشارت إلى أفق جديد سترتاده القصيدة العربية المعاصرة وتمضي فيه بعيدا كما سنلاحظ عندما نحلل بقية النماذج المختارة.

      أنشودة المطر
      الزمن
      أشرنا في مدخل هذه الدراسة، إلى أن البحث عن سمات الزمن الذي تتحرك ضمن أطره القصيدة يمكن أن يعتمد كمنفذ هام في. مقاربة "القصيدة الجديدة". كيف تتعامل أنشودة المطر مع الزمن؟ أو ما هي سمات الزمن الذي تطرحه؟ تحتوي القصيدة على زمنها الخاص في صلبها. غير أن هذا الزمن يأخذ، في الحقيقة، أكثر من وجه، ويصير إلى التكون مرافقا صيرورة النص ذاته
      تبعا لذلك يصبح الإمساك بسماته المميزة شكلا من أشكال النغاذ إلى محور هام من المحاور التي تنهض عليها بنية النص
      ولعل أول ما نشير إليه في هذا الصدد، أن نص السياب ينبني على زمنين رئيسيين
      أحدهما منبثق عن الجو الأسطوري الرمزي الناتج عن حضور الرمز العشتاري، وراجع إليه. وثانيهما متولد عن الومضات الواقعية التي ترد في شكل تداعيات منبعها ذاكرة الشاعر
      الزمن الأول: زمن أسطوري ملحمي (#)
      يتجلى هذا الشكل الزمني بطريقتين:
      يبدأ النص ساكنا هادئا،كما قلنا سابقا، فتطغى الجمل لاسمية (عيناك غابتا نخيل/ شرفتان راح ينأى عنهما القمر) ثم تأتي الأفعال كلها في المضارع (عيناك تبسمان / تورق الكروم/ ترقص الأضواء/ تنبض النجوم) فتوحي بالاستمرارية والدوام. وتأتي الحركة التي توحي بها تلك الأفعال في شكل "سريان! يتسم، بدوره، بالسكون. فالأقمار ترقص دون ضجة والكروم تتفتق دون صخب، حتى لكأننا ننزل داخل لحظة الخلق أو البدء. قبلها كانت الأرض خربة وكان العدم، ثم تسرى الحياة (دبيب نمل) ولا شئ هناك غير: الماء.. النور.. النباتات. هكذا تبدأ القصيدة كالأسطورة، أسطورة الحياة وهي تجاهد لتكون. لذلك تأتي الانفتاحات الصوتية العديدة الواردة في الجمل الأولى، لتوحي بتلك المجاهدة والمغالبة. مغالبة الحياة للعدم
      ما هو زمن هذه الحركة ؟ انه اللازمان أو هو، في الحقيقة، لحظة النبوءة أو لحظة الرؤيا التي لا يمكن أن تقاس بمقاييس الزمن الموضوعي المتعارف ينسحب هذا الشكل الزمني على مجمل النص فتأتي جميع الحركات ذائبة في تلاوينه. لذلك نرى الصراع الذي يشير إليه النص في اكثر من موضع (الصراع مع عواصف الخليج/ صراع العبيد في الحقول/ بإيجاز صراع العراق الذي يذخر الرعود) يكف عن كونه صراعا اجتماعيا سياسيا ويتحول إلى صراع شبه أسطوري أو شبه ملحمي يصب في لحظة البدء، حتى لكأنه نوع من المغالبة تجاور مغالبة الحياة للعدم ثم يصبان معا في "عالم الغد الفتي واهب الحياة" أي في لحظة التجدد وتأتي اللازمة الصغيرة "مطر مطر مطر"بمثابة المستقر الذي تظل جميع الوحدات والحركات تصب فيه. ولما كان المطر في الحقيقة، هو الوجه الآخر لعشتار أي انه رمز الخصب والتجدد، فانه يسم جميع الحركات بأبعاده ويجعلها تتحرك داخل الشكل الزمني المتسم بالثبات والدوام
      الزمن الثاني: زمن ميقاتي متعارف
      يأتي هذا الشكل الزمني ليرفد الأول ويحد، بالضرورة، من جموح النص حتى لا ينزلق على الواقع ويتناساه. وبذلك يمنح النبوءة أو الأسطورة مرتكزات تجعلها تستدعي الواقع وتصهره في صلبها. هنا تلعب ذاكرة الشاعر دور الدعامة المركزية التي تنهض علها هذه الظاهرة. ذلك أنها تطرح مخزونها في شكل تداعيات يمكن أن نفرعها إلى قسمين:
      أ - قسم مداره طفولة الشاعر، لذلك نجد الطفل الذي كان يحضر في اكثر من موضع:
      (....)كنشوة الطفل إذا خاف من القمر
      (...)وكركر الأطفال في عرائش الكروم
      (...)كأن طفلا بات يهذي تبل أن ينام
      ومنذ أن كنا صغارا كانت السماء
      تغيم في الشتاء
      ويهطل المطر

      ب - قسم مداره القمع الذي عاشه الشاعر وهو على نوعين:

      - القمع داخل العراق :

      (...)وفي العراق جوع
      (...)ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
      (...)وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق


      - التشرد خارج العراق :
      (...) و كم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
      (...) أصيح بالخليج: يا خليج
      لا بد من الإشارة هنا، إلى أن عملية التداعي تأتي في شكل ومضات تشع وتختفي عبر مجمل حركات النص ومراحله. لذلك نراها تقوم بتنزيل النص في الواقع وتمنحه دفقا إنسانيا حميما يلغي طابعه التعميمي فيذوب الوجع الذاتي في الوجع الموضوعي وبالإضافة إلى ذلك تتحول هذه الومضات، نتيجة ما تتبعه من تسلسل دوري إلى قانون من القوانين الهامة التي تدير البنية الإيقاعية. بمعنى آخر اكثر وضوحا، إن التداعيات تدخل في علاقة تناوب ذات وجهين،
      تناوب داخلي: يتجلى هذا الشكل في قالب انتقال دوري من عذابات الطفولة إلى عذابات المناضل المقموع. وبذلك تكون الومضات قد تفاعلت فيما بينها على نحو يسهم في خلق إيقاع داخلي خاص

      تناوب خارجي: يتجلى هذا الشكل في قالب انتقال دوري أيضا، لكنه يحدث بين الومضات التي ترشح بأحداث واقعية والطابع الابتهالي الأسطوري الذي يسم مجمل وحدات النص. من هنا يصبح صوت الشاعر والنص بالتبعية له عبارة عن حركة تمضي في اتجاهين: الابتهال في حضرة عشتار وتعرية الواقع. تبعا لذلك لا يمكن للابتهال أن يصير بدون التداعي والتداعي لا يمكن أن يكون بدون الابتهال. وبذلك يصبح النص عبارة عن وحدة متناغمة تحمل في بنيتها شروط صيرورتها وتحمل في صيرورتها أسباب تحققها كنص شعري يلغي القديم ويتجاوزه
      العلاقة بين الزمنين
      هذه العلاقة هي إحدى الحركات المحورية التي تسمح للنص بالتشكل والتقدم. فالزمن الأول يخلع على الأحداث التي تجرى في الزمن الثاني شفافية الحلم فتلحق بالطابع الأسطوري الطاغي وتذوب فيه
      ويأتي الزمن الثاني ليعطى القصيدة طاقات جديدة تسمح لها بالتقاط حركة الصراع التي تعتمل في الواقع سلبا وإيجابا. يجب أن نشير هنا، إلى أن الأحداث التي تجري في الزمن الثاني، تأتي في الحقيقة، مهيأة للذوبان في الأول
      ذلك أنها جملة من الأحداث أمعنت في الغياب وصارت تسكن الذاكرة-ذاكرة الشاعر- ومن ثم صارت في مأمن، لا يمكن للزمن أن يطالها ويحدث فيها فعله أي يغيرها كما يغير الأشياء التي تجري في اللحظة الحاضرة المتفتتة. بمعنى آخر إن الزمن لا سلطان له على الذاكرة والأشياء التي تسكن ذاكرتنا تظل دائما هي- هي. لذلك لا يكبر الأموات في ذاكرتنا ولا يهرمون فنتذكرهم دائما كما رأيناهم في السابق
      ولذلك أيضا عندما يستدعي الشاعر أحداثا عاشها في الماضي تأتي في شكل صورة شفافة مرهفة حتى لكأنها عبارة عن حالة دائمة لا يدركها الزمن أنها تستدعى مرارا وتظل دائما هي، هي محافظة على شفافيتها. تبعا لكل هذه العوامل مجتمعة نراها تكسر آنيتها وتجاور الزمن الأسطوري الملحمي لتذوب فيه وتنساب متتابعة، على نحو تلقائي، داخل الجو الأسطوري العام. نصل بعد هذا إلى بقية العناصر التي تسهم في خلق القصيدة كالصورة ومنجزاتها والإيقاع الشعري وطرائق حضوره.
      ا لصورة
      لاحظنا أن التداعي يمثل، بمعنى ما، الجذر الذي تعتمده القصيدة وتستند إليه عبر مجمل مراحل تقدمها. وقد تمظهرت التداعيات، كما أشرنا سابقا، في شكل صور تتوالد داخل الصوت الذي ينقلها. لذلك تحول النص إلى حشد من الصور تنبني، جوهريا، على التشبيه المتعارف الذي تظهر جميع عناصره
      صحيح أن الصورة أصبحت تشكل وحدة مركزية مكنت النص من تجنب جميع أنواع الانفعالات الحماسية، وجعلته ينفذ إلى دواخل الواقع ويلتقط التناقضات التي تعتمل في صلبه. لكنها لم تستطع أن تكسر البساطة التي تسمها. ومن ثم عجزت عن توظيف طاقاتها في خدمة التوجه الدرامي الذي تحاول القصيدة، جاهدة، أن ترتقي إلى مصافه
      بتعبير اكثر وضوحا عجزت الصورة نتيجة اعتمادها على وسيلة بسيطة جدا (التشبيه الذي ظهرت جميع أطرافه: كأن طفلا.../ كالبحر.../ كأنما تنبض في غوريهما النجوم) عن استيعاب الواقع. لقد اكتفت بوصفه. إنها لم تنقل حركة الصراع الجدلي القائم في الواقع بل وقفت عند رسم تجلياته. لذلك أغرقت النص في نوع من التفجع (تنشج المزاريب/كم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع/ تسح ما تسح من دموعها الثقال...) يذكر، إلى حد ما، بالتفجع الرومنطيقي. معنى ذلك أن القصيدة تخرج من الماضي فعلا لكنها تظل تحمل بعض ترسباته. لا يعني هذا. طبعا، أن الصور قد أصبحت بدون وظيفة. إنها تقوم رغم نقائصها تلك، بدورين هامين
      أ تسم النص بأبعاد إيقاعية واضحة عندما تتوالد وتتحول إلى جملة من الإشعاعات التي تومض بصفة، دورية، متتابعة داخل القداس الابتهالي. ب تقوم، مستندة دائما إلى وسائلها المتواضعة، (التشبيه- الطباق)، بإبراز المفارقة الكامنة في عمق الحياة
      دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
      والموت والميلاد والظلام والضياء

      ومن ثم تلح على موضوعة الخلاص البشرى التي تتحلق حولها القصيدة، خصوصا عندما تجمع المتناقضات وتؤلف بينها (الموت- الميلاد/ الظلام- الضياء/ دفء- ارتعاشة)

      الإيقاع
      يمكن أن نقول في ضوء النتائج التي وصلنا إليها بأن "أنشودة المطر" قد أسست، معتمدة على مؤهلاتها الذاتية، إيقاعا خاصا ينبع من دواخلها انه ينبثق عن الحركات التي يشهدها الرمز العشتاري والعلاقات التي يخلقها مع بقية الذوات الحاضرة،؟ ينبع من ظاهرة التداعي التي تتبع نوعا من التسلسل الدوري، بالإضافة إلى مسألة التضاد الجدلي، وما توفره من تناغم بين المتناقضات.

      بإيجاز: لم يعد الوزن الخليلي يلعب دور المحدد الرئيسي لإيقاع النص. صحيح أن السياب يستعمل بحر الرجز. لكنه يخلصه من طابعه الاكراهي فتصبح التفعيلة موظفة في خدمة الإيقاع المعنوي

      واضح إذن أن "أنشودة المطر" موسومة بطموح كبير. إنها تريد أن تلغى الماضي وتقطع مع جميع مخلفاته بكل صرامة. لذلك نجدها تتحفز وتجند كل طاقاتها لتكسر مساحة الإيقاع الشعري القديم وتخلق إيقاعها الخاص. إنها تستعمل طرائق متنوعة وتصهرها في شكل ضوابط إيقاعية خارجية ترفد بها الإيقاع الداخلي، منها: التكرار: يتجلى بطريقتين واضحتين

      - لازمة صغرى تتمثل في ترديد كلمة مطر
      - لازمة كبرى ترد مرتين لتؤكد على حتمية الخلاص البشري أي حتمية مجيء "الغد الفتي واهب الحياة"

      الوسائل البلاغية القديمة
      (هنا، يستند السياب إلى لغة الماضي فيستدعي الجناس (مبسم- ابتسام
      وكل قطرة تراق من دم العبيد
      فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
      والطباق (الموت والميلاد والظلام والضياء). تلعب هذه المحسنات دورا إيقاعيا على المستوى الصوتي وذلك باستدعاء نفس الصورة الصوتية في الجناس وعلى المستوى الدلالي في حالة الطباق أين يصبح الانتقال الدوري من الضد إلى الضد ثابتا إيقاعيا
      ندرك إذا في ضوء ما تقدم أن هذه القصيدة تعيش داخل مدارات البحث. لذلك وردت مليئة بالتحفز والترجرج. إنها تحاول أن تخرج من الماضي مستندة على مؤهلاتها (الرمز الأسطوري- الصورة وما تمنحه من أبعاد إيقاعية- وتزاوج الذاكرة والرؤيا...) وتوظف جميع الإمكانيات حتى الماضي نفسه خصوصا عندما تستند إلى المحسنات البديعية والوزن والقافية لتخلق بنية متفردة
      من هنا يمكن أن نقول إن هذه القصيدة تمثل فعلا الفضاء الذي ستتحرك داخله القصيدة العربية الجديدة وتحاول أن ترتاد جميع آفاقه كما سنرى في ما بعد، أي عند استقراء تجربة سعدي يوسف ومحمود درويش وعلى أحمد سعيد (أدونيس)
      ملحوظة:
      سنستعمل عبارة زمن أسطوري ملحمي للدلالة على زمن يتسم بالثبات والدوام. ويجعل النص يفلت من عقال الآنية ويصبح عبارة عن أسطورة أو نبوءة تختزل الأزمان جميعها وتلغي شرطيتها
      / مصدر النص : في بنية الشعر العربي - محمد لطفي اليوسفي -الطبعة الثانية- 1992 سراس للنشر- تونس






      66.79.187.153/eduforums/archive/index.php/t-10476.html