بحوث تربوية مختلفة

    • بحوث تربوية مختلفة

      ( مصعب ابن عمير من الترف إلى الشظف)
      كان مصعب بن عمير - رضي الله عنه - أول سفير يبعث من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ليعلم أهلها الإسلام ويدعوهم إلى الإيمان.
      يروي ابن إسحاق أنه بعد بيعة العقبة الأولى، وانصراف الأنصار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين فعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: "أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانوا يقرئُون الناس، فقدم علينا بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر ابن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي( ص) ، ثم قدم النبي( ص) ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قدم حتى قرأت: "سبح اسم ربك الأعلى" .. في سور من المفصل (1).
      ونزل مصعب على أسعد بن زراره، فكان يُسمى بالمدينة المقرئ، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمّوا بعضاً رضي الله عنهم أجمعين ..

      نموذج لصدق الداعية وحكمته
      ===================
      عن ابن إسحاق أن أسعد بن زراره خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد لأسيد، لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا؛ ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً.
      قال فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة، قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
      قال: فوقف عليهما متشتماً، فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الغريب الطريد، ليتسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؟
      قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما، لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن. سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد ابن معاذ مقبلاً. قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة، خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك. قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً مخوفاً، للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت "بلغت" هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن.
      وذكر موسى بن عقبة: أنه قرأ عليه أول الزخرف. قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام، قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته، فأقبل عائداً إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله، لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبه، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
      قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة، ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وكان شاعراً قائداً لهم، يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق(2).
      الدروس والعبر
      ============
      مصعب بن عمير نموذج للداعية المخلص الصادق الذي تفتقر إليه مجتمعاتنا التي ملئت بدعاة فقراء من كل مقومات الداعية الناجح، ومن حياته نستخلص بعض الدروس والعبر وفي مقدمتها:

      1- بالإخلاص والتضحية تنتشر الدعوات:
      إن إخلاص الداعية وصدقه، وحبه لدعوته وشغفه بها وتضحيته العزيزة الغالية في سبيلها لهما من أهم عوامل النجاح، وإقبال الناس على دعوته.
      وما أقبل الناس على الإسلام في صدره الأول، ودخلوا فيه أفواجاً إلا لتضحيات الصحابة والتابعين بكل غال ورخيص في سبيل تبليغ دعوتهم.
      وما انصرف الناس عن الإسلام، وما ضعف ووهن في قلوب معتنقيه، إلا بإخلاد دعاته إلى الراحة والدعة، والإقبال على الترف الزائد، والنعيم المترف، الذي أقعدهم عن تحمل الصعاب، وحال بينهم وبين تكبد المشاق، وأفقدهم صدق كلماتهم عن الجهاد والتضحية، فلم تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية..
      2- ولعل هذا هو السر في إقبال الناس على كل داعية مخلص في عصرنا وكل عصر، وكيف لا وليس لهم من زاد في دعوتهم التي ينطلقون بها، إلا الإخلاص والوفاء والصدق والتضحية الغالية، التي لا تقف عند حد.
      إن صدى الكلمات المخلصة الصادقة يجوب الأرجاء ويعم الأنحاء، حتى إنه ليصل إلى كل مكان على سطح المعمورة قال تعالى: ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (التوبة:32).
      2- نبع القلب يفيض على القلوب:
      إن الدعوة النابعة من القلب تجد طريقها إلى قلوب الناس ميسرة، وقد قال ابن عطاء: "كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز". إن لهذه الجملة من حكم ابن عطاء، لدلالات يجب أن يفطن لها الدعاة إلى الله الذين يرشدون الخلق إلى خالقهم، ويعرفونهم على طريق الهدى، الذي جاءنا به الرسول ص، وليعلم هؤلاء الدعاة أنهم بقدر ما يتمكن الإيمان في قلوبهم بقدر ما يكون تأثير حديثهم في هداية الناس وإرشادهم، ولقد جاء في الحكم أيضاً: "تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيثما صار التنوير وصل التعبير". وعلامة الكلام الذي يسبقه التنوير، تأثيره في القلوب وتهييجه الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا سمعه الطائع زاد نشاطه، وعظم شوقه، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه الواصل تمكن من حاله، فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير فَحَدُّ كلامه آذان المستمعين، فكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز، لذلك قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "من تكلم عرفناه من ساعته، ومن لم يتكلم عرفناه من يومه".
      3- الحلم والصفح:
      على الداعية أن يقبل السيئة بالإحسان، وأن يكون متصفاً بالحلم والصفح، وأن يعلم أن الطريق لكسب القلوب المعادية للدعوة إنما يكون بالإحسان إلى من أساء، وتذكُّر قول الله تعالى دائماً: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (فصلت:34).
      ألا ترى إلى مصعب وقد جاءه أسيد، ثم سعد، وكل منهما وقف عليه متشتماً، فما غضب ولا ثار ولا تأثر، ولكنه رد عليهم الرد الجميل، وهدأ من غضبهم، حتى أجلسهم للاستماع للحق الذي يغزو القلوب، ويأسرها حين تتجرد، وتسمعه من قلب صادق متجرد .. ألا تسمع لقول أسعد لمصعب: "هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه"؟
      4- إشراقة الإيمان تظهر في الوجه:
      الإيمان حين يتسرب إلى القلوب وتتشربه الأفئدة تبدو آثاره منذ اللحظة الأولى على محيا صاحبه؛ ألا تتأمل في قوله: "والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله .. وحين نظر سعد بن معاذ إلى أسيد وقد أقبل يكسو نور الإيمان وجهه، فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم..
      وهذا الأمر نفسه يتكرر مع سعد بن معاذ حين يؤمن .. نعم شتان بين وجه مظلم بظلمة قلب صاحبه لكفره أو لاستغراقه في المعاصي، ووجه مضيء منير بقلب صاحبه الذي مُليء بنور الإيمان والطاعة .. فالوجه مرآة: إما أن تعكس نور القلب وسناه، وإما أن تعكس ظلمته وقسوته.
      وما أجمل قول الشاعر: تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدّي سرَّها النظر وقال الحكماء: العينان أنمّ من اللسان. وقال بعض البلغاء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا (4).

      5- أثر السيد في قومه عظيم:
      إن الرجل الذي يكون سيداً في قومه تتطلع إليه الأنظار، ويكون قدوة لمن خلفه من الأتباع، ومن ثم تكون كلمته فيهم مسموعة، وأثره فيهم كبيراً، وهو إما أن يقودهم إلى الحق، ويرشدهم إلى الخير، أو يحول بينهم وبين الهداية، فسعد بن معاذ رضي الله عنه حين يشرق الإيمان على فؤاده، ويحل نور الإسلام في قلبه، يتوجه إلى قومه، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة .. بينما أبو قيس بن الأسلت، يحول بين قومه وبين نور الهداية سنين، ولله في خلقه شؤون.. إن هذا يجعل المسلم الداعية يحرص على أن يتوجه بدعوته أيضاً إلى كبار القوم، ولا ييأس من أن يهدي الله منهم رجلاً واحداً فيهدي الله به خلقاً كثيراً، فيعظم الأجر، ويعم النفع والخير.
      **الهوامش
      (1) فتح الباري 7-260-3925
      (2) سيرة ابن هشام 2-58
      (3) إيقاظ الهمم في شرح الحكم 321.
      (4) أدب الدنيا والدين -256.
    • مشكورة اختي على الموضوع والله يعطيج العافية
      بس يا ليت توضحين فكرة الموضوع لان العنوان ( بحوث ) والموضوع عن مصعب بن عمير
      هل تنوين عرض مواضيع لبحوث مختلفة أختي الكريم
      وتقبلي تحياتي وفائقق احترامي
    • تم تغير عنوان الموضوع الي بحوث تربوية مختلفة

      خالص الشكر لك

      وننتظر تواصلك

      لا عدمناااااااك
      أكتب ما اشعر به وأقول ما أنا مؤمن به انقل هموم المجتمع لتصل الي المسئولين وفي النهاية كلنا نخدم الوطن والمواطن
    • تأملات في قصة أصحاب الكهف


      بسم الله الرحمن الرحيم

      ]الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا {1} قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا {2} مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا {3} وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا {4} مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا {5} [
      وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسار على نهجه إلى يوم الدين .
      وبعد فلا يزال القصص القرآني نهرا متدفقا وبحرا فياضا بالعبر والعظات التي نتنسم شذاها ونترسم خطاها ، ونقتبس ضياها ونقتدي بهداها ، عظة وعبرة وهداية ورحمة وحجج ساطعات وآيات بينات تنطق بصدق هذا الكتاب المبين المنزل من عند رب العالمين ، على قلب رسوله الأمين ] لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ {70}[. ( )
      من هذا الروض الباسم أقتطف هذه القصة لنعيش معها لحظات ممتعة .
      إنها قصة عجيبة حافلة بالمواقف المضيئة والمشاهد المؤثرة قصة أولئك الفتية الذين خرجوا فارين بدينهم معتصمين بربهم فآواهم المبيت إلى كهف أجمعوا أمرهم على البقاء فيه حتى طلوع النهار ، ولم يخطر ببالهم أن نومهم سيطول ويتجاوز ثلاثة قرون ، فمكثوا فيه حتى أشرق عليهم فجر جديد ، وأطلت عليهم شمس الحرية وأنوار العدالة ، بعد أن تعاقبت القرون وتداولت العهود وزال عهد الطغاة
      لقد طال تجوالي بين كتب التفسير أقرأ كل ما تيسر لي قراءته عن أولئك الفتية وأتأمل في قصتهم العجيبة وأجتهد في اقتباس العبر والعظات لكني أيقنت بعد طول تحليق في أجوائها و غوص في أعماقها أنني أمام آفاق رحيبة وبحار لا ساحل لها وأنهار مطّردة لا تنضب .
      وصدق الله عز وجل إذ يقول في هذه السورة الكريمة ]قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا {109}[ .
      وقبل أن أنتهي من مقدمتي أتوجه إلى خالقي ومولاي أن يكتب لعملي هذا القبول وأن يرزقني الإخلاص وأرجو من القارئ الكريم أن لا يحرمني من ملاحظاته وتوجيهاته ، وفي الختام أقول كما علمنا ربنا
      ]عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا {24}[



























      تأملات في سياق القصة
      · جاءت قصة أصحاب الكهف تسلية وتسرية وتثبيتا لقلب رسولنا e
      · كان نزولها في العهد المكي حيث لقى الرسول e ومن آمن معه كثيرا من المحن والابتلاءات على طريق الدعوة الذي حُفًّ بالعقبات والمكاره .
      · نزلت هذه القصة وما زال المسلمون الأوائل يلقون أشد صنوف البلاء ويتذوقون من العذاب ألوانا وأنكالا ، ومن السخرية والاستهزاء أشكالا ، ومن الصدود والإعراض نصيبا على يد الفئة الظالمة الغاشمة .
      · نزلت هذه القصة على القلوب المستضعفة بردا وسلاما تروي شغافها وتقوي دعائمها .
      · نزلت لتكون حجة ساطعة تشهد بصدق هذا النبي الأمين .
      · جاءت برسالة موجهة إلى أهل الكتاب أن هذا القرآن فيه فصل الخطاب وخير الجواب لكل ما يطرحونه من تساؤلات .
      · لقد كادت نفسه e تذهب حسرات وتهلك غما وهما من أحوال قومه الذين جاءهم بالحق المبين لكنهم في غيهم سادرون وفي ضلالهم يعمهون ، فجاءت القصة لتنبه الرسول e إلى أن يترفق بنفسه فإنه يؤدي ما عليه من واجب البلاغ وأمانة الرسالة ، وليتذكر أن الهداية من الله يمنحها من يستحقها .
      قال تعالى ]فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6}[
      فالهداية من الله ، يختص بها من يشاء ، وأمامنا قصة أهل الكهف أولئك الفتيان الذين ملأ الله قلوبهم بالإيمان وهداهم إليه بالفطرة والبرهان وزادهم هدى على هدى لما توجهوا إلى ربهم بصدق سائلين إياه أن يهيئ لهم طريق الهدى والرشاد ويوجههم إلى التوفيق والسداد قال تعالى ] فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا {7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا {8} أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا {12} نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا {14} هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15} وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا {16} وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا {17}[
      المناسبة بين القصة والمحور العام للسورة :
      · لما بين الله U أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والامتحان الذي يبرز معادن الناس ويجلي عن قصدهم وهمتهم نحو العمل الصالح قال تعالى ] إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا {7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ( ) {8} [ لما بين الله تعالى ذلك ضرب أمثلة تكشف عن موقف الناس من زينة الدنيا ، فبدأ بقصة أصحاب الكهف الذين لم يغتروا بزينة الشباب وزينة الأهل والعشيرة وزينة الأبهة والسلطان بل تركوا كل هذه الملذات وأعرضوا عن جميع الإغراءات وهجروا الأهل والخلان في سبيل الله جل في علاه .
      · ثم جاءت قصة صاحب الجنتين الذي غره المال ولم يحمد الله عليه بل ازداد بطرا وأشرا ، في حين نجح صاحبه في الابتلاء حيث عرف حقيقة هذه الدنيا الفانية ، فكان له ناصحا أمينا وواعظا بليغا . ( )
      · ثم يأتي التعقيب على هذه القصة مبينا حقيقة الدنيا الفانية وما فيها من زينة تسلب القلوب وتأسر النفوس وتصرفها عن غاية وجودها وعاقبة أمرها . ( )
      · وإذا كان هناك من يغتر بالمال أو بالولد فإن هناك من يغتر بالوعود الكاذبة والأماني الباطلة التي يمني بها إبليس اللعين هذا العدو القديم الذي أظهر عداوته قديما يوم أن امتنع عن السجود لآدم قال تعالى ] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا {50}[ ومن أشد أسلحة إبليس اللعين سلاح التزيين فكم من معصية زينها ، وكم من بدعة حسنها وكم من طاعة صرف الناس عنها وكم من ضلالة زخرفها ، وكم من توبة سوًّفها .

      · ثم يورد لنا السياق حقائق ساطعة وسننا ربانية وقضايا عقدية حول الألوهية والرسالة واليوم الآخر وسنن الله الماضية والجارية في الأمم . ( )
      · ومن الناس من يغتر بنعمة العلم بل وربما ظن أنه أعلم الناس وهنا تأتي قصة موسى والخضر عليهما السلام لتبين أن العالم مهما بلغ من العلم فإن هناك من هو أعلم منه ومهما أوتينا من العلم فما قيمته وما قدره أمام علم علام الغيوب !
      · ثم يضرب الله مثلا لمن لم يغتر بالقوة والسلطان العبد الصالح ذو القرنين الذي وظف ملكه وسلطانه في نشر الدين ورفع الظلم عن المظلومين ورد الطغاة الباغين ، وكان كلما جدد الله له نعمة جدد لها شكرا وردها إلى المنعم عز وجل . ( )
      · ويجدر بنا هنا أن نقارن بين الملك الظالم الذي سلب قومه عقولهم وغصبهم حريتهم فأطرهم على الكفر أطرا وبين الملك الغاصب الذي يسرق أموال رعيته ويغتصب ممتلكاتهم قال تعالى على لسان الخضر عليه السلام ]أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا {79}}[ وبين الملك الصالح الذي مكنه الله في الأرض فأقام ميزان العدل والإحسان وأزال سلطان الكفر والطغيان وعاش الناس في عهده في راحة وأمان إنه ذو القرنين رحمه الله .
      · كما نقارن بين عهدين : عهد ساد فيه الكفر والفساد ، وعهد أشرقت فيه شمس الهداية وأضاءت أنوار العدالة ، مملكة كافرة تجعل الكفر لها سبيلا ودستورا ، ومملكة مؤمنة تجعل الإيمان لها منهجا ودستورا .
      شتان بين مشرق ومغرب
      · ولنقارن أيضا بين صاحب الجنتين الذي اغتر بجنتيه وجحد النعمة وتمادى في الضلال وبين صاحبه الذي يذكره بالله ، وبين صاحب الجنتين وبين ذي القرنين الذي يتذكر دائما فضل الله عليه ورحمته به ويلهج دائما بحمده تعالى على ما أولاه من النعم وأسداه من الكرم ، وكيف وظف هذه النعم في نشر الحق والفضيلة في أرجاء الأرض .
      ] قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا {94} قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا {95} آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا {96} فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا {97} قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا {98}[
      · من هنا تتجلى لنا الصلة بين قصة أصحاب الكهف وبين القصص الأخرى التي انتظمتها هذه السورة الكريمة حيث تدور حول الابتلاء بزينة الدنيا وموقف الناس منه .

      وبضدها تتبين الأشياء
      · وإذ قد بينت لنا السورة حقيقة الزينة الفانية التي جعلها الله امتحانا وابتلاء ليبلونا أينا أحسن عملا فلقد جاءت الآيات توضح لنا الزينة الحقيقية الباقية وهي في نعيم الجنة الباقي وما يقرب إليه من الباقيات الصالحات ، قال تعالى ] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا {30} أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا {31}[
      وقال سبحانه ] الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا {46}[
      وقال جل وعلا ] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا {107} خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا {108}[

      وجه آخر للمناسبة
      · ومن أوجه المناسبة بين قصة أصحاب الكهف و المقاصد الرئيسية لسورة الكهف أنها خطت لنا طريق النجاة من الفتن حيث تعرض الفتية لفتنة عظيمة عصمهم الله منها ، حين سعى الملك إلى فتنتهم في دينهم واستغل سلطانه في مساومتهم على الحق وإغرائهم بكل المغريات كما استخدم فتنة التهديد والوعيد فضلا عن فتنة الضغوط العائلية ؛ فهم من أسر لها مكانتها ووجاهتها ، فعصمهم الله تعالى من كل تلك الفتن لما خلصت نيتهم وصفت سريرتهم وصدق توجههم إلى الله تعالى .
      · وهكذا نجد السورة الكريمة تبرز لنا طريق النجاة من جميع الفتن فتنة السلطان وفتنة الأهل والعشيرة وفتنة المال وفتنة الولد وفتنة العلم وفتن الأعداء وفتنة إبليس اللعين وفتنة العلم والملك والولد من خلال قصة أصحاب الكهف وصاحب الجنتين وقصة موسى مع الخضر ، وفتنة القوة والتمكين من خلال قصة ذي القرنين ، وفتنة يأجوج ومأجوج وفتنة الفرق الضالة الناكبة عن الحق كالخوارج وغيرهم والذين قال عنهم رب العالمين في ختام سورة الكهف ] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا {105} ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا {106} [
      · لذلك فلا عجب أن نجد من خواص هذه السورة الكريمة ومن جملة فضائلها أنها عصمة لقارئها من الفتن :
      · روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: 'مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، عُصِمَ مِنَ الدّجّالِ'. ( )
      · وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ) ( ).
      فهي نور وضياء لقارئها تبدد ظلمات الفتن وهي عصمة لقارئها من فتنة عظيمة ألا وهي فتنة المسيح الدجال عصمنا الله منها ؛ وذلك من ثمرات قراءتها ،ومن خلال ما قدّمَتْه من مفاتيح للتعامل مع مغاليق الفتن وتحصينات من الاغترار بزينة الدنيا وزخارفها ، وبهارج الباطل وأهله .

      سبب نزول هذه القصة
      ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله e ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي ؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد e قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول Q e فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول Q صلى Q عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غدا) ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول Q صلى Q عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث Q إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف ، ( ) وورد ذكر الروح في سورة الإسراء .
      في رحاب القصة
      مطلع القصة وبراعة الاستهلال
      · بدأ السياق بهذا الأسلوب الشيق أسلوب الاستفهام التعجبي ] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا {9} [ فنحن أمام قصة عجيبة ، وإن كان هناك ما هو أعجب منها ، فخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وآيات الأنفس والآفاق وعالم النبات وعالم البحار فضلا عن عالم الغيب وما فيه من حكم وأسرار ودقائق وأخبار وغير ذلك من عجائب صنع الواحد القهار .
      قال الرازي رحمه الله : 'اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول e على سبيل الامتحان فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإنه من كان قادرا على خلق السموات والأرض وتزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم بعد ذلك يجعلها صعيدا جرزا خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ، هذا هو الوجه في تقرير النظم والله أعلم ' ( ) .
      · فلكم يغفل كثير من الناس عن النعم الظاهرة والآيات الباهرة لكونها مألوفة لهم ، بل وقد يغفلون عن شكر النعم الظاهرة كنعمة السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار .
      فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
      ولله في كل تحريكــة وتسكينة في الورى شاهد
      وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
      والكهف هو المغارة الواسعة ، أما الرقيم فهو العلامة أو الكتابة أو الرسم على الشيء ومعناه هنا قيل هو اللوح الذي سجلت عليه أسماؤهم وقيل كتاب دونت فيه أسماؤهم وقيل اسم الجبل وقيل اسم القرية.
      قال سعيد بن جبير ومجاهد : الرقيم لوح من حجارة وقيل من الرصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ّ ذلك اللوح على باب الكهف . ( )
      والذي أرجحه : أنه اسم اللوح أو الكتاب الذي سجلت فيه أسماؤهم وسمي بذلك لأن أسماءهم كانت مرقومة عليه أي مكتوبة .
      ومن غرائب التفسير من زعم أن الرقيم هو اسم كلبهم وأغرب منه من ادعى أنه قصة الثلاثة نفر الذين انسد عليهم باب الغار ( )

      مكان الكهف وزمان أصحابه
      أما عن مكانه فقيل بالشام وقيل ببلاد الروم وجاء في مجلة العربي الكويتية ( ) ' إن عالم الآثار الأردني ( رفيق وفا الدجاني ) اكتشف عام 1963م عند منطقة الرحيب بالأردن ، مغارة الكهف التي اتخذها أصحاب الكهف مرقداً لهم حين دخلوها هاربين بأنفسهم .
      وأغرب بعضهم في بيان مكان الكهف وزمانه حتى قالوا بأن الكهف المشار إليه كان في بلاد الأندلس ، قال أبو حيان في البحر المحيط : 'وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيانوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها ، … قال والدي فسح الله في مدته وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورونه ... وأما ما ذكر من مدينة دقيانوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى إنها هي بلاد مملكتهم العظمى ( ) ولأن الإخبار بما هو في أقصى مكان عن أرض الحجاز أبعد أن لا يعرفه أحد إلا بوحي من الله ' ( ) .
      أقول : ما استشهد به الإمام أبو حيان لا يعتد به فزعم النصارى ليس بحجة فقد يوهمون الناس بأن هذه المغارة أو تلك هي الكهف حتى يتردد الناس عليها ويزورونها فينتفع بزيارتهم أصحاب المكان ويضفى عليه قداسة تجعل له قيمة ومنزلة تعود بالدراهم والدنانير على من روج لهذا الإدعاء ، وأما استشهاده بكثرة النصارى في تلك البلاد فليس هذا دليلا على أن هذا الكهف هو المذكور في القرآن فللنصارى تواجد في بلاد أخرى عديدة وأما استناده إلى بُعْدِ كهف الأندلس عن الجزيرة : فلقد غاب عنه البعد الزماني للقصة فلا عبرة ببعد هذا الكهف عن مهبط الوحي لأن العبرة بالبعد الزماني الذي جعل هذه القصة مطوية منسية حتى عن كثير من النصارى فضلا عن اليهود .
      وللإمام القرطبي رد على هذا الزعم حيث قال في تفسيره : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: ]لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا" [الكهف: 18]. وقال ابن عباس لمعاوية حينما كانا في غزوة ببلاد الروم لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك . ( ) .
      وكما اختلفوا في مكانهم فلقد اختلفوا في زمانهم حتى زعم بعضهم أنهم كانوا قبل عيسىu وأغرب بعضهم فزعم أنهم كانوا قبل موسى u لأن اليهود كانوا على معرفة بهم والذي أرجحه والله أعلم أنهم كانوا بعد عيسى u وقبل بعثة نبينا محمد e ، ومعرفة اليهود بهم ليست دليلا قاطعا على كونهم قبل موسى أو بعده ، لأنه لا تلازم بين ما يعرفونه وما يؤمنون به فقد يعرفون شيئا لكنهم لا يؤمنون به ، ومن ذلك معرفتهم بالمصطفى e ومع ذلك لا يقرون برسالته ولا يؤمنون بنبوته .
      قال تعالى ] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِن َّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {146}[ سورة البقرة
      وقال سبحانه] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ {20}[ سورة الأنعام
      · لكن الذي أراه هو البعد عن هذه التفصيلات التي لم ترد في القرآن والسنة ولو كان لمعرفتها عظيم فائدة لوردت وإنما العبرة بما في القصة من مقاصد ومعان ودروس وعظات ، ولقد نهانا الله جل وعلا عن الاستطراد إلى ما لم يرد فيه نص صحيح في شأن هذه القصة كما نهانا عن الرجوع إلى مسلمة أهل الكتاب لنستأنس بما لديهم في شأنها قال تعالى ] فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا {22}[
      · والذي يفيده السياق أنهم عاشوا في زمان ملك كافر مشرك ظالم غاشم يحمل الناس على الكفر ويستعين بمن معه من الكهنة والسدنة الذين يرسخون مفاهيم الكفر في الناس ويصرفون أنظار الناس إلى الخرافات والأساطير والأعياد والملاهي والطقوس التي تربط الناس بآلهتهم التي عبدوها من دون الله ، ولما شرح الله صدور أولئك الفتية وكانوا من علية القوم وتآلفت قلوبهم وتعارفت أرواحهم واجتمعت كلمتهم على رفض ما عليه قومهم من ضلال ، بل والإنكار عليهم ودعوتهم إلى الحق فرفع أمرهم إلى الملك الظالم ولم تجد معهم الوعود والإغراءات فتوعدهم وهددهم إن لم يرجعوا إلى دينه ودين أتباعه ، وأمهلهم ، وقبل انقضاء المهلة لم يجدوا بُدّاً من الفرار بدينهم فخرجوا تحت جنح الظلام وساروا حتى وصلوا إلى كهف في جبل رأوا أن يناموا فيه على أن يواصلوا بعد ذلك سيرهم .

      عرض موجز للقصة
      ]إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا {10}[
      ليمكثوا فيه بعيدا عن أعين الراصدين لهم والباحثين عنهم من قبل الملك الذي أرسل في طلبهم من يأتي بهم بعد أن هربوا من بطشه وظلمه .
      جمعوا بين الأخذ بالأسباب والتوجه إلى العزيز الوهاب فقالوا ( رَبَّنَا ) : وفي التعبير بعنوان الربوبية تأدب مع الله تعالى ، أي يا من خلقتنا ورزقتنا وهديتنا ] آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [ ، دعاء صادق من قلوب خالصة ونفوس زكية ترجو رحمة ربها وتلتمس رشده ، فكان أن عمهم الله بفضله وشملهم برحمته وأحاطهم بعنايته .

      · وفي هذا درس عملي للدعاة والمصلحين أن لا يغفلوا عن سلاح الدعاء مع مراعاة الأدب مع الله ، وانتقاء العبارات المناسبة فلكل مقام مقال ، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية أدعية مباركة لها دلالتها وخواصها وآثارها وفعاليتها ، فأهل الكهف التمسوا أمرين مهمين هما رحمة الله بهم وإرشاده لهم ، وفي طلبهم للرحمة مع الرشاد ما يدل على أنهم ماضون في طريق الحق ثابتون عليه مهما كلفهم من تضحيات .
      · وتتجلى أهمية هذا الدعاء للدعاة والمصلحين حين يواجهون المحن والابتلاءات والفتن والعقبات أو تتشعب بهم الآراء ، أو يقفون على مفترق الطرق .
      ] فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا {11}[
      فالسمع هو الوسيلة الرئيسة في تنبيه النائم خاصة من ينام بمعزل عن الناس ، والنائم لا يسمع في العادة ما حوله من أصوات بمجرد استغراقه في النوم .
      ]ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَي الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا {12}[
      أي ليتحقق ذلك الذي في علم الله تعالى عيانا ، حيث يصير هذا العلم واقعا معاينا ، فيتبين أي الحزبين أحصى أمدهم أي مدة لبثهم في الكهف حيث صارت تلك المدة موضع خلاف بين العلماء ، أو المراد بالحزبين أهل الكهف حيث زعم بعضهم أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم وبعضهم ظن أن المدة طالت فتوقف وفوض علم المدة إلى الله كما سيأتي بيانه في الحوار الذي دار بينهم عندما انتبهوا من نومهم فتساءلوا بينهم قال تعالى]وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ {19}[

      الفتية في رحاب الإيمان
      ]نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ {13} [تفصيل بعد إجمال وتقرير بعد بيان ، فالقرآن الكريم كتاب الحق نزل بالحق على قلب رسول الله e الذي لا ينطق إلا بالحق وقصصه الحق وكل ما فيه من حكم وأحكام وعبر وعظات ووعد ووعيد هو الحق من عند الله .
      والذي يقص نبأهم هو العليم بحالهم ، المدبر لشئونهم ، وفي هذا تشويق للقارئ ؛ حين يسمعها من المولى عز وجل . وفي التعبير بالنبأ إشارة إلى أن قصتهم لها شأن عظيم وخطب جليل .
      ]إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [
      وفي التعبير بالفتوة بيان لحداثة سنهم وقوة إرادتهم وحماسهم للحق .
      واختلفوا في سبب إيمانهم قيل إنهم آمنوا عن طريق حواري المسيح u ونقل المفسرون رواية مردها إلى الإسرائيليات ( ) .
      وقيل إنما استجابوا لنداء الفطرة فاهتدوا بفطرتهم السليمة وعقولهم الغضة .

      فائدة :
      فى قوله تعالى { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} }
      إشارة إلى حداثة سنهم وفتوتهم وطاعتهم لربهم في هذه المرحلة المهمة في حياة الإنسان مرحلة الشباب ، وهى مرحلة البذل والعطاء ، ومرحلة القوة والحماس ، ولقد عُنى الإسلام بإعداد الشباب وتوجيههم ورعايتهم ، فهم عماد الأمة وأساس نهضتها ونبراس حضارتها ومنطلق تقدمها وتحررها ، ومبعث عزها وصناع أمجادها .
      وصدق الشاعر هاشم الرفاعى رحمه الله حيث يقول :-
      ملكنا هذه الدنيا قرونــا وأخضعها جــدود خالدونا
      وسطرنا صحائف من ضيـاء فما نسى الزمان ولا نســينا
      بنينا حقبة فى الأرض ملكـا يدعمه شباب طامـحـونــا
      شباب ذللوا سبل المعالــى وما عرفوا سوى الإسلام دينـا
      تعهدهم فأنبتهم نباتــــًا كريما طاب في الدنيا غصونــا
      إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونـــا
      شباب لم تحطمـــه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينــا
      وإن جن المساء فلا تراهـم من الإشفاق إلا ساجدينـــا
      كذلك أخرج الإسلام قومي شبابا مخلصاً حراً أمينــــا

      إن مرحلة الشباب مرحلة حاسمة فى حياة الإنسان لها أهميتها ولها خطرها
      وحين ينشأ الشاب فى رحاب القرآن ويحيا تحت ظلال الإيمان فإن جزاءه يوم القيامة أن ينعم بظل الرحمن ، قال صلى الله عليه وسلم ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ) الخ الحديث ( ) .
      وهنيئاً لشاب حافظ على شبابه وصرفه في طاعه ربه ، سيما فى مجتمعات شاعت فيها الفتن ، فتن الشبهات ، وفتن الشهوات ، فترى الأديان المحرفة والرايات الزائفة ، وتجد من يشوه الحقائق ويزخرف الأباطيل ، وينشر الفساد والانحلال .
      وعجباً لمن يحفظ شبابه في هذا التيه ، ويصارع أمواج الفتن ويجابه أعاصير المحن فيصمد ويثبت ويعبر هذه المرحلة الحاسمة سالماً معافى ؟
      روى الإمام أحمد في مسنده عن عقبة مرفوعاً : إن Q ليعجب للشاب لا صبوة له ( )
      ]وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [
      أي بصرناهم بمقتضيات الإيمان وأركانه وبراهينه ، فازدادوا إيمانا على إيمانهم وهدى على هداهم مصداقا لقول الحق جل وعلا (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا {76) سورة مريم
      وقوله تعالى ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ {17}[سورة محمد
      فكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك الهداية .
      قال أبو السعود :' (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )بأن ثبتناهم على الدين وأظهرنا لهم مكنونات محاسنه ' ( ) .
      والذي يتأمل حديثهم الممتع وعرضهم الرائع لأصول الإيمان وإدراكهم لما عليه قومهم من كفر وضلال ، ودقة براهينهم وعمق تحليلاتهم وتبصرهم بأمر دعوتهم وتحليهم بمكارم الأخلاق في مجتمع ساد فيه الفساد والانحلال وعمه الكفر والضلال ، المتأمل في ذلك كله يدرك أنهم كانوا على بينة من أمرهم و علم نافع وبصيرة نافذة نابعة من أصول شرعية كانت ثمرة لدعوة وتربية من أحد المؤمنين بالدين الحق الذي جاء به نبي الله عيسى u ،
      فضلا عن فطرتهم السليمة وعقولهم الراجحة التي كانت سببا لهدايتهم
      ] وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا {14}[
      ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي شددنا عليها وثبتناها ، ليواجهوا رياح الفتن وأعاصير المحن ويجابهوا موجات الكفر العارمة وتياراته الجارفة التي تولى كبرها وحمل لواءها الملك وبطانته ودعاة الكفر وسدنته ، فألهم الله عز وجل أولئك الفتية بالصبر والثبات في مجابتهم لتحالف الشر .
      قال صاحب روح البيان : ' (وربطنا على قلوبهم ) أي قويناهم حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان والنعيم والإخوان واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار ( ) ، وفي الحديث ' أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ( ) ' ( ) .
      تقرير العقيدة الصحيحة
      ] إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [
      قاموا بين يدي الملك الجبار ، أو قاموا بمعنى اجتمعوا ، أوانبعثوا وعزموا على المضي قدما في طريق الحق .
      قال الإمام القرطبي رحمه الله 'قوله تعالى: 'إذ قاموا فقالوا' يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد؛ فقال أسنهم: إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا: 'ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا'. أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس؛ كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد . ' ( )
      أقول وهذه المعاني جميعها محتملة ومتلازمة ولا تعارض بينها ، فلا مانع من حمل القيام عليها وتضمينه معنى العزم والمضاء والنهوض بالحق والقيام به وتحمل تبعاته ، واجتماعهم على غير موعد ، وصدوعهم بالحق أمام الملك .

      فائدة جليلة :
      أورد القرطبي في تفسيره : ' عن ابن عطية قال: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقوله تعالى 'إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض'. ( ) .
      وتعقبه القرطبي بقوله : ' قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروه لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم؛ وهذه سنة Q في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء. أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان؛ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء Q تعالى. وقد تقدم في 'سبحان' عند قوله: 'ولا تمش في الأرض مرحا' [سورة الإسراء: 37] ما فيه كفاية. وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي . ( ) .
      ] فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [
      لقد اجتمعت كلمتهم ، وتوحدت دعوتهم فقالوا جميعا بألسنتهم وقلوبهم (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) فهو تعالى المتفرد بالربوبية فلا رب غيره وهذا دليل على تفرده عز وجل بالألوهية فلا معبود سواه ، والعجيب أن المشركين بالله تعالى يقرون له بالربوبية ومع ذلك يشركون به آلهة أخرى .
      قال أبو السعود رحمه الله :' وضمنوا دعواهم ما يحقق فحواهم ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيته عز وجل لهم تقتضي ربوبيته لما فيهما ' . ( )
      ]لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا [
      كما يزعم المشركون ، حيث أشركوا بالله غيره في الألوهية مع إقرارهم بأن الخالق الرازق هو الله لذلك جاء التعبير ب (إِلَهًا) .

      ]لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [
      إن نحن قلنا بمقالتهم الباطلة فقد انحرفنا عن المنهج القويم ونكبنا عن الصراط المستقيم ، والشطط هو مجاوزة الحد والانحراف عن الجادة والبعد عن الحق ومنه شطت الدار إذا بعدت
      بيان بطلان عقائد الشرك
      ]هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15}[
      بعد أن أعلنوا عقيدة التوحيد أعلنوا البراء من عقائد الشرك فأنكروا ما كان عليه قومهم من ضلال ، حيث ادعوا لله شركاء .
      ]لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّن [ٍ فالدعاوى لا بد لها من بينات ، وينبغي على كل من جاء برأي أو قول لا أصل له ولا برهان له به أن يأتي بالدليل إثباتا لما ادعاه وإلا فهو مُدّعٍ .
      قال الرازي : ' فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية ' ( ) .
      وقال صاحب روح البيان : ' وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود ، والآية إنكار وتعجيز وتبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال ' ( ) .
      ] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15}[
      أي ليس هناك أظلم ممن افترى على الله عز وجل وهو الذي خلقه ورزقه .
      فالشرك بالله أعظم وأشنع أنواع الظلم ، قال الله تعالى: 'إن الشرك لظلم عظيم'. ( )
      وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي e قال: (قال الله تعالى ' كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذبيه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا' . ( ) .
      فائدة : في مدارسة العقيدة ، وعرضها على العقول تقريرا لها وتذكيرا بها وتوصية بالثبات عليها ، فضلا عن تجديد الإيمان وزيادته ، وهي من التواصي بالحق ، وتثبيته في النفوس ، وترسيخه في القلوب ،وفي قصص الأنبياء والصالحين من الصفحات المضيئة والمواقف الرائعة والعبر والعظات ما يثبت الفؤاد ويرطب الأكباد ويربط على القلوب برباط الإيمان .
      طريق النجاة
      ]وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا {16}[
      بعد تقريرهم لعقيدة التوحيد وإبطالهم لعقيدة الشرك وبراءتهم من الكفر وأهله بينوا واجبهم الذي يتحتم عليهم فعله وهو اعتزال قومهم وما يعبدونه من دون الله والبراء من شركهم ، فما في قوله تعالى ( وَمَا يَعْبُدُونَ ) موصولة أو مصدرية ، والمعنى : اعتزلتم عبادتهم أو اعتزلتم معبوداتهم من دون الله .
      ]فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [
      أي امكثوا فيه مدة ، واجعلوه مأوى لكم إلى أن يقضي الله أمرا ، واللام في (الكهف) تدل على العهد الذهني أي الكهف الذي يتبادر إلى أذهانهم لذا قالوا (إلى الكهف) ولم يقولوا : إلى كهف والذي يبدو لي أن هذا الكهف كان معروفا لهم إما لشهرته وإما لأنهم مروا به في تريضهم وسياحتهم والله أعلم .
      ]يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته [
      أي يبسط لكم ويفيض عليكم من رحمته التي تستنزلونها وتستمطرونها بطاعتكم لربكم وخروجكم في سبيله وابتغاء مرضاته .
      ]ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا [
      أي ما فيه من منافع لكم فترتفقون به قال ابن عباس :' يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ويأتكم باليسر وبالرفق واللطف ( ) .
      وفي هذا دليل على حسن ظنهم بربهم وجميل توكلهم عليه ، قال صاحب روح البيان :' وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم عن شوب الشك وقوة وثوقهم ' ( ) .
      في كنف الرحمن :
      ] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا {17}[
      انطلق الفتية نحو الكهف ، واتخذوه مأوى إلا أن يقضي الله أمرا ، وقد كان فتنـزلت الرحمات ولاحت الكرامات وهبت نسائم النفحات حين اتخذوا مضاجعهم في هذا الكهف الموحش وخلدوا في نوم عميق فهيأ Q لهم أسباب البقاء ووسائل السلامة ليجتازوا بنومهم حواجز السنين ، وتتعاقب القرون ، وتسَّاقط ممالك ، وتتبدل أجيال وهم في سبات رهيب لم ينهضوا منه إلا بعد مئات السنين . وقد حجب Q عنهم ضوء الشمس فلا تصيبهم فتراها وقد مالت عنهم عند طلوعها وتجاوزتهم عند غروبها ، بقدرة من أجراها وسخرها .قال الزمخشري : ' المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض للشمس لولا أن Q يحجبها عنهم ' ( ) .
      وقيل إن باب الكهف كانت من جهة الشمال فكنت الشمس تطلع على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس لم يكن يصل إليها البتة لكن الهواء الطيب والنسيم العليل كان يصل . ( )
      ( وهم في فجوة منه ) أي متسع ، وقيل كانت يصيبهم شيء قليل وقدر ضئيل من أشعتها بقدر ما تنتفع به أجسادهم أورد ذلك الرأي أبو حيان وعزاه إلى أبي علي الفارسي فقال : ' قال أبو علي : ' معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا كالقرض يسترد والمعنى أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة ... قيل ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلا لكان الهواء يفسد ويتعفن ما في الكهف فيهلكوا ، والمعنى أن الله تعالى دبر أمرهم فأسكنهم مسكنا لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمى ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن ' . ( )
      أقول : وفي هذا رد على من زعم أن الملك لما طلبهم ووصل إلى مكانهم أمر بسد الباب عليهم حتى يموتوا فهذا الكلام مخالف لظاهر الآيات .
      وجاء في مجلة العربي الكويتية ( ) ' عن عالم الآثار الأردني الذي أعلن أنه اكتشف مكان الكهف( رفيق وفا الدجاني ) قال : درست فجوات الكهف و خاصة موضع دخول الشمس إليه فتبين أن فتحة الكهف الجنوبية كان اتجاهها جنوب غربي ، فإذا وقف شخص داخل الكهف في وقت الأصيل تزاورت الشمس عن الكهف ذات اليمين ، و مرت أشعة الشمس بقوتها أمام الشخص الواقف تكشف المرائي و الآفاق .
      و حين تتوسط الشمس السماء لا يدخل الكهف منها شيء ، و إذا مالت نحو الغروب دخل قسم من أشعتها فجوة الكهف .
      و بتفسير أوضح إن الشمس تبعد أشعتها عند بزوغها و تميل عنه في غروبها ، بسبب اتجاه فجوة الكهف إلى الجنوب الغربي .
      ومن أسرار التعبير القرآني قوله عز وجل ( وترى الشمس ) ذلك لأن الكثير من الظواهر الخاصة بالشمس إنما تكون بحسب الرائي وبطبيعة المكان وبإمكانية الرؤية فهو وصف لرؤية العين ، وإدراك الرائي.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها ، وحقيقة المعنى العلمي للشروق والغروب وغير ذلك من الظواهر .
      لذا نقرأ في نفس السورة الكريمة في قصة ذي القرنين رحمه الله قوله تعالى ]حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا {86}[ فالشمس أعظم من أن تحتويها الأرض أو تحيط بها.
      والشمس آية من آيات الله وجند من جنوده التي لا يعلمها إلا هو .
      ] ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا {17}[
      أي ما حدث لهم من لطائف ربانية ومنن إلهية من آياته عز وجل الدالة على عنايته بأوليائه وحفظه لهم ، والشاهدة بكمال قدرته ، وجلائل نعمه ولطائفه التي لا تحصى ولا تعد .
      ] من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليلاً مرشدا [
      فالهداية من الله يمن بها على من يشاء فمن شاء الله هدايته هداه ومن هداه تعالى فهو المهتد فلا هادي إلا الله ولا هداية إلا من الله ، ومن كتب الله له الشقاء وحكم عليه بالضلال فلا هادي له ولو اجتمعت الأمة بأسرها عليه فلا تجد العبر ولا تغن النذر .

      ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا {18}[
      و قوله: «و تحسبهم أيقاظا و هم رقود» الأيقاظ : جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم ، و في الكلام إشارة إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كاليقظان ، والحكمة في ذلك حفظ أبصارهم أن تتجمد في المآقي وتلتصق الأجفان بطول المدة .
      و قوله: ( و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال) لئلا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنية بالركود و الخمود طول المكث.
      حتى لا تترسب الأملاح في جهة واحدة فتتآكل أجسادهم وتتعرض للتلف والتعفن .
      فائدة : وقد ذكر الأطباء : أن من الإصابات الشائعة و الصعبة العلاج مشكلة حدوث ما يسمى بقرحة السرير ، عند المرضى الذين تضطرهم حالتهم للبقاء الطويل في السرير كما في كسور الحوض و العمود الفقري أو الشلل أو حالات السبات الطويل و هذه عبارة عن قرح وموت في خلايا الجلد و الأنسجة بسبب نقص التروية الدموية عن بعض مناطق الجلد ، نتيجة انضغاطها بين الأجزاء الصلبة من البدن و مكان الاضطجاع و أكثر ما تحصل في المنطقة العجزية و الأليتين و عند لوحي الكتفين و كعبي القدمين ، و لا وقاية من حدوث هذه القرح سوى تقليب المريض ، و قد تكون هذه هي الحكمة من تقليب الله عز و جل لأهل الكهف لوقايتهم من تلك الإصابة و إن كانت قصة أهل الكهف كلها تدخل في نطاق المعجزة !!. ( ) .
      وهذا من لطف الله بأهل الكهف .
      وزعم أحد الباحثين أن الله –جلّت قدرته- قد أوقف وظيفة السمع ضمن وقف جميع الوظائف العضوية لأجسامهم بصفة وقتية، فلم تبصر العين بالرغم من كونها مفتوحة (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)، ولم تتحرك العضلات بالرغم من أنهم أحياء (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)، ولم تتغير هيئتهم على الرغم من مرور سنين عددًا عليهم بالكهف (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وحالتهم هذه تقارب حفظ أعضاء الإنسان بطريقة وقف العمليات الحيوية والتي تتمّ غالبًا بالتبريد، وهي تستخدم الآن بشكل واسع في العالم.
      وتشير المراجع العلمية إلى أن التعرُّض للبرودة الشديدة يؤدّي إلى انخفاض كبير في درجة حرارة الإنسان، والشخص الذي انخفضت حرارته انخفاضًا كبيرًا يصبح شبيهًا بالميت، إلا أنه يكون محميًا إلى حد ما من نقص الأوكسجين وانخفاض ضغط الدم وفشل الدورة الدموية، وفي حالات عديدة.. فإن الشفاء التامّ قد يحدث؛ خاصة للشباب من هذه الحالات، ولهذا لا يجب اعتبار أي إنسان تعرّض للبرودة الشديدة وانخفضت درجة حرارته انخفاضًا شديدًا ميتًا، وذلك حتى يتمّ دفنه تمامًا، وإجراء الإسعافات اللازمة له، وقد أصبح اليوم لحفظ الأعضاء ضرورة كبيرة… ولو أن أهل الكهف كانوا نيامًا فقط لاحتاجوا إلى الماء والغذاء، ولأيقظتهم الحاجة إلى التبوّل بعد بضع ساعات؛ لكن الله –سبحانه وتعالى- قد أوقف جميع الوظائف الحيوية وأبقى الأجسام في صورة حياة، كما يتمّ حفظ الأعضاء اليوم؛ مثل ضغط الدم والقرنية والكلى والكبد والقلب وغيرها لحين زراعتها في أشخاص آخرين، وكذلك ما نراه اليوم من إمكانية حفظ الأجنة وإلى عودة الحياة لأشخاص دفنوا تحت الجليد لعدة أيام ثم عادت إليهم الحياة بعد تدفئتهم، خاصة لصغار السن، فيمكن بالتبريد وقف جميع عمليات الهدم التي تتسبّب في دمار الأنسجة . ( )
      تنبيه
      أقول : لقد غاب عن هذا الباحث أن ما حدث لأصحاب الكهف كان كرامة لهم والكرامات أمور خارقة للعادة يعني لا تخضع لنواميس الكون ولا يمكن أن تعلل أو تحلل تعليلا وتحليلا علميا إذ أنها لا تخضع للعلم التجريبي فهي أمور غيبية ، و مهمة العلم فقط يقربها إلى الأذهان لا أن يحللها فالكرامات أمور خارقة للعادة خارجة عن الأسباب المادية .
      نفحات من صحبة الصالحين
      سار الفتية في طريقهم نحو الكهف ، فتبعهم كلب لعله كان لأحدهم ولازمهم .
      ولقد تكرر ذكر هذا الكلب في ثنايا القصة أربع مرات وفي هذا ما يدل على شرف صحبة الصالحين .
      قال تعالى ]وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [والوصيد فناء الكهف و قيل: عتبته أو بابه .
      و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف.
      فائدة : ورد ذكر كلبهم في القصة أربع مرات ، وقد شغل هذا الكلب اهتمام بعض المفسرين والباحثين فاستطردوا إلى الحديث عن اسمه ولونه وعن قصة لحاقه بهم فاهتموا بتفصيلات لا فائدة منها ولا ثمرة في البحث عنها ، غير أنها تدل على ثمرات الصحبة الطيبة وعموم نفعها وشمول بركتها كالغيث أينما وقع نفع ، فهذا كلب جاء ذكره في أشرف الكتب التي نزلت على أشرف الرسل e بمجرد سيره وراء الصالحين وحرصه على ملازمته ألا يدل ذلك على شرف الصحبة الطيبة ورفعتها ؟
      فائدة : قال ابن كثير رحمه Q ' وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن ' . ( )
      قال ابن عطية: وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره Q في محكم تنزيله .
      ' قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل '.
      وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها) قال: حب الله ورسوله. قال: (فأنت مع من أحببت). في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأنت مع من أحببت). قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.
      قلت: وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ؛ كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، 'ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا' [الإسراء: 7].
      ] لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [
      أي لو أشرفت عليهم وهم نيام في كهفهم على هذه الحال لوليت منهم فرارا من الوحشة والرهبة التي حفظهم الله بها ، ولملئت منهم رعبا حين تطبع صورتهم في ذهنك فلا تكاد تفارقك ، وقرئ ( ولملِّئت ) بالتشديد مبالغة في الفعل أو تكراراً له .
      وعن سر تقديم الفرار على الرعب يقول أبو السعود : ' ولعل تأخير هذا عن ذكر التولية للإيذان باستقلال كل منهما في الترتب على الإطلاع إذ لو روعي ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم ترتب المجموع من حيث هو هو عليه وللإشعار بعدم زوال الرعب بالفرار كما هو المعتاد .
      وليس السبب في هذا الرعب والتولي هو ما زعمه بعض المفسرين أن شعورهم وأظفارهم طالت ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان أول تساؤل لهم بعد أن استيقظوا من نومهم كما سيأتي بيانه في الآية التالية .
      من الكهف إلى المدينة
      ]وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا {19} إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا {20} [
      يقظة وحيرة .... وحذر وحيطة
      كان أول تساؤل لهم حين قاموا من نومهم فقال بعضهم (كَمْ لَبِثْتُمْ ) فأجاب آخرون (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وغاب عنهم أنهم ناموا مئات السنين ، فرد عليهم آخرون ]قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [ أي أشهى وأطيب ، وقيل هو الحلال الطيب ، فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) أي فوضوا أمر ذلك إلى الله تعالى وانشغلوا بما يصلحكم وهو إحضار الطعام .
      أقول وفي هذا دليل على أنهم لم ينووا طول البقاء في الكهف وإلا لتزودوا بما يكفيهم من الطعام والشراب مدة لبثهم فيه .
      وفيه أيضا إشارة إلى وجوب تفويض العلم إلى الله عز وجل وعدم القطع في المسائل بدون أدلة قطعية .
      وفيه أيضا من آداب الصحبة : إسداء النصح وتقبله وحسن الحوار وترك الجدال .
      ومراعاة الحذر والحيطة ، وأن التوكل على الله عز وجل واليقين به لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب
      وفيه جواز الوكالة في البيع والشراء والشركة في المطعم والمشرب .
      وفيها أيضا جواز التمتع بالطيبات كالماء البارد واللحم والفاكهة وغير ذلك ،مع القصد والاعتدال ، ولا يتنافى ذلك مع الزهد والورع قال سبحانه وتعالى ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {32} قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {33}[
      وفي حملهم النقود مع صدق توكلهم على الله رد على من يتواكل بحجة التوكل فربما خرج بدون أخذ بالأسباب أو حمل للمال بدعوى التوكل .
      قال النسفي :' وفي هذا دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات '.
      ]فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا[
      أي يبالغ في الحذر والحيطة ، والتخفي أو يتلطف في الشراء فلا يتعنت مع البائع أو يبخسه حقه أو يتلطف مع البائع فلا يغبنه ، قال النسفي :'وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف '
      ]إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا {20}[
      أي لو عرفوا مكانكم وتمكنوا منكم فلن تسلموا منهم ، وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا مهددين مطاردين ، بعد أن أمهلهم الملك بالعودة إلى دينه ، ففروا بدينهم وقد أرخى الليل سدوله ثم وصلوا إلى الكهف .
      ( يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) بناء على ما توعدكم به إن لم ترجعوا إلى دينهم فإما الرجم حتى الموت وإما البقاء مع العود إلى ملتهم وفي هذا من الخسران ما فيه .
      (وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) قال البقاعي رحمه الله : 'أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها ؛ لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة ' .
      وقال الرازي رحمه الله :'فإن قيل أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا (وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لهذا الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة ، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه والله أعلم ' .
      أقول لقد تذكرت والذكرى مؤرقة إخواننا في الأندلس لما تمكن النصارى الأسبان منهم أجبروا من لم يتمكن من الفرار على ترك الإسلام ونسيان لغة القرآن ففر من فر بدينه وبقي من بقي على دينه خفية لا يستطيع أن يجهر به وإلا فإن محاكم التفتيش حيث العذاب صنوف وألوان وأجبروا على دخول الكنائس وممارسة شعائر النصرانية حتى ولد من أصلابهم من يقول بمقولة النصارى الكاذبة ويعتقد دينهم الباطل بل وربما كان من بين ذرياتهم من يناصب الإسلام والمسلمين العداء ويتعصبون للصليب وينتمون لليمين المتطرف الناشط في هذه الأيام في أسبانيا والذي يطالبون الآن بطرد العرب المقيمين فيها ، وقد خفي عليهم وغاب عنهم أن هذا الدين الذي يبارزونه العدوان هو دين أسلافهم ؛ أجبروا على التخلي عنه بالحديد والنيران .


      في المدينة
      المدينة بعد ثلاثمائة عام : مئات السنين مرت على هذه المدينة حيث توالت العهود وتعاقبت الملوك وولت دولة المجرمين الظالمين وقطع دابرهم ، وانحلت مملكة الشرك والأوثان وحلت دولة العلم والإيمان وتنسمت الأجيال عبير الحرية .
      غريب في مدينته
      خرج من وقع عليه الاختيار من الكهف إلى المدينة فراعه ما وجده من وجوه جديدة ومعالم مختلفة حتى التبس الأمر عليه ولسان حاله يقول
      أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجالهم
      عجبا ! أليست هذه مدينته التي عاش في أحضانها وسلك دروبها وعاش فيها طفولته وأحلامه وشهدت فتوته وشبابه ، كاد أن يستغرق في التفكير ، لكن الوقت لم يسعفه كي يتحقق من الأمر ؛ حتى لا يلفت الأنظار إليه فبادر إلى السوق وهنا حدث ما لم يكن في حسبانه حيث كانت الدراهم وراء انكشاف أمره حين دفعها إلى البائع فتعجب ودهش ونقل الخبر بسرعة البرق إلى جميع من حوله وظن البعض أن هذا الفتى الغريب قد وقع على كنز عجيب فرفعوا أمره للملك الصالح الذي وجد ضالته وجاءته الإجابة القاطعة التي كان ينتظرها ففرح أيما فرح أن ساق الله إليه الدليل المادي على البعث .
      َ] وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُم فقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا {21}[
      قال الإمام ابن كثير رحمه الله حكي في القائلين ذلك قولان أحدهما أنهم المسلمون منهم ، والثاني أنهم المشركون ، و الظاهر أنهم أصحاب النفوذ ، ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛لأن النبي e قال لَعْنَ اللّهُ الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ' انتهى كلامه رحمه الله
      ولقد تعقب هذا الكلام الإمام القاسمي رحمه الله فقال في المحاسن ' وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين ، مع إيراده الحديث الصحيح بعده المسجل بلعن فاعل ذلك ، وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي أو الولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه ؛ ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة ، وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك ؟ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لقوله تعالى ]َوقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا {23} وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالًا {24}[
      كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك لعبادة الأصنام . إلى آخر ما ذكره رحمه الله .
      وقال السعدي رحمه الله :' { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم، وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.'

      وفي قصة أصحاب الكهف دليل على جواز الفرار بالدين والعزلة حين تشتد الفتن
      قال السعدي رحمه الله : ' وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب { وما عند الله خير للأبرار } '

      كم كان عددهم ؟
      قال تعالى ]سَيَقُولُونَ ثَلاثَة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا {22}[
      أخبر المولى عز وجل عن اختلاف أهل الكتاب في عددهم وبين أن قول من قال بأنهم ثلاثة أو خمسة قول لا دليل عليه وإنما بني على الظن والتخمين لذا عقب عز وجل القولين بقوله تعالى(رَجْمًا بِالْغَيْبِ) وأتبع قوله تعالى (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) برد العلم إليه تعالى ( قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ) وبين سبحانه أن هناك من يعلم عدتهم وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من القليل الذي استثنى اللّه عزَّ وجلَّ، كانوا سبعة ، وكذا روي عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة.
      ] فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا [
      أي واضحا وبينا دون تعمق أو خوض فيما استأثر الله بعلمه .
      قال الشوكاني :'وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب' '
      ]وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا [
      لأن المفتي لابد وأن يكون أعلم من المستفتى ' وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له ' .
      قال الشيخ سعيد حوى رحمه الله : ' أي ولا تسأل أحدا من أهل الكتاب ، ولا من غيرهم عن قصتهم سؤال متعنت له ،حتى يقول شيئا فترد عليه أو تزيف ما عنده ، ولا سؤال مسترشد ، لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم .
      وهذا من أدب المسلم أن لا يستفتي أحدا من خلق الله غير أهل العلم من المسلمين ' .

      ]وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا {23} إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا {24}[
      نهاه عز وجل أن يقطع بشيء أو يعزم على فعل دون أن يستثني فيقول إن شاء الله ذلك أنه e لما سألوه عن الأسئلة الثلاثة وعد أن يجيبهم في الغد ثقة بمجيء أمين الوحي جبريل بالجواب الكافي من عند الله تعالى ولم يقل e إن شاء الله فلبث الوحي مدة لا ينزل ، حتى ظن المشركون وأشاعوا أنه هجره ، وإنما كان ذلك درسا له e أن يربط كل ما هو متوقع الحصول بمشية الله تعالى ، لما في ذلك من تفويض الأمر إلى علام الغيوب والتماس التوفيق والسداد ، والبركة والتيسير منه تعالى .
      قال ابن عطية : 'أي عسى أن يرشدني فيما أستقبل من أمري وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي بعد تعم أمته '
      وقال ابن كثير رحمه الله :' هذا إرشاد من اللّه تعالى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد إلى مشيئة اللّه عزَّ وجلَّ علام الغيوب، كما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: 'قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيّ اللّهِ: لأَطُوفَنّ اللّيْلَةَ عَلَىَ سَبْعِينَ امْرَأَةً، كُلّهُنّ تَأْتِي بِغُلاَمٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، أَوِ الْمَلَكُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَنَسِيَ، فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، إلاّ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقّ غُلاَمٍ'، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: 'وَلَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكاً لَهُ فِي حَاجَتِهِ'.
      '.. وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: 'غداً أجيبكم'، فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً ، ولأن المرء معرض للنسيان فلقد شرع الله لمن نسي أن يقول إن شاء الله أن يذكر ربه
      قال تعالى ] وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [
      ' إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف والمعنى لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف ، وقد كان حيث أعطاه الله عز وجل من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك ' ' أو لأقرب رشدا وأدنى خيرا من المنسي ' .
      أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل اللّه تعالى فيه، وتوجه إليه بصدق حتى يوفقك للصواب والرشد في ذلك .
      كم لبثوا في الكهف ؟
      قال تعالى ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا {25} قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا {26}[
      بين الله عز وجل مدة لبثهم وهي ثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي ، أو ما يقابلها بالحساب القمري وهي الثلاثمائة وتسع سنوات ، وذلك لأن السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية بأحد عشر يوما . فبين الله عز وجل مدة لبثهم بالحسابين ، وبين الله عز وجل وجوب رد العلم إليه تعالى في مدة لبثهم فهو الأعلم بها ، فإذا ادعى أحد من أهل الكتاب أنهم لبثوا أكثر من ذلك فنجيب عليهم بأن الله تعالى هو الأعلم بمدة لبثهم فلا عبرة بادعاءاتهم ، فقد أخبرنا من له غيب السموات والأرض بخبرهم .
      وقوله تعالى { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون، الولي لعباده المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ولهذا قال: { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ } أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف، بلطفه وكرمه، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق.
      { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، فإنه الحاكم في خلقه، قضاء وقدرا، وخلقا وتدبيرا، والحاكم فيهم، بأمره ونهيه، وثوابه وعقابه.

      تعقيب على القصة
      ]وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا {27}[
      أي واقرأ عليهم ما أوحى الله إليك فهو الحق والصدق والهدى والرشاد ، واتبع هذا الوحي الإلهي فهو الحق الواضح الذي لا تبديل فيه ولا تغيير فقصصه الحق وأمثاله الصدق ووعده وكل ما فيه من أخبار لا مبدل لها، كما أنه لا مبدل لسننه عز وجل في عباده والتي من بينها نصرته لأوليائه وسنة التداول ، تداول العصور وانقضاء العهود وهلاك الظالمين مهما طال بهم الزمان واضمحلال دولتهم مهما علت ، وقصة أصحاب الكهف دليل على ذلك حيث نجى الله هؤلاء الفتية من بطش قومهم وجعلهم آية باهرة وحجة ظاهرة على إمكانية البعث بالروح والجسد .
      ومن خلال القصة أيضا نتعلم أن لا ملجأ لنا ولا ملاذ ولا عاصم إلا الله .
      ]وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28}[
      لما تبين لنا من قصة أصحاب الكهف كيف اجتمعوا على طاعة الله وتعانقت قلوبهم على الحب في الله وتآلفت أرواحهم على الإيمان بالله واجتمعت كلمتهم على نصرة دين الله دعا المولى عز وجل رسوله الكريم e أن يصبر نفسه مع أولياء الله المريدين لوجهه والمبتغين لفضله فلا ينصرف عنهم لفقرهم أو لضعفهم ، فهم بالإيمان أغنى وأقوى وأكرم من غيرهم
      وبمناسبة قوله تعالى ]وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28}[
      نورد هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ سَعد بن أبي وقاص رضي الله عنه . قَالَ: كُنّا مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سِتّةَ نَفَرٍ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلاَءِ لاَ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا.
      قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلاَلٌ، وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمّيهِمَا. فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَقَعَ. فَحَدّثَ نَفْسَهُ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (6 الأنعام الاَية: ).
      وعَنْه رضي الله عنه قال فِيّ نَزَلَتْ: {وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ} (6 الأنعام الاَية: ).
      قَالَ: نَزَلَتْ فِي سِتّةٍ: أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا لَهُ: تُدْنِي هَؤُلاَءِ.
      فائدة : في عصور الجهل والانحطاط استغل بعض أصحاب المصالح وأرباب النفوذ بساطة الناس وسذاجتها في تحقيق مآربهم فيدعون اكتشاف كهف في المكان الفلاني به أصحاب الكهف وينسجون حوله الروايات ويقدمون الأدلة على صحة ادعائهم حتى يشيع الخبر بين الناس ويطير بين البلاد ويصير الكهف مزارا يؤمه الناس من بلاد شتى وما زلنا نسمع عن بعض الجهال أن هناك شجرة في المكان الفلاني وبئر في البلد الفلاني يتزاحم عليه الجهلة طلبا للتداوي والاستشفاء من الأمراض المزمنة والمستعصية وفي هذا من المخالفات الشرعية ما لا يخفى .
      ولعل هذا يفيد في معرفة أسباب اختلاف الناس في مكان الكهف حتى قيل إنه ببلاد الأندلس أو ببلاد الترك أوكذا أوكذا ، ولقد فطن إلى هذا الأمر ابن عباس رضي الله عنه حين خرج غازيا مع حبيب بن مسلمة فمروا بكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس: ذهبت عظامهم أكثر من ثلثمائة سنة.
      والله أعلم
      وإلى هنا ينتهي حديثنا عن هذه القصة ، وأسأل الله عز وجل أن أكون قد وفقت في عرضها واستخلاص ما من الله علي به من فوائد ، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .

      أحمد محمد الشرقاوي

      مراجع البحث
      القرآن الكريم
      كتب السنة
      1. صحيح البخاري بحاشية السندي
      2. صحيح مسلم بشرح النووي
      3. سنن أبي داود
      4. سنن الترمذي
      5. سنن ابن ماجة
      6. مسند الإمام أحمد بن حنبل
      7. المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم
      8. المعجم الكبير للإمام الطبراني
      9. دلائل النبوة للبيهقي
      10. الجامع الصغير للسيوطي
      كتب التفسير وعلوم القرآن
      11. إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم للعلامة أبى السعود ( محمد بن محمد مصطفى العمادى الحنفى ت 982 هـ ط دار الفكر بدون تاريخ ) 0
      12. الأساس فى التفسير للشيخ سعيد حوى ت 1409 هـ ط دار السلام ط أولى سنة 1405 هجرية
      13. البحر المحيط للإمام محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسى الغرناطى ت 754 هـ ط دار إحياء التراث العربى ط سنة 1411 هـ ثانية 0
      14. التحرير والتنوير للأستاذ محمد الطاهر بن عاشور ت 1393هـ ط دار سحنون للنشر والتوزيع تونس بدون تاريخ
      15. التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلى ط دار الفكر دمشق سوريا ط أولى سنة 1415 هـجرية
      16. الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ( أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987 م 0
      17. الدر المنثور فى التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطى ت 911 هـ ط دار الفكر سنة 1403 هـ 0
      18. الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية للإمام سليمان بن عمر العجيلى الشافعى الشهير بالجمل ت 1204 هـ ط دار المنار للنشر والتوزيع والبابى الحلبى بدون تاريخ 0
      19. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل للإمام محمود بن عمر الزمخشرى المعتزلى ت 528 هـ ط دار الريان للتراث سنة 1407 هـ ط 3
      20. المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز للقاضى عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسى ت 546 هـ ط المجمع العلمى بفاس المغرب سنة 1395 هـ وطبعة دار الكتب العلمية بيروت
      21. النشر فى القراءات العشر للإمام ابن الجوزى أبو الخير محمد بن محمد الدمشقى ت 833 هـ ط دار الفكر بدون تاريخ 0
      22. النكت والعيون ( تفسير الماوردى ) لأبى الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى البصرى ت 450 هـ ط دار الصفوة بمصر سنة 1413 هـ ط أولى
      23. الوسيط في تفسير القرأن المجيد للواحدي النيسابوري3 /143 ط دار الكتب العلمية بيروت
      24. تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشى الدمشقى ت 774 هـ ط دار التراث العربى بدون تاريخ 0
      25. تفسير المراغى للأستاذ أحمد مصطفى المراغى 1371هـ ط دار الفكر1394 هـجرية الطبعة الثالثة 0
      26. تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدى ت 1376 هـ ط الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الرياض ط 1404 هـ
      27. جامع البيان فى تفسير القرآن للإمام أبى جعفر محمد بن جرير الطبرى ت310هـ ط دار الريان للتراث ، ودار الحديث بالقاهرة سنة 1407 هـ
      28. روح البيان للبروسوى إسماعيل حقى البروسوى ت سنة 1370 هـ ط دار الفكر بدون تاريخ
      29. روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى للإمام الألوسى شهاب الدين السيد محمود الألوسى ت 1270 هـ ط دار إحياء التراث العربى ط 4 سنة 1405هـ
      30. فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير للإمام محمد بن على بن محمد الشوكانى ت 1255 هـ ط البابى الحلبى سنة 1350 هـ ط أولى 0
      31. لباب التأويل فى معانى التنزيل للإمام علاء الدين على بن محمد بن إبراهيم البغدادى ت 741 هـ ط البابى الحلبى سنة 1375 هـ ط ثانية 0
      32. محاسن التأويل للإمام جمال الدين القاسمى ت 1332 هـ ط دار إحياء الكتب العربية بدون تاريخ 0
      33. مدارك التنزيل وحقائق التأويل للإمام عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى ت 710هـط دار الكتاب العربى بيروت سنة 1402 هـ
      34. مع الطب فى القرآن الكريم تأليف د0 عبد الحميد دياب ، ود0 أحمد قرقوز ط مؤسسة علوم القرآن دمشق 1404 هـ ط 7
      35. مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) للإمام فخر الدين الرازى ت 606 هـ ط دار الفكر سنة 1405 هـ 0
      36. نظم الدرر فى تناسب الآيات والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعى ط دار الكتب العلمية .
    • سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله


      المقدمة:
      الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز ، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة أخلص من الذهب الإبريز ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً شهادة يكون صاحبها في حرز حريز()… أما بعد فإنا نتكلم عن سيرة عالم من علماء هذه الأمة وملك من ملوكها العظام ..

      إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب ، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة ، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، متعفنة بالتحلل والترف، ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب ، فهل تدهش وتذهل لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل ؟!.. أم تدهش وتذهل لأنه بمفرده قد حقق هذا المستحيل فعلاً؟!.. ليس في عشرين سنة ، ولا في عشرة أعوام ، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام.

      قال فيه بعض الكتاب:" الخليفة الكامل". وقال بعضهم :" أريد منكم أن تأخذوا الأقلام بأيديكم وتجمعوا أذهانكم وتكتبوا كل صفة تتمنون أن يتصف بها الحاكم في نفسه، وفي أهله، وفي أمانته وسياسته، وفي لينه وشدته، حتى إذا اكتملت الصورة الخيالية التي صورتها أمانيكم وآمالكم ، جئتكم بحقيقة واقعية بملك من ملوكنا تعدلها وقد تزيد عليها"().



      عناصر الموضوع:


      اسمه ونسبه وولادته:-

      هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص ، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية().

      وأمه : هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب t ().

      ولادته :

      ولد سنة : ثلاث وستين(). وقيل: سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما بمصر .. وقيل: سنة تسع وخمسين().



      نشأته حال صغره وتربيته:-

      كان عمر رحمه الله ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان رحمه الله يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار .. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه..

      وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها .. ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان رحمه الله يتأنق في كل شيء .. حتى المشية .. التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ"المشية العمرية"().

      ثم إنه رحمه الله مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه رحمه الله كان فيه حب للعلم وأهله كما سيأتي …

      لقد جمع القرآن وهو صغير()، تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال : " لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي " .. ورغب إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان رحمه الله،

      ثم لا يكاد ينزل بها حتى يلوذ بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته .. وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً ().

      قصة حلق رأسه:

      كان صالح بن كيسان رحمه الله يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال : ما حبسك؟ قال : كانت مرجلتي تسكن شعري. فقال : بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة . وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره().

      بكاؤه حال صغره وخوفه:

      لما حج أبوه اجتاز به في المدينة فسأل صالح عنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام ().

      بكى وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، قال أبوقبيل : وكان يومئذ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك().

      قصة تسميته بأشج بني أمية:

      دخل عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد(). وسيأتي تفسير قوله.


      زواجه وأولاده:-

      لما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:

      بنت الخليفة والخليفة جدها
      أخت الخلائف والخليفة زوجها()



      صفاته الخلْقية:-

      كان رحمه الله أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته شجة()، غائر العينين().
      سادساً: صفحات من حياته في عهد الوليد بن عبد الملك :-

      كان رحمه الله على قدم الصلاح أيضاً، إلا أنه كان يبالغ في التنعم، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم، والاختيال في المشية، فلما ولي الوليد الخلافة أمَّر عمر على المدينة فوليها من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين().

      ولايته على المدينة وأعماله فيها:

      لما قدم عليها والياً فصلى الظهر دعا بعشرة: عروة وعبيد الله وسليمان بن يسار والقاسم وسالماً وخارجة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان وعبد الله بن عامر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني" . فجزوه خيراً وافترقوا().

      وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي e ووسعه عن أمر الوليد له بذلك().
      واتسعت ولايته فصار والياً على الحجاز كلها … وراح الأمير الشاب ينشر بين الناس العدل والأمن، وراح يذيقهم حلاوة الرحمة، وسكينة النفس .. صارخاً بكلمة الحق والعدل، نائياً بنفسه عن مظالم العهد وآثامه، متحدياً جباريه وطغاته … وعلى رأسهم الحجاج بن يوسف الثقفي .. وكان عمر يمقته أشد المقت بسبب طغيانه وعَسْفه، وكان نائباً على الحج في إحدى السنين فأرسل عمر إلى الوليد يسأله أن يأمر الحجاج ألا يذهب إلى المدينة ولا يمر بها، رغم أنه يعرف ما للحجاج من مكانة في نفوس الخلفاء الأمويين…وأجاب الخليفة طلب عمر وكتب إلى الحجاج يقول:" إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه بالمدينة، فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك، فنح نفسك عن المدينة".

      وراح هذا الأمير الشاب يعمر ويعمر بادئاً بالمسجد النبوي وفي كل الحجاز، الآبار والطرق ، وفي حدود ولايته وسلطانه رد للأموال العامة كرامتها وحرمتها، فلم تعد سهلة المنال لكل ناهب خالس، كما لم تعد ألعوبة في يد كل مسرف ومترف … وفتح أبواب المدينة للهاربين من ظلم الولاة في كل أقطار الدولة .. وحماهم من المطاردة، ووفر لهم الطمأنينة والأمن .

      ووشى به الحجاج وشاية إلى الوليد كانت سبباً في عزله().. ولما عُزِل منها وخرج منها التفت إليها وبكى وقال لمولاه:" يا مزاحم نخشى أن نكون ممن نفت المدينة". يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وينصع طيبها، ونزل بمكان قريب منها يُقال له السويداء حيناً، ثم قدم دمشق على بني عمه().

      حسنته على سليمان بن عبد الملك:

      إن الوليد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من العهد، وأن يعهد إلى ولده، فأطاعه كثير من الأشراف طوعاً وكرهاً، فامتنع عمر بن عبد العزيز وقال:" لسليمان في أعناقنا بيعة ". وصمم ، فعرفها له سليمان ().
      كيفية خلافته:-

      أخي الكريم سترى من بداية هذا العنصر وهو نقطة التحول في حياة عمر رضي الله عنه… سترى ربيب الملك، وحفيد المجد، وابن القصور الناعمة، والمباهج الهاطلة، ذلك الشاب بعد أن تحمل مسؤولية أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تحولت حياته وتغير جدول أوقاته.

      وكان توليه الملك في عز شبابه في الخامسة والثلاثين من عمره.

      كيفية خلافته:

      لما مرض سليمان بدابق قال:" يا رجاء أستخلف ابني؟!!" قال:" ابنك غائب" قال:"فالآخر؟" قال:"هو صغير"، قال:"فمن ترى؟" قال:" عمر بن عبد العزيز "، قال:"أتخوف بني عبد الملك أن لا يرضوا" قال:"فوله، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختمه، وتدعوهم إلى بيعةٍ مختوم عليها" قال: فكتب العهد وختمه، وخرج رجاء ، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، ولا تُخبرون بمن فيه حتى يموت، فامتنعوا، فقال سليمان: انطلق إلى أصحاب الشُّرط ونادِ الصلاة جامعة، ومرهم بالبيعة، فمن أبى فاضرب عنقه، ففعل، فبايعوا ، قال رجاء: فلما خرجوا أتاني هشام في موكبه فقال: قد علمت موقفك منّا، وأنا أتخوف أن يكون أمير المؤمنين أزالها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفس، قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين وأطلعك، لا يكون ذاك أبداً، فأدارني وألاصني، فأبيت عليه فانصرف، فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال: رجاء، قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون جعلها إليّ ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص، قلت: سبحان الله، يستكتمني أمراً أطلعك عليه!! ().

      ويذهب رجاء ذات يوم ليعود الخليفة، فيجده في اللحظات الأخيرة من حياته، فيجلس إلى جواره حتى تفيض روحه فيسجيه.. ويتكتم النبأ … وخرج فأرسل إلى كعب بن حامد العبسي رئيس الشرط ليجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق فقال لهم:بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة أنبايع أخرى؟ قال لهم : هذه رغبة أمير المؤمنين، فبايعوا على من عهد إليه في هذا الكتاب المختوم ، فبايعوا رجلاً رجلاً فلما بايعوا وأحكم الأمر، قال لهم : إن الخليفة قد مات وقرأ عليهم الكتاب..
      ولم يكد يفيق عمر من غمرة المفاجأة، حتى راح يرتجف كعصفور غطته الثلوج()، وصعق عمر حتى ما يستطيع القيام، وقال: والله ما سألتها الله في سرٍّ ولا علن()، واستقبل رجاء بن حيوه يقول له في عتاب: ألم أناشدك الله يا رجاء ؟.

      ثم سار إلى الخليفة المسجى، فصلى عليه، وشيعوه إلى مثواه، وعاد يفري أهل بيته فيه، ويلقى فيه العزاء، وفي الغداة … دخل أمير المؤمنين المسجد فإذا هو غاص بحشود هائلة من الوافدين، فرأى أنها فرصة للتخلص من هذا المنصب الكبير قبل أن يتشبث بكاهله … وصعد المنبر وخطب الناس:" أما بعد فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه وعلى غير مشورة من المسلمين وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم ". فضجوا وصاحوا من كل طرف:" لا نريد غيرك ". ثم ألقى بعد ذلك خطبته .وكانت ولايته سنة 99هـ ().

      قال له بلال بن أبي بردة: من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت كما قال مالك بن أسماء:



      وتزيدين أطيب الطيب طيباً
      وإذا الــدر زان حســـن وجــوهٍ
      أن تمسيه أين مثلك أينا؟
      كان للدر حسن وجهــــك زينا()




      أول خطبة له رحمه الله :

      أول خطبة له : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا ، يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ، ويعيننا على الخير بجهده ، ويدلنا على الخير ما نهتدي إليه ، ولا يغتابنّ عندنا أحداً ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه . فانقشع عنه الشعراء … وثبت معه الفقهاء والزهاد ().

      آخر خطبة له رحمه الله ():

      كانت آخر خطبة خطبها : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثاً ، ولم تتركوا سدىً وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى ، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر اليوم الآخر وخافه ، وباع فانياً بباقٍ ، ونافداً بما لا نفاد له ، وقليلاً بكثير ، وخوفاً بأمان ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيكون من بعدكم للباقين ، كذلك ترد إلى خير الوارثين ، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد ، قد فارق الأحباب ، وواجه التراب والحساب ، فهو مرتهن بعمله ، غني عما ترك ، فقير لما قدم ، فاتقوا الله قبل القضاء ، راقبوه قبل نزول الموت بكم ، أما إني أقول هذا … ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله ، وفي رواية : وأيم الله إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي ، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته ، ونهى فيها عن معصيته ، وأستغفر الله ، ووضع كمّه على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله .

      نبذة من حياته مع أهله :

      تخييره زوجته :

      لما ولي الخلافة خيّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها وبين أن تلحق بأهلها فبكت وبكى جواريها لبكائها ، فسُمعت ضجة في داره ، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله ().

      ولده ينصحه :

      دخل عبد الملك بن عمر على أبيه فقال : يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها ، أو سنة فلم تحيها ؟! فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيراً .. يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة ، وعروة عروة ، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً يكثر فيه الدماء ، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أوما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة ؟!.().

      تضجر خادمه :

      قال أبو أمية الخصمي غلام عمر : دخلت يوماً على مولاتي فغدّتني عدساً ، فقلت : كل يوم عدس ؟ قالت : يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين ().

      قصة مع خادم له :

      رأى أمير المؤمنين خادماً له يسحب برذونه ، فسأله : كيف حال الناس ؟ فأجابه : كل الناس في راحة إلا أنت وأنا وهذا البرذون !. ().

      من أقوالــــــه :

      1- قال : أكثر من ذكر الموت ، فإن كنت في ضيق من العيش وسّعه عليك ، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك (). 2- وقال : أيها الناس أصلحوا أسراركم تصلح علانيتكم واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم (). 3- وقال له رجل أوصني فقال : أوصيك بتقوى الله وإيثاره تخف عنك المؤونة وتحسن لك من الله المعونة . 4- وقال لعمر بن حفص : إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير (). 5- وقال : قد أفلح مَنْ عُصم من المراء والغضب والطمع (). 6- وقال : مَنْ عَدَّ كلامه مِنْ عمله قَلَّ كلامُه().

      ثناء العلماء عليه :



      قال الذهبي : كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين رحمة الله عليه() .
      وقال أبو جعفر الباقر : لكل قوم نجيبة ، وإن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز إنه يبعث أمة وحده.
      وقال عنه الذهبي أيضاً : قد كان حسن الخَلْق والخُلُق ، كامل العقل ، حسن السمت ، جيد السياسة ، حريصاً على العدل بكل ممكن ، وافر العلم ، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم ، أوّاهاً منيباً ، قانتاً لله حنيفاً ، زاهداً مع الخلافة ، ناطقاً بالحق مع قلة المعين ، وكثرة الأمراء الظَّلمة الذين ملُّوه وكرهوا مماقتته لهم ونقصه أعطياتهم ، وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق ، فما زالوا به حتى سقوه السم ، فحصلت له الشهادة والسعادة ، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين ، والعلماء العاملين ().
      قال ميمون بن مهران : إنّ الله كان يتعاهد الناس بنبي بعد نبي ، وإنّ الله تعاهد الناس بعمر بن عبد العزيز ().
      وقال قيس بن جبير : مثل عمر في بني أمية مثل مؤمن آل فرعون ().
      وقال مالك بن دينار : الناس يقولون مالك زاهد ! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها ().
      وقال مكحول : لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبدالعزيز ().
      وقال الإمام أحمد : لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبدالعزيز().
      وقال ميمون بن مهران : كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة ().
      وقال مجاهد : أتينا عمر نُعَلِّمُه فما برحنا حتى تعلمنا منه ().



      أعماله في الخلافة :--

      إن العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قبيل خلافته كان كما يصفه أحد الكتاب:" زمن قسوة من الأمراء "، كيف لا والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن ، وغيرهما بالحجاز وبمصر وبالمغرب، حتى قال عمر:" امتلأت الأرض والله جوراً".
      وكذلك فيه من الفساد أن راح كل قادر على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه، وغابت الأخلاق فشاع الترف والانحلال، ووراء الفساد سار الخراب ، فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة ومحق إنتاجها، وكان فيه تزييف لقيم الدين حتى إنه كان يلعن على المنابر بطل الإسلام العظيم وابنه البار وإمامه الأواب ورابع الخلفاء وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وساعد في هذا التزييف شعراء العصر().

      بدأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله بتغيير هذا الواقع إلى الصورة المثلى في ذهنه، فلما ولي بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم ، وهي الأموال الهائلة.. والثروات العظيمة التي تملكها أسرته، وإخوته وحاشيته، وعزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون " من أين لك هذا "() وبدأ في ذلك بنفسه، فقد كان له عقارات أيام أسلافه من الخلفاء فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها وأنها من أملاك الدولة … وأحصى أملاكه فإذا هي كلها من عطايا الخلفاء ولم يجد إلا عيناً في السويداء كان استنبطها من عطائه ـ والعطاء رواتب عامة تعطى للناس جميعاً من بيت المال ـ وتوجه إلى أمراء البيت الأموي فجمعهم وحاول أن يعظهم ويخوفهم الله، وبين لهم أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله .. وأن ما بأيديهم من أموال جمعوها من حرام ليس لهم إنما هو لله، وأرادهم على ردها فأبوا، ودعاهم مرة أخرى إلى وليمة واستعمل أسلوباً آخر من اللين فلم يستجيبوا ، فلما عجزت معهم أساليب اللين عمد إلى الشدة وأعلم أنه كل من كانت له مظلمة أو عدا عليه أحد من هؤلاء فليتقدم بدعواه ، وألف لذلك محكمة خاصة ، وبدأ يجردهم من هذه الثروات التي أخذوها بغير وجهها ويردها إلى أصحابها أو إلى الخزانة العامة .

      ووسطوا له عمة له كان يوقرها بنوا أمية لسنها وشرفها ، فكلمته فقال : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً، واختار له ما عنده ، فترك لهم نهراً ، شُرْبُهُم سواء ، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله ، ثم عمر فعمل عمل صاحبه ، ثم لم يزل يشتق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ ، وقد يبس النهر الأعظم ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان … ودعا بجمر ودينار ، فألقى الدينار في الجمر حتى إذا احمرّ أخذه بشيء وقرّبه إلى جلده ، وقال : يا عمة أما تشفقين على ابن أخيك أن يكوى بهذا يوم القيامة ؟ قالت : إذن لا تدعهم يسبونهم ، قال : ومن يسبهم؟! إنما يطالبونهم بحقوقهم ، فخرجت فقالت : هذا ذنبكم لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب ، اصبروا فإنه لا يجير .

      وتجرأ عليه ابن للوليد فكتب إليه كتاباً شديد اللهجة أشبه بإعلان الثورة ، فغضب عمر لله وقبض عليه وحاكمه بمحاكمة كانت تؤدي به إلى سيف الجلاد لولا أن تاب وأناب .

      وخضعوا جميعاً وردوا ما كان في أيديهم من الأموال … واكتفوا بمرتباتهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة ، ولكن عمر لم يكتف وأمر بقطع هذه الرواتب وإعطائهم عطاء أمثالهم ، وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس ، وعم الأمن وهمدت الثورات ، وشملت السعادة الناس ، واختفت مظاهر البذخ الفاحش ، ومظاهر الفقر المدقع ، وصارت هذه البلاد التي تمتد من فرنسا إلى الصين تعيش بالحب والإخلاص والود ().

      وأمر رحمه الله بعزل الولاة الظلمة ، وبدأ بالتغيير السريع الحاسم العميم الذي يجب أن يتم على مستوى الأمة في ذلك الوقت .

      حاله مع أمور الخلافة :

      وفي اليوم التالي من خلافته رأى موكباً فخيماً من الجياد المطهمة يتوسطها فرس زينت كالعروس ليمتطي الخليفة ظهرها البَذِخ ، فأمر بها إلى بيت مال المسلمين ، ثم لما وصل إلى السرادق فإذا هو فتنة ولا كإيوان كسرى فأمر بضمه لبيت المال ، ودعا بحصير ففرشه على الأرض ثم جلس فوقه ، ثم جيء بالأردية المزركشة والطيلسانات الفاخرة التي هي ثياب الخليفة ، فأمر بها إلى بيت المال ، ثم تعرض عليه الجواري ليختار منهن وصيفات قصر ، فيسألهن عنها ولمن كانت وما بلدها فيردها إلى أرضها وذويها ().





      أعماله في الخلافة :--

      إن العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في قبيل خلافته كان كما يصفه أحد الكتاب:" زمن قسوة من الأمراء "، كيف لا والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن ، وغيرهما بالحجاز وبمصر وبالمغرب، حتى قال عمر:" امتلأت الأرض والله جوراً".
      وكذلك فيه من الفساد أن راح كل قادر على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه، وغابت الأخلاق فشاع الترف والانحلال، ووراء الفساد سار الخراب ، فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة ومحق إنتاجها، وكان فيه تزييف لقيم الدين حتى إنه كان يلعن على المنابر بطل الإسلام العظيم وابنه البار وإمامه الأواب ورابع الخلفاء وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وساعد في هذا التزييف شعراء العصر().

      بدأ عمر بن عبد العزيز رحمه الله بتغيير هذا الواقع إلى الصورة المثلى في ذهنه، فلما ولي بدأ بلحمته وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم ، وهي الأموال الهائلة.. والثروات العظيمة التي تملكها أسرته، وإخوته وحاشيته، وعزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون " من أين لك هذا "() وبدأ في ذلك بنفسه، فقد كان له عقارات أيام أسلافه من الخلفاء فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها وأنها من أملاك الدولة … وأحصى أملاكه فإذا هي كلها من عطايا الخلفاء ولم يجد إلا عيناً في السويداء كان استنبطها من عطائه ـ والعطاء رواتب عامة تعطى للناس جميعاً من بيت المال ـ وتوجه إلى أمراء البيت الأموي فجمعهم وحاول أن يعظهم ويخوفهم الله، وبين لهم أن ليس لهم من الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله .. وأن ما بأيديهم من أموال جمعوها من حرام ليس لهم إنما هو لله، وأرادهم على ردها فأبوا، ودعاهم مرة أخرى إلى وليمة واستعمل أسلوباً آخر من اللين فلم يستجيبوا ، فلما عجزت معهم أساليب اللين عمد إلى الشدة وأعلم أنه كل من كانت له مظلمة أو عدا عليه أحد من هؤلاء فليتقدم بدعواه ، وألف لذلك محكمة خاصة ، وبدأ يجردهم من هذه الثروات التي أخذوها بغير وجهها ويردها إلى أصحابها أو إلى الخزانة العامة .

      ووسطوا له عمة له كان يوقرها بنوا أمية لسنها وشرفها ، فكلمته فقال : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً، واختار له ما عنده ، فترك لهم نهراً ، شُرْبُهُم سواء ، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله ، ثم عمر فعمل عمل صاحبه ، ثم لم يزل يشتق منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ ، وقد يبس النهر الأعظم ولن يروي أهله حتى يعود إلى ما كان … ودعا بجمر ودينار ، فألقى الدينار في الجمر حتى إذا احمرّ أخذه بشيء وقرّبه إلى جلده ، وقال : يا عمة أما تشفقين على ابن أخيك أن يكوى بهذا يوم القيامة ؟ قالت : إذن لا تدعهم يسبونهم ، قال : ومن يسبهم؟! إنما يطالبونهم بحقوقهم ، فخرجت فقالت : هذا ذنبكم لماذا زوجتم أباه بنت عمر بن الخطاب ، اصبروا فإنه لا يجير .

      وتجرأ عليه ابن للوليد فكتب إليه كتاباً شديد اللهجة أشبه بإعلان الثورة ، فغضب عمر لله وقبض عليه وحاكمه بمحاكمة كانت تؤدي به إلى سيف الجلاد لولا أن تاب وأناب .

      وخضعوا جميعاً وردوا ما كان في أيديهم من الأموال … واكتفوا بمرتباتهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة ، ولكن عمر لم يكتف وأمر بقطع هذه الرواتب وإعطائهم عطاء أمثالهم ، وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس ، وعم الأمن وهمدت الثورات ، وشملت السعادة الناس ، واختفت مظاهر البذخ الفاحش ، ومظاهر الفقر المدقع ، وصارت هذه البلاد التي تمتد من فرنسا إلى الصين تعيش بالحب والإخلاص والود ().

      وأمر رحمه الله بعزل الولاة الظلمة ، وبدأ بالتغيير السريع الحاسم العميم الذي يجب أن يتم على مستوى الأمة في ذلك الوقت .

      حاله مع أمور الخلافة :

      وفي اليوم التالي من خلافته رأى موكباً فخيماً من الجياد المطهمة يتوسطها فرس زينت كالعروس ليمتطي الخليفة ظهرها البَذِخ ، فأمر بها إلى بيت مال المسلمين ، ثم لما وصل إلى السرادق فإذا هو فتنة ولا كإيوان كسرى فأمر بضمه لبيت المال ، ودعا بحصير ففرشه على الأرض ثم جلس فوقه ، ثم جيء بالأردية المزركشة والطيلسانات الفاخرة التي هي ثياب الخليفة ، فأمر بها إلى بيت المال ، ثم تعرض عليه الجواري ليختار منهن وصيفات قصر ، فيسألهن عنها ولمن كانت وما بلدها فيردها إلى أرضها وذويها ().








      وفاته رحمه الله ومدة خلافتـــــــه:

      كان سببها السّل ، وقيل سببها أن مولى له سمَّه في طعام أو شراب وأعطي على ذلك ألف دينار ، فحصل له بسبب ذلك مرض ، فأُخبر أنه مسموم ، فقال : لقد علمت يوم سُقيت السُّم ، ثم استُدعي مولاه الذي سقاه ، فقال له : ويحك ما حملك على ما صنعت، فقال : ألف دينار أُعطيتها ، فقال : هاتها ، فأحضرها فوضعها في بيت المال ، ثم قال له : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك ().

      واشتد به المرض وتحولت الملايين من أبناء أمته إلى أطفال ، يوشك اليتم أن يحيق بهم حين يفقدون أباهم .. الجياع الذين شبعوا .. والعراة الذين اكتسوا .. والخائفون الذين أمنوا .. والمستضعفون الذين سادوا .. واليتامى الذين وجدوا فيه أباهم .. والأيامى اللاتي وجدن فيه عائلهن .. والضائعون الذين وجدوا فيه ملاذهم بعد الله .. كل هؤلاء وأولئك في شعبه وأمته سحقتهم أنباء مرضه الدَّاهم .

      ثم أمر بدعوة أبنائه فجاءوا مسرعين اثني عشر ولداً وبنتاً ، شعثاً غبراً ، قد زايلت جسومهم الشاحبة نضرة النعيم !! .. وجلسوا يحيطون به ، وراح يُعانقهم بنظراته الحانية الآسية .. وراح يودعهم بقوله : يا بني إن أباكم خُيِّر بين أمرين ، أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة ، فاختار الجنة وآثر أن يترككم لله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ().

      ولما احتضر قال : أجلسوني فأجلسوه ، فقال : إلهي أنا الذي أمرتني فقصّرت ونهيتني فعصيت ثلاثاً ولكن لا إله إلا الله ، ثم رفع رأسه فأحد النظر ، فقالوا : إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين ، فقال : إني لأرى حضرة ما هم بأنس ولا جان ، ثم قُبض من ساعته .

      وفي رواية : أنه قال لأهله : اخرجوا عني ، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة فسمعوه يقول : مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) ، ثم هدأ الصوت ، فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوى إلى القبلة وقبض().

      وكان موته سنة إحدى ومائة ، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأياماً ().
    • استخدام الحاسوب في التعليم

      الفهرس :
      1 المقدمة
      2 الكمبيوتر كمادة دراسية

      2 الكمبيوتر كوسيلة تعليمية

      3 الكمبيوتر كمختبر علمي

      3 الكمبيوتر كأداة لحل المشكلات

      4 الكمبيوتر كأداة لتقديم المواد الدراسية

      4 الكمبيوتر في المدرسة

      5 الكمبيوتر في حجرة الدراسة

      5 مختبر الكمبيوتر

      5 الكمبيوتر والتحديات التي تواجه المدرسة العربية

      6 الكمبيوتر والمجالات الدراسية

      7 مجالات المواد الدراسية

      7 الكمبيوتر وتدريس اللغات

      8 إدارة خطوات الدرس المرسومة

      9 الاستجابة الفورية

      10 تهيئة الإطار المناسب

      11 المدرس كمثل يحتذى

      12 المدرس مصدر المعلومات

      13 التعرف على الكمبيوتر

      14 الكمبيوتر وتعلم الرياضيات

      15 الكمبيوتر وتدريس العلوم

      16 الكمبيوتر ودراسة الإنسانيات

      16 الكمبيوتر ودراسة الجغرافيا

      18 الكمبيوتر ودراسة التاريخ

      19 الكمبيوتر والألعاب الذهنية

      20 الخاتمة

      21 المراجع

      المقدمة

      إن الكمبيوتر الذي رسخت أقدامه في العديد من مجالات الحياة سيسهم إسهاماً بعيد الأثر في تقدم الطلاب ، حيث أن العالم من حولهم يستثمر الكمبيوتر ويستخدمه ، ولذلك فإنه من المنطقي أن يتعرف الطلاب على الكمبيوتر في مرحلة الدراسة تحت إرشاد وتوجيه المدرسين استعداد للحياة التي تنتظرهم والعالم المحيط بهم ، إن الفرص التي يتيحها الكمبيوتر والتحديات التي يفرضها تجعله من الأولويات التربوية ، وهدفنا من هذا البحث تزويد العاملين في حقل التربية بخلفية علمية مناسبة في هذا المجال مما يتيح لهم اتخاذ القرار المناسب وإجراء الاختيار الصحيح(1) .

      وعندما بدأ استعمال الكمبيوتر في المدارس الأمريكية في الستينات كان أساس الاستخدام يقوم على اشتراك جموعات من الطلاب في المدرسة الواحدة أو المدارس المجاورة في استعمال الجهاز الضخم لوقت محدود ومحدد ، وقد تطلب ذلك دوام الاتصال بين وحدات الاستخدام والكمبيوتر المركزي من خلال أجهزة اتصال متعددة ، كما تطلب أجهزة كمبيوتر ضخمة وباهظة الثمن ، نتج عن ذلك أن أصبح استخدام الكمبيوتر بالفصول الدراسية باهظ التكاليف مع الشك في إمكانية الاعتماد عليه ، أما الآن وبعد الإنجازات العظيمة في تقنية الكمبيوتر الشخصي أو المصغر فقد تغيرت الأحوال .

      الكمبيوتر كمادة دراسية :-

      إن القوة الكامنة في جهاز الكمبيوتر أحدثت تأثيراً شاملاً في شتى أوجه الحياة الحديثة فخلال الثمانينات انتشر الكمبيوتر حتى أصبحت معظم الوظائف تتضمن استعمال الكمبيوتر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وقد أضحى فهم الكمبيوتر وطرق التحكم به من أهم مهارات الحياة التي يتطلبها ميدان العمل في حياتنا الحديثة(2) .

      الكمبيوتر كوسيلة تعليمية :-

      يعد الكمبيوتر وسيلة متطورة لنقل وتوزيع العديد من المواد التعليمية وذلك باستخدام شبكات الاتصالات الحديثة ، إلى جانب ذلك فللكمبيوتر الكثير من المزايا والخصائص التي تجعل منه أداة تعليمية فريدة ذات فاعلية كبيرة .

      ورد فيما يلي بعضاً من هذه المزايا :-

      1) ينعم كل من يتعامل مع الكمبيوتر بخاصية التفاعل الإيجابي بين الكمبيوتر والإنسان الذي يستخدمه وهو بذلك يختلف عن علاقة المشاهد بالتلفزيون حيث يكون موقف المشاهد موقفاً سلبياً .

      2) يقدم الكمبيوتر العناية الفردية لكل من يستخدمه من خلال التفاعل المتبادل ، وهو بهذا يحقق ركناً أساسياً من أركان التربية لا يستطيع الكثير من المعلمين تطبيقه في فصولهم التي يتزايد عدد الطلاب فيها .

      3) يوفر الكمبيوتر للطلاب الفرص العظيمة للتجريب والمغامرة دون خوف أو رهبة ، ففي التعامل مع الكمبيوتر يتحرر الطلاب من الخوف وما يسببه من كبح رغبتهم في الانطلاق نحو استكشاف آفاق جديدة وتحقيق إنجازات متطورة ، إن خشية ارتكاب الأخطاء والتعرض للتوبيخ أمر لا وجود له في التعامل مع الكمبيوتر في مجال التعلم والتعليم .

      4) من المعروف أن الكمبيوتر كآلة لا يحس بالتعب ، كما أنه يتميز بالصبر لذلك يفسح الكمبيوتر المجال للتدريب التدرب مما يخفف من الضغط النفسي الذي يصاحب مواجهة المشكلات ، وبالإضافة إلى ذلك يتيح الكمبيوتر للمدرس فسحة من

      الوقت ليتجه إلى بذل المزيد من العناية الفردية المبدعة لمن يحتاج ذلك من طلابه .

      5) لقد أثبتت التجارب أن الكمبيوتر يعتبر قوة حفز هائلة للدارس ويحرص المدرسون على استثمار هذه الخاصية إلى أقصى حد ، وخاصة في مجال بعض المواد التي كانت تعتبر في الماضي مواد صعبة أو مملة مثل الرياضيات بفروعها ومستوياتها المختلفة .

      6) يحقق الكمبيوتر الكثير من الاتجاهات التربوية البناءة مثل التعليم عن طريق الاستكشاف ، فالتعلم من خلال المشاهدة والاستكشاف من الأمور التي تدعمها فلسفة التعليم في عصرنا الحالي ، ولا شك أن الفضول والرغبة في الاستكشاف تحفز القدرة للتعلم المتجدد .

      7) يلعب الكمبيوتر دوراً هاماً في مراعاة الفروق الفردية من حيث القدرات والمهارات والمستويات المختلفة للدارسين ، إذ يستطيع كل طالب أن يسير في دراسته بمصاحبة الكمبيوتر بالسرعة التي تتيحها له إمكاناته الذهنية والتحصيلية ، فالكمبيوتر يسلم زمام القيادة في عملية التعلم للطالب نفسه مما يساعد على دعم الثقة بالنفس ، وفتح المجال أمام التحصيل والنمو .(2)

      الكمبيوتر كمختبر علمي :-

      إن العلوم الحديثة ونموها المطرد تمثل تحدياً تمثل تحدياً هائلاً للإمكانات التي توفرها المدارس والهيئات المسئولة عن التعليم ، وهنا يبرز الدور الهام الذي يمكن أن يقوم به الكمبيوتر في العملية التعليمية ، وفي هذا الصدد ينبغي أن نتعرض للنقاط التالية :-

      1) إن قدرة الكمبيوتر كوسيلة لإجراء التجارب تتوقف على توفر البرامج ومدى جودتها تربوياً وفنياً .

      2) يتعذر على الكثير من المؤسسات التعليمية الحصول على الأجهزة الحقيقية للقيام بالتجارب المخبرية في جميع فروع العلوم الرئيسية ، وبالمثل فإن استخدام الكمبيوتر لإجراء كل التجارب أمر بعيد المنال وغير عملي بالنسبة لهذه

      المؤسسات .

      3) إن إجراء التجارب بوساطة الكمبيوتر يمكن أن يصور الأماكن والموضوعات التي كانت بعيدة عن متناول الطلاب ، ويتعذر القيام بها كتجارب في المختبرات التقليدية ، ومن الأمثلة على ذلك عرض محاكاة لرحلات الفضاء وإقامة محطة

      فضائية(3) .

      4) تتعامل معظم التجارب العلمية مع الكثير من المتغيرات التي ينبغي أن يتحكم بها الإنسان الذي يقوم بالتجربة ، وذلك لمعرفة أثر ذلك على العملية نفسها ، وفي هذا الصدد يلعب الكمبيوتر درواً أساسياً ، فمثلاً يمكن أن يقدم الكمبيوتر محاكاة للمتغيرات التجريبية التي يستحيل إجراء التجارب العلمية الواقعية عليها بسبب التكاليف الباهظة أو الخطورة البالغة ، وأحد الأمثلة الحية على ذلك والمتوفرة حالياً محاكاة تعليمية عن طريق الرسوم لعمليات الطاقة النووية التي تتضمن محاكاة للتفجير النووي .(2)

      الكمبيوتر كأداة لحل المشكلات :-

      يدرك جميع رجال التربية الأهمية الكبيرة لمهارات حل المشكلات ، ولذلك يركزون في عملهم على إتاحة الفرصة للطلاب لاكتساب هذه المهارات التي تساعد الطلاب على التفكير المنطقي بما يتيح لهم تناول المواقف بأسلوب إبداعي ،

      ويؤكد الباحثون التربويون على أهمية هذه المهارات كمهارات أساسية لمواجهة مطالب الحياة العملية ، وفي هذا المجال تبدو أهمية الكمبيوتر واضحة :-

      1) يخلص الكمبيوتر الطلاب من عبء العمليات الحسابية التي كانوا يجرونها بالورقة والقلم عند تحليل المشكلات مما كان يعوق عملية التفكير والتوصل إلى حل المشكلات.

      2) إن استخدام الكمبيوتر لحل مشكلة تتضمن بعض المتغيرات يسمح بتحويل مركز الاهتمام من آليات الحل إلى العلاقات التي تدور حولها الدراسة .

      3) يعتبر تعلم برمجة الكمبيوتر أسلوباً هاماً يتيح للطلاب تنمية مهارات حل المشكلات ، إن الذي يدرس البرمجة يتعلم كيفية بناء الخوارزمية أي خطوات الإجراءات التي تؤدي إلى تنفيذ الأعمال المطلوبة ، وتعتبر هذه طريقة منهجية وفعالة لحل المشكلات المركبة أو المعقدة .(4)

      الكمبيوتر كأداة لتقديم المواد الدراسية :-

      يعتبر الكمبيوتر أداة فعالة بين يدي المدرس الواعي الطموح ، إذ يستطيع أن يستثمره في تقديم المواد الدراسية التي قد تستعصي على الفهم والإدراك بدون الكمبيوتر وإمكاناته ، فيستطيع المدرس مثلاً أن يستغل ما يتيحه

      الكمبيوتر من إمكانية التلوين والرسم ، وتخزين البيانات واسترجاعها في توضيح المفاهيم الصعبة مثل :-

      * رسم الدوال الرياضية أو الإحصائية .

      * محاكاة العمليات التي يقوم بها القلب والدورة الدموية .

      * بيان العلاقات الهندسية والتغيرات التي تلحق بالطبيعة من حيث التماثل والتطابق ومعالجة هذه الأشكال تصغيراً وتكبيراً .

      * إظهار الخرائط والتدريب على أساليب رسم الخرائط .

      * يمكن توصيل الكمبيوتر بآلة طابعة خاصة لإنتاج نسخ من النصوص المقررة وبطاقات عمل توزع على الطلاب .

      الكمبيوتر في المدرسة :-

      يتطلب توفر خدمات الكمبيوتر في المدرسة النظر في بعض الأمور الهامة مثل عدد أجهزة الكمبيوتر والشبكات المتوفرة ، وموقع هذه الأجهزة والشبكات من المجتمع المدرسي ، إن توفر عدد محدود من أجهزة الكمبيوتر يختلف تماماً عن إمكانية توفير عدد يتناسب مع عدد فصول المدرسة وطلابها .(5)(2)

      إن للمكان الذي يخصص لأجهزة الكمبيوتر في المدرسة تأثير مباشر على هيئة التدريس وعلى نمط استخدام الطلاب لهذه الأجهزة ، لقد اتفق المربون الذين استخدموا الكمبيوتر في عملهم وألفوه ، على منهجين في تحديد المكان الذي يوضع فيه الكمبيوتر :-

      أ) وضع جهاز كمبيوتر واحد أو عدد محدود من الأجهزة في قاعة الدرس .

      ب) إقامة \" مختبر للكمبيوتر \" في موقع مركزي بالمدرسة يوضع فيه عدد كاف من أجهزة الكمبيوتر .

      ويتوقف نجاح المنهجين على عاملين أساسيين :-

      1) الملاءمة :- يجب أن يكون الموقع وعدد الأجهزة ملائماً للأغراض المستهدفة من استعمال الكمبيوتر .

      2) الشخص المناسب :- ينبغي اختيار المدرس المناسب لهذا الموقع ، وهذا يتطلب أن يكون متحمساً وواعياً لكي ينجح في توجيه المجتمع المدرسي نحو تقبل الكمبيوتر واستخدامه .

      إن توفر جهاز كمبيوتر واحد أو اثنين في حجرة الدراسة يعتبر أسلوباً مشجعاً إذا توفر المدرس المتحمس لاستخدام الكمبيوتر ، طالما أنه وضع الخطة لاستثمار الكمبيوتر في أنشطة الفصل ، وفي هذه الحالة يمكن وضع أجهزة

      الكمبيوتر في جانب الحجرة أو في مساحة تخصص لها في مؤخرتها .

      ومن ناحية أخرى فإن وجود مختبر كمبيوتر في المدرسة يتوفر به العدد الكافي من الأجهزة لخدمة طلاب فصل كامل تحت إشراف مدرس قدير لديه الخبرة في استخدام أجهزة الكمبيوتر يعتبر كسباً كبيراً للعملية التعليمية ، ومن الطبيعي والمنطقي أن تختلف طريقة التناول والتدريس بين الوضعين السابقين ، في حالة أجهزة الكمبيوتر داخل الفصل فإن الطلاب سيؤدون الأنشطة المرتبطة بالكمبيوتر واحداً تلو الآخر أو على شكل مجموعات صغيرة ، بينما ينهمك بقية طلاب

      الفصل في أنشطة تربوية أخرى حول الكمبيوتر أو أنشطة مستقلة ، أما في حالة توفر مختبر للكمبيوتر فإن جميع طلال الفصل يشتركون في الوقت ذاته في أنشطة الفصل .(5)

      ولا شك أنكم كتربويين تدركون أن المنهجين السابقين لهما ما يؤيدهما وما يساندهما كأساليب تربوية فعالة ، ففي الحالة الأولى عندما يعمل الطالب مستقلاً ومنفرداً بجهاز الكمبيوتر فإنه يكتسب مهارات تربوية خاصة وثقة بالنفس واطمئناناً يحفزه إلى تحقيق المزيد من الإنجاز ، كما أن إطار الألفة والود الذي ينشأ في مثل هذه الحالة كسب كبير لعملية التعلم وفي الحالة الثانية حيث يتوفر مختبر للكمبيوتر فإن المردود التربوي يصبح مضاعفاً ، فبالإضافة إلى ما سبق يزداد حماس الطلاب لوجود عنصر المشاركة مع أقرانهم بالفصل ، وكذلك عنصر التنافس للتوصل إلى النتائج الصحيحة مع مراعاة عنصر السبق الزمني .

      الكمبيوتر في حجرة الدراسة :-

      وهناك أكثر من وضع يناسب الكمبيوتر داخل حجرة الدراسة ، حيث يمكن أن يشترك طالبان في العمل على الجهاز الواحد ، ويستثمر كل منهما التعلم الفوري من زميله ، كما يشتركان في التوصل إلى احتمالات حل المسائل ، وعلى مقربة من

      الجهاز توجد طاولة حيث يقوم طلاب آخرون بأداء بعض المهام من قراءة وكتابة قبل الانتقال إلى التعامل مع الكمبيوتر.(6)

      وهناك بعض الاعتبارات الأساسية التي ينبغي الأخذ بها عند التخطيط لاستخدام الكمبيوتر في فصل مدرسي معين ، وهذه الاعتبارات هي :-

      1) إن مثل هذا الإجراء يمكن أن يصلح كبداية طيبة لاستخدام الكمبيوتر في المؤسسة التربوية ، فالفصل الناجح في مجال ما يخلق الحماس ويقدم المساندة لعملية التوسع في هذا المجال ، وليكن استخدام الكمبيوتر مثلاً .

      2) يشجع وجود الكمبيوتر داخل حجرة الدراسة المدرسين على تبني الأساليب المتطورة لتنشيط بعض المقررات التقليدية .

      3) إن عملية دمج الأنشطة المصاحبة للكمبيوتر بالعمل داخل الفصل الدراسي عملية ملائمة وسهلة ، إذ أنه لا يتطلب من الطلاب الانتقال خارج الفصل لممارسة نشاط ما.

      4) يمكن أن يساعد وجود الكمبيوتر في حجرة الدراسة المدرس على استيعابه للكمبيوتر حتى يشعر بالارتياح إليه فيطوعه بسهولة ويسر لمطالبه التربوية .

      5) يتميز وجود الكمبيوتر في الفصل بتوفير الفرصة للمدرس أن يتحكم في العملية التعليمية كاملة .

      6) إن توصيل الكمبيوتر بشاشة جهاز تلفزيون كبيرة نوعاً ما يسمح للمدرس باستخدام جهاز كمبيوتر واحد في مقدمة الفصل وذلك لمتابعة إلقاء الدرس أو بهدف التوضيح .

      7) في حالة استخدام الكمبيوتر داخل فصول معينة ، لن يتيسر للفصول الأخرى استخدام إمكانات الكمبيوتر .

      مختبر الكمبيوتر :-

      في مختبر الكمبيوتر ممكن وضع أجهزة الكمبيوتر في مختبر مركزي بالمدرسة ، وفي هذا النموذج توزع أجهزة الميكروكميوتر حول الحجرة مع إفساح المجال والمقاعد لطالبين أمام كل جهاز .

      وفي مقدمة الفصل توجد مساحة بها مكتب المدرس ، ولوح للكتابة يمكن رؤيته بوضوح من جميع مقاعد الطلاب ، ويتيح هذا الحيز للمدرس إلقاء الدرس عندما يريد ويوجه ويضبط عمل الطلاب .(6)(7)

      هناك أمور يجب وضعها موضع الاعتبار عند النظر في التخطيط لإقامة مختبر كمبيوتر مركزي :-

      1) يوجد ارتباط تام بين قوة الكمبيوتر وتعدد استخداماته ، لقد أصبح من الميسور الآن القيام ببعض الأعمال باستخدام عدة أجهزة كمبيوتر بعد أن كانت مستحيلة مع جهاز أو جهازين .

      2) يمكن تدريس برمجة الكمبيوتر بسهولة في مختبر الكمبيوتر .

      3) تتيح مركزية المختبر توفر أجهزة الكمبيوتر لجميع أعضاء هيئة التدريس وكل الطلاب .

      4) إن وجود مختبر كمبيوتر في المدرسة يضعه على مرأى من الجميع ، ويجعله متاحاً لكل من يرغب من المدرسين .

      5) يوفر المختبر الفرصة لطلاب فصل كامل أن يتابعوا نفس النشاط مع الكمبيوتر وكذلك في وقت واحد .

      6) يحتم أسلوب العمل بالمختبر وجود شخص واحد يكون مسؤولاً عن معدات الكمبيوتر وكذلك التعامل مع عمليات الصيانة والتزويد معاملة مركزية ، ومع ذلك فمن المسلم به أنه ينبغي على مسؤول المختبر أن يكرس وقتاً أطول لأجهزة الكمبيوتر مما يتاح لمدرس الفصل .

      7) لا شك أن تكلفة إقامة مختبر كامل مزود بأجهزة الكمبيوتر ستفوق ما يمكن أن ينفق على تزويد الفصول بجهاز أو اثنين .

      الكمبيوتر والتحديات التي تواجه المدرسة العربية :-

      لا شك أن هناك بعض المعوقات التي تعترض طريق إدخال الكمبيوتر في المدرسة العربية بالشكل المطلوب ، وهذه العوائق تشكل تحدياً يجب التغلب عليه لإتاحة الفرصة أمام الطالب العربي للحاق بالأمم المتقدمة ، وتضييق الفجوة

      التكنولوجية ، ومن هذه التحديات :-

      1) عدم توفر القناعات الكافية لدى بعض الإدارات التربوية العربية بأهمية إدخال الكمبيوتر إلى المدرسة العربية .

      2) مشكلة تدريب المدرسين وما تتطلبه من خبرات فنية ومالية .

      3) عدم توفر العدد الكافي من الكوادر الفنية والخبراء العرب لتحمل مسؤولية إعداد البرامج التعليمية وتأهيل المدرسين .

      4) الأموال اللازمة لإعداد مختبرات الكمبيوتر في المدارس .

      5) خاصية اللغة العربية التي يجب توفرها في أنظمة التشغيل ولغات البرمجة

      ولغات التأليف .

      6) عدم توفر البرامج التعليمية ( Courseware or Educational Software )

      في الموضوعات والأبحاث المختلفة باللغة العربية .

      الكمبيوتر والمجالات الدراسية :-

      يقدم المجتمع العربي وكله ثقة على اقتحام فسيح من مجالات استخدامات الكمبيوتر في الحياة العصرية ألا وهو مجال التربية ، ونرجو إلا يتبادر إلى الأذهان أننا سنحاول اقتفاء آثار من سبقونا إلى استخدام الكمبيوتر تقليداً ، فالعالم أجمع في الغرب والشرق يخطو خطوات متأنية نحو تبني الكمبيوتر في التربية ، حقاً لقد انتشر الكمبيوتر في كل أوجه الحياة ، ولكن في مجال التربية تتخذ الحيطة والحذر والتخطيط لأن البشر ونقصد الطلاب هم مجال الاستخدام ومجال التطبيق ، ولذلك ينبغي أن نسير جنباً إلى جنب مع بقية العالم نحو الاستثمار الكامل المجدي للكمبيوتر في ميدان التربية ، إن الاستيعاب الكامل لمفهوم الكمبيوتر سيجد مجالاً خصباً في الأجيال الصاعدة الذين سيكون الكمبيوتر عدتهم وعتادهم في مستقبل حياتهم ، إن أي تقصير أو تخلف من المجتمع الحاضر نحو الإعداد الأمثل لمجتمع المستقبل سيكون وصمة على جبيننا لا نقبلها بل نرفضها .

      مجالات المواد الدراسية :-

      وعندما نبدأ الحديث عن الكمبيوتر والتربية ينبغي أن نعرض أولاً لفلسفة وطرق وأساليب استخدام الكمبيوتر في مجالات المواد الدراسية المختلفة بالإضافة إلى المهارات الأساسية للحياة .

      إن هذه الخلفية هي الخطوة التمهيدية الأولى في مجال تدريب المعلمين لخوض هذه التجربة ، فبدون التدريب الهادف لا يمكن أن يتحقق النجاح .

      ويمكن تقسيم المواد الدراسية إلى مجموعات متجانسة إلى حد كبير ، وذلك حسب نوعياتها واهتماماتها :-

      1) اللغات .

      2) الرياضيات .

      3) العلوم .

      4) الإنسانيات .

      5) الفنون والمهارات .

      6) الألعاب الذهنية .

      ونبدأ باستعراض بعض منها :

      الكمبيوتر وتدريس اللغات(2)

      لكي نستطيع تفهم الدور الذي يمكن أن يقوم به الكمبيوتر في عملية التعلم بصفة عامة ينبغي أن نؤكد حقيقة أن الكمبيوتر مجرد جهاز بين يدي المدرس ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يحل محل المدرس الإنسان ، وإذا كان الكمبيوتر لا يحل محل المدرس فإن المنطق سيؤدي بنا إلى القول أنه سيقوم بالأنشطة المناطة بالمدرس ، وهنا لا بد أن نحصر الأنشطة التي يقوم بها المدرس ، ونطبق ذلك على مجال اللغات .

      1) إدارة خطوات الدرس المرسومة :-

      تعني خطوات الدرس جميع الأنشطة التي يعدها المدرس سلفاً لتساعد عملية تعلم اللغة وتتراوح هذه بين التدريبات والتمرينات إلى توزيع الأدوار والأغاني والألعاب وكيفية دمجها في إطار شامل للدرس ، يستطيع المدرس الذي يعي دوره الإنساني ودور التقنية التربوية أن يستغل الكمبيوتر لإدارة مثل هذه الأنشطة من خلال الشاشة ومولد الصوت .

      2) الاستجابة الفورية :-

      تتطلب مهمة التدريس ممن يعمل بها أن يكون حاضر البديهة سريع الخاطر ، يتجاوب مع حاجات الطلاب واهتماماتهم ومبادراتهم لمثل هذه المواقف ، ويستطيع المدرس الحصيف أن يعد برامجه مستغلاً بلاغات الشرط إذا – إذن IF- THEN والمتغيرات ، فالمدرس الخبير يستطيع أن يتوقع الخطوة أو الخطوات التالية ، من تفكير ورد فعل طلابه ، ويستطيع المدرس استثمار الخوارزمية التي يبني عليها برامجه الموجهة لكي يعود الطلاب على الإدلاء بآرائهم وتوقع الإجابة

      السليمة من خلال تعاملهم مع الكمبيوتر .(1)

      3) تهيئة الإطار المناسب :-

      منذ عصر طويل اختفت حجرة الدراسة الصماء الجرداء التي لا تضم سوى المدرس والطالب والكتاب ، إن اللوحات والرسوم والصور والتسجيلات قد أصبحت من مكونات الجو الدراسي داخل الفصل ، فمنها ينتقل المدرس إلى الحوار الحي مع الطلاب وتفاعلهم الإيجابي مع موضوع الدرس ، ومن منا يستطيع أن يتجاهل الإمكانات التي يتيحها الكمبيوتر من رسوم Graphics وصور متحركة Animation ومن الشاشة وحولها يدور الدرس والنشاط ، وقد تجسدت المفاهيم واستطاع الطلاب أن يروها بأعينهم .

      4) المدرس كمثل يحتذى :-

      إن مدرس اللغة هو المثل الحي الوحيد الذي يتوفر للطلاب داخل الفصل ليدير دفة الحوار الطبيعي ( التواصل ) ويعمل على ترسيخ المظاهر الصوتية للغة ، بالإضافة إلى الوظائف اللغوية والتراكيب اللغوية ، وهنا يكمن التحدي

      الجميل لكل مدرس ذي خيال وابتكار حتى ول لم تتوفر لجهاز الكمبيوتر المستعمل بالمدرسة إمكانية إخراج الأصوات ، البرامج التي يعدها المدرس مستغلاً كل إمكانات الكمبيوتر التي أشرنا إلى بعض منها في الفقرات السابقة ، يمكن أن تكون منطلقاً لمثل هذا المستوى من تعلم اللغة ، ومن عمل المدرس ، إن الشاشات التي تحمل الرسوم لأشخاص يتبادلون الحديث وجهاز التسجيل المرافق والذي يمكن ضبط التسجيل به مع سرعة عرض الصور على الشاشة ، يمكن أن تقدم هذا المثل الصوتي المرئي معاً مما يعمق التجارب على الدارسين .(6)

      5) المدرس مصدر معلومات :-

      على الطرف الآخر مما قدمنا حين كان المدرس يقدم الحفز للطلاب ، فإن الحال هنا يتغير بحيث يبدأ الطالب بالاستفسار فيجيبه المدرس ، ففي الفصول الدراسية التقليدية يشكو المدرسون من عدم تفاعل طلابهم بإلقاء الأسئلة والاستزادة من المعلومات ، ولا نستطيع أن ننكر حدوث هذا بفعل ضغط ظروف العمل بالفصل ، والعدد الكبير من الطلاب ، وإن المدرس الذي يعشق عمله ويتمتع بالخبرة والخيال والحافز يستطيع أن يقدر مواضع ومضمون الأسئلة ، ومن ثم يقوم بإعداد البرنامج المناسب الذي يضم هذه الأسئلة والإجابات عليها ليحصل عليها الطلاب بأنفسهم .

      6) التعرف على الكمبيوتر :-

      إن الآمال المعقودة على المدرسين في استثمار طاقات الكمبيوتر في أداء عملهم لآمال عريضة ، ولتحقيق ذلك يجب أن يسعى المدرسون إلى فهم أسلوب عمل الكمبيوتر وطرق استخدامه في تعليم اللغة ، فالجيل الحاضر من المدرسين لم يتلقوا دراسة منتظمة عن الكمبيوتر ، ولم يمارسوا التعامل معه .

      إن المفهوم الحديث للكمبيوتر هو الجهاز الذي \" يخزن ويخرج الرموز \" وقد تكون هذه الرموز \" أرقاماً \" وقد تكون \" حروفاً ونصوصاً \" وعندما بدأ استخدام الكمبيوتر في شتى مجالات الحياة لم يقترب منه ويتعامل معه إلا \" علماء الكمبيوتر \" كما أن تناول موضوعات العلوم واللغات وما إلى ذلك جاء على أساس أن الكمبيوتر \" حاسب آلي \" وعلى أساس الجزئيات المكونة للغة من مفردات وما إلى ذلك من تدريبات واختبارات ، أما الآن وقد أصبح الميكروكمبيوتر يشيع الود والألفة بين من يستخدمونه ، ووضعاً للأمور في نصابها ، فإن الدعوة يجب أن توجه إلى المتخصصين في كل مجال بوضع أفكارهم على الورق ليقوم المبرمجون وعلماء الكمبيوتر بوضعها في القالب الذي يتعامل معه

      الكمبيوتر .

      الكمبيوتر وتعلم الرياضيات :-

      كان تمرين الرياضيات في الماضي يتطلب من الطالب إثبات قدرته على حل المسائل التي تتضمن الكثير من العمليات الطويلة والمعقدة ، وكان تقييم الطالب يتم على أساس استطاعته التوصل إلى النتائج الصحيحة على هيئة أرقام وأرقام ، أما ماذا وراء هذه الأرقام فلم يكن من اهداف تدريس الرياضيات ، ولذلك كانت حصص ودروس الرياضيات كثيراً ما تبدو جافة ومملة بالنسبة لبعض الطلاب ، أما الآن فقد خطت الرياضيات خطوات جبارة نحو التطور ، وذلك بفضل ما يوفره الكمبيوتر من إمكانات في مجال الرياضيات ، ولم يعد التوصل إلى نتائج الرياضيات مشكلة ، فالكمبيوتر يقدم النتائج في غضون ثوان .(9)

      الكمبيوتر وتدريس العلوم :-

      إن أسلوب المحاكاة ، وهو أحد الأساليب التربوية الفعالة عميقة الأثر ، يوجه العاملين في مجال العلوم والكمبيوتر نحو خلق إطار صالح لتحقيق التوازن العقلي مع البيئة ، فالطالب الذي يستطيع أن يرى نتائج عمليات التفجير النووي على شاشة الكمبيوتر ، يستطيع أن يعي ما حوله من صراع بين القوى الجبارة في العالم والتهديد الشامل للعالم كله ، إن خلق جيل من دعاة السلام يمكن أن يعتمد على مثل هذا التطور في الكمبيوتر التعليمي ، ويمكن أن يقال نفس

      الشيء عن رحلات الفضاء ، وكيف نجح الإنسان في تحقيقها ، إن هذه التجارب التي يمارسها الطالب يتعمق أثرها مما يساعد على زيادة معدل النمو المعرفي .

      .(3)

      الكمبيوتر ودراسة الإنسانيات :-

      من المنطقي أن نقتصر في حديثنا على المفاهيم العامة ، مع تقديم بعض الأمثلة تطبيقاً لهذه المفاهيم ، ولذلك سنعرض في هذا المقال لجانب من هذه المواد كنماذج وعينات .

      الكمبيوتر ودراسة الجغرافيا :-

      إن إمكانية الرسم والتلوين التي يتيحها جهاز الميكروكمبيوتر تعتبر ورقة رابحة بين يدي مدرس وطالب الجغرافيا . يستطيع مدرسو الجغرافيا في المدرسة أن يشتركوا بروح الفريق في تصميم وإعداد البرامج التي تضم الخرائط الجغرافية التي تغطي المنهج ، ولا شك أن استخدام الرسوم والألوان والانتقال من خريطة شاملة إلى خريطة جزئية لمن العوامل التي تساعد على تعميق فهم الطلاب ، وتوفير وقت الدرس وادخار جهد المدرس ، إن مثل هذه الخرائط الأخيرة صماء تفتقر إلى الحيوية والإثارة التي تتوفر لخرائط الكمبيوتر .

      الكمبيوتر ودراسة التاريخ :-

      إن تاريخ الحرب العالمية الثانية أو الثورة الفرنسية على الورق سيظل كلاماً جامداً ، أما برامج الكمبيوتر لمحاكاة الحرب العالمية فإنها تضع أمام الطالب صورة حية لأوضاع العالم الاقتصادية والسياسية ، تلك الظروف التي

      كانت الباعث على نشوب الحرب العالمية الثانية ، وفي هذا البرنامج يمكن استثمار إمكانات الكمبيوتر في الرسوم لتصوير المعارك بما فيها من عنف ، والغارات الجوية وما ينشأ عنها من تفجير وتدمير ، إنا على ثقة من أن مثل هذه البرامج تعتبر من أقوى الأسلحة في يد الإنسان في معركة \" الحرب والسلام \" فالأجيال الصاعدة التي تتعامل مع مثل هذه البرامج سيشبون ليصبحوا دعاة سلام بفضل الله .

      الكمبيوتر والألعاب الذهنية :-

      رغم أن الكمبيوتر آلة صماء تستعير ذكاءها من الإنسان الذي يقوم ببرمجتهاإلا أنه يمكن أن يستخدم في تنمية القدرات الذهنية كتقوية الذاكرة وشحن التفكير المنطقي وخلق عادة التسلسل المنهجي ، يحاول علماء الذكاء الاصطناعي تطوير حاسب يحاكي بعض سمات الذكاء البشري ، وقادر على التعلم الذاتي ، ومن أمثلة تطبيقات الذكاء الاصطناعي برنامج لعب الشطرنج الذي ينافس فيه الكمبيوتر خصمه البشري مستخدماً القواعد والبيانات المخزنة في ذاكرته ، بل ويستطيع تلقائياً إضافة مهارات لعب جديدة يستخلصها من المواقف التي يتعرض لها خلال الممارسة .

      من أشهر ألعاب الكمبيوتر الذهنية هي تلك المتعلقة بألعاب الكلمات مثل الكلمات المتقاطعة ، وكلمة السر ، والكلمات المستعيرة ، والكلمات الناقصة ، تقوم هذه الألعاب بتنمية حصيلة المفردات اللغوية ، وتنمية القدرات الذهنية

      في نفس الوقت ، حيث تتطلب من اللاعب تصور كثير من الاحتمالات والانتقاء المنطقي من عدد كبير من التباديل والتوفيقات . (8)

      الخاتمة :-
      وختاماً ومن خلال الدراسات وحسب تجربتي المتواضعة أرى تقبل الذكور والإناث للحاسب الآلي ، وأنه ليست هناك فروق دالة بين الجنسين من حيث الاتجاه التفضيلي نحو الحاسب ، باستثناء ارتفاع درجـة قلق الحاسب لدى الإناث عنها لدى الذكور. كذلك ليست هناك فروق في الاتجاه ترتبط بالفروق العمرية. ويرتفع مستوى قلق الحاسب لدى الإناث في حالتي عدم التدريب وعدم الممارسة ، كما يرتفع مستوى الاتجاه الإيجابي نحو الحاسب الآلي لدى الجنسين مع استخدامه. ولخفض تلك الدرجة المرتفعة من قلق الحاسب لدى الإناث يجب تشجيع الإناث على التدريب على الحاسبات الآلية واستخدامها ، ونقترح لذلك ما يلي :-

      1- توفير نماذج أنثوية ( معلمات ،على سبيل المثال ) لتعليم وتدريب الإناث على استخدام الحاسب الآلي .

      2- إتاحة فرص استخدام جادة ومشجعة تسمح للإناث بصفة خاصة بقدر أكبر من الإثارة والتشويق ، بما يمكنهن من الشعور بالرضا والإنجاز في مواقف استخدام الحاسب الآلي .

      3- يجب على الوالدين والمعلمين أن يكونوا عناصر مساندة في البرامج التعليمية التي تقدم للإناث ، وأن يحسنوا من توقعاتهم من الإناث ، وأن يستخدموا الحاسب الآلي كمفهوم محايد جنسياً ، وعليهم تشجيعهن على القيام بدور فعال في جماعات الحاسب كما يجب أن تقدم للإناث الأقل خبرة تلك البرامج الأيسر والأكثر ملاءمة لقدراتهن وميولهن ، حتى تزداد دافعيتهن لاستخدام الحاسب .

      4- ويجب على المبرمجين ضرورة الموازنة في توجيه اهتماماتهم وقدراتهم لإعداد برامج تتلاءم واهتمامات ومتطلبات الذكور والإناث ، مما يزيد لدى الإناث بصفة خاصة خبرات النجاح ويقلل من الخبرات المحبطة ، ويؤدي بالتالي إلى تحسين الاتجاه نحو الحاسب وانخفاض قلق الحاسب لدى الإناث بصفة خاصة .

      لمراجع :-


      · ابراهيم ،فوزي والكزة،رجب ، الكمبيوتر ودوره في تطوير المناهج الدراسية الحديثة. الطبعة الثالثة ، 20002م ، دار القلم – الكويت .

      · أبو ريا،محمد وحمدي،نرجس.(2001).أثر استخدام استراتيجية التعلم باللعب المنفذة من خلال الحاسوب في اكتساب طلبة الصف السادس الأساسي لمهارات العمليات الحسابية الأربعة.دراسات ، العلوم التربوية ،المجلد 28،العدد(1)

      ،ص164-175

      · الجابري،محمد رجب و منتصر، عبد الله و منيزل،عبد الحميد.(1995). الحاسوب في التعليم .الطبعة الأولى،جامعة القدس المفتوحة ،عمان.

      · الحازمي ،مطلق.(1999).الرياضيات والحاسوب .الرياض: مكتب التربية العربية لدول الخليج

      · الفار،إبراهيم عبد الوكيل.(2001). استخدام الحاسوب في التعليم،دار الفكر.

      · المكتبة العالمية للكمبيوتر،2003، الكمبيوتر والتربية ، سلسلة ثقافة الكمبيوتر .

      · المناعي،عبد الله سالم (1995) التعليم بمساعدة الحاسوب وبرمجياته التعليمية .حولية مجلة التربية ،جامعة قطر ، العدد (12) 454-457.

      · رسالة المعلم ، العدد الأول ، المجلد الثاني والأربعين ، أيلول 2003م .
    • الشورى العمانية



      تطور وترسيخ المشاركة الوطنية

      يعبر نهج الشورى العمانية في تطوره المتدرج والمتواصل، وفي ارتباطه بخصوصية المجتمع العماني وتقاليده الاصيلة من ناحية، واستجابته لاحتياجات التطور والتحديث التي حققها وتحققها مسيرة النهضة العمانية الحديثة من ناحية ثانية، يعبر على نحو واضح وعميق عن الرؤية الشاملة والبعيدة النظر لجلالة السلطان المعظم ورعاية جلالته لنهج الشورى العمانية وثقته المطلقة في قدرات المواطن لعماني.

      وخلال سنوات النهضة المباركة سارت الشورى العمانية خطوات عديدة ومتتابعة حتى تكاملت مؤسساتها التي نص عليها النظام الأساسي للدولة وهي مجلس عمان المكون من مجلس الدولة ومجلس الشورى من جانب وليصير تشكيل مجلس الشورى العماني بالانتخاب المباشر من جانب المواطنين الذين ينتخبون ممثلي ولاياتهم في المجلس من جانب آخر وبدون أي تدخل من جانب الحكومة . وجاءت انتخابات مجلس الشورى لفترته الرابعة(2001/2003م) والتي جرت هذا العام ملمحا مضيئا في مسيرة الشورى العمانية في تجاوبها مع طموحات المواطنين من جانب وحرص جلالة السلطان المعظم على تفعيل دور المواطن العماني وزيادة مشاركته بشكل متواصل في ادارة وتوجيه التنمية الوطنية من جانب آخر.

      مجلس عمان

      لقد نص النظام الأساسي للدولة في الباب الخامس الذي حمل اسم: مجلس عمان وفي المادة 58 منه على أن يتكون مجلس عمان من: 1- مجلس الدولة 2- مجلس الشورى ويبيـن القانون اختصاصات كل منهما ومدته وأدوار انعقاده ونظام عمله كما يحدد عدد أعضائه والشروط الواجب توافرها فيهم وطريقة اختيارهم أو تعيينهم وموجبات إعفائهم وغير ذلك من الأحكام التنظيمية.

      وقد جاء تشكيل مجلس عمان وفقا للمرسوم السلطاني رقم 86/97 في 16/12/97 توسيعا لقاعـدة المشاركة في الرأي بما يؤدي إلى الاستفادة من خبرات أهل العلم وذوى الاختصاص ويسهم في تنفيذ استراتيجية التنمية الشاملة وخدمة الصالح العام . كما نص المرسوم في المادة الثانية منه على أن يفتتح جلالة السلطان مجلس عمان في بداية كل مدة جديدة لمجلس الدولة والشورى ، ولجلالته الدعوة إلى جلسات مشتركة للمجلسين من أجل بحث مسائل معينة تبينها الإرادة السامية عند صدور الدعوة. ولا يجوز في هذه الحالة بحث أية مسائل أخرى.

      ويتولى رئاسة الجلسات المشتركة رئيس مجلس الدولة أو رئيس مجلس الشورى بما يحدده جلالة السلطان المعظم.

      ونظراً لأهمية ما يضطلع به مجلس عمان عند انعقاده فإنه يجب على جميع أعضاء مجلسي الدولة والشورى حضور جلسات افتتاح مجلس عمان والجلسات المشتركة التي يدعو إليها جلالة السلطان وكذلك الجلسة المشتركة لمجلسي عمان والدفاع المنصوص عليها في المادة 7 من النظام الأساسي للدولة ولا يجوز لأي عضو التخلف عن حضور أي من الجلسات المشار إليها إلا لعذر قاهر.

      وبالنسبة للتوصيات التي تصدر عن الجلسات المشتركة التي يدعو إليها جلالة السلطان المعظم فإنها تصدر بأغلبية أصوات الحاضرين ما عدا الرئيس الذي عليه أن يعطي صوت الترجيح عند تساوي الأصوات.

      الجدير بالذكر أن جلالة السلطان المعظم أكد خلال كلمته في افتتاح مجلس عمان على عدد من الجوانب الهامة في عمل مجلس عمان ومؤسسات الشورى العُمانية الأخرى وهي، تعدد الآراء والأفكار التي تخدم الصالح العام وتـثري مسيرة التطور والبناء والدراسة الموضوعية للمسائل التي تطرح أو التي يرى الأعضاء طرحها والتي تتسم بالدقة والواقعية والوعي وصولآَ إلى آراء سديدة وحلول رشيدة تؤدى بجانب الجهود التي تبذلها الحكومة إلى تقدم الوطن وتوفير أسباب الحياة الكريمة للجميع على هذه الأرض الطيبة وإبداء الآراء وتقديم المقترحات بكل تجرد وترفع عن المصالح الخاصة وأن تلتزموا بالواقعية في تناول القضايا التي تمس المصلحة العليا للوطن والمواطن وتقوموا بمعالجتها من منظور شامل للبلاد بكل مناطقها وولاياتها، لا تهدفون في ذلك إلا إلى تحقيق الصالح العام بالإضافة إلى التركيز على القضايا الرئيسية وعدم الانشغال بأمور جانبية قد تعوق التـوصل إلـى نتائـج عمـلية فـي المـسائـل المطروحــة للبحث.

      مجلس الدولة

      أكد جلالته على ان مجلس الدولة (( لبنة أخرى قوية راسخة في بنيان المجتمع العماني تعزز ما تحقق من منجزات وتؤكد ما رسمناه من مبادىء ومن بينها ارساء اسس صالحة لترسيخ دعائم شورى صحيحة نابعة من التراث الوطني وقيمة وشريعته الاسلامية، معتزا بتاريخه، آخذة بالمفيد من أساليب العصر وأدواته ))

      ويتكون المجلس من خبرات عمانية رفيعة مختارة في مختلف المجالات ومن ثم يمثل المجلس رافدا حيويا للمشاركة الوطنية والاسهام في دراسة مختلف القضايا بموضوعية وإعداد دراسات تسهم في تنفيذ خطط التنمية الوطنية وتساعد في ايجاد حلول مناسبة للقضايا المطروحة .

      عضوية مجلس الدولة

      يتم تعيين رئيس واعضاء مجلس الدولة بمرسوم سلطاني ويختارون من بين الشخصيات العمانية ذوي الخبرة والكفاءة في المجالات المختلفة وذلك من بين الفئات التالية:

      الوزراء ووكلاء الوزارات السابقين ومن في حكمهم، السفراء السابقين، كبار القضاة السابقين، كبار الضباط المتقاعدين، المشهود لهم بالكفاءة والخبرة في مجالات العلم والأدب والثقافة وأساتذة الجامعة والكليات والمعاهد العليا، الاعيان ورجال الأعمال، والشخصيات التي أدت خدمات جليلة للوطن ومن يرى جلالة السلطان المعظم تعيينه عضوا بالمجلس من غير الفئات السابقة.

      ويشترط في عضو مجلس الدولة أن يكون عماني الجنسية بصفة اصيلة وفقا للقانون والا يقل سنه عن أربعين سنة ميلادية وأن يكون من ذوي المكانة والسمعة الحسنة ولديه خبرة عملية مناسبة ولا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الدولة ومجلس الشورى، كما لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس .

      اختصاصات مجلس الدولة ودوراته

      يتمتع مجلس الدولة، وفقا لنظام مجلسي الدولة والشورى، بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والاداري ومقره مسقط ويعقد مجلس الدولة أربع دورات اعتيادية في العام خلال اشهر يناير ومارس ومايو واكتوبر ويجوز لرئيس المجلس أن يدعو الى عقد دورة استثنائية اذا اقتضت الضرورة ذلك.

      وفي ممارسة مجلس الدولة لدوره، يتمتع المجلس بصلاحيات عديدة وفقا لما تضمنه المرسوم السلطاني رقم86/1997م في شأن مجلس عمان الصادر في 16 ديسمبر 1997م ومن أبرز هذه الصلاحيات اعداد الدراسات التي تسهم في تنفيذ خطط وبرامج التنمية، والتي تساعد في ايجاد الحلول المناسبة للمعوقات الاقتصادية والاجتماعية، وتقديم المقترحات المتعلقة بتشجيع الاستثمار وبالاصلاح الاداري وتحسين الأداء، يضاف إلى ذلك مراجعة مشروعات القوانين التي تعدها الوزارات والجهات الحكومية ومشروعات التعديلات المقترحة وذلك قبل اتخاذ اجراءات اصدارها وبعد احالتها اليه من مجلس الشورى ويقدم المجلس توصياته في هذا الشأن الى مجلس الوزراء. كما يدرس المجلس ما يحيله اليه جلالة السلطان المعظم أو مجلس الوزراء من الموضوعات وابداء الرأي فيها.

      ويرفع مجلس الدولة نتائج دراساته ومقترحاته وتوصياته الى جلالة السلطان المعظم أو إلى مجلس الوزراء حسب مقتضيات الأحوال كما يرفع رئيس مجلس الدولة إلى جلالة السلطان المعظم تقريرا سنويا بنتائج أعمال المجلس.

      ويقوم مكتب مجلس الدولة بوضع خطة لنشاط المجلس ولجانه ودورات انعقاده وتحديد جدول أعمال ومواعيد بدء الدورات الاعتيادية للمجلس، الى جانب مباشرة أعمال المجلس بين دورات الانعقاد في اطار الاختصاصات المحددة له والى جانب تشكيل اللجان الدائمة بالمجلس وهي اللجنة القانونية واللجنة الاقتصادية واللجنة الاجتماعية تم خلال الفترة الأولى لمجلس الدولة (1998-2000)استكمال البناء الاداري والوظيفي والهياكل التنظيمية للأمانة العامة للمجلس.

      وخلال دورات انعقاد المجلس هذا العام تم دراسة عدد من الموضوعات ذات الأهمية الحيوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من أبرزها دراسة موضوع السياسة الوطنية للسكان التي أحيلت الى المجلس من قبل مجلس الوزراء، وكذلك دراسة مشروع قانون المعاملات المدنية المحال من مجلس الشورى. وقد تم رفعه الى مجلس الوزراء لإقراره، بالاضافة إلى دراسة موضوع مسيرة التعمين في القطاع الخاص العماني ودراسة أخرى حول انشاء الجامعات الخاصة بالسلطنة وكذلك دراسة عن مستقبل السياحة في عمان فضلا عن دراسة حول تقييم اللامركزية في الادارة.

      تجدر الاشارة إلى أن مجلس الدولة يحرص على مد جسور التواصل ودعم العلاقات الثنائية والتعاون البرلماني مع المجالس النيابية والهيئات البرلمانية ذات المجلسين على المستويين الاقليمي والدولي تأكيدا للصورة المشرقة والناضجة لنهج الشورى العمانية المتزن المرتبط بتراثه الوطني وقيمه وشريعته الاسلامية مع الاخذ بالمفيد من أساليب العصر وأدواته .

      مجلس الشــــــورى

      يمثل فيه نهج الشورى العمانية وجها حضارياً بارزاً لمسيرة النهضة العمانية الحديثة ، حيث لم تتوفر اية صيغة نظامية للمشاركة قبل عام 1970 فإن مجلس الشورى العماني هو المجلس النيابي المنتخب الذي يتم انتخاب اعضائه بشكل مباشر من جانب المواطنين في الولايات وفق قواعد واسس محددة ومعلنة، وتمارس المرأة العمانية دورها السياسي في الترشيح والانتخاب لعضوية المجلس كحق أساسي وتشرف الحكومة على تيسير وتسهيل عملية الترشيح والانتخاب وضمان شفافيتها بشكل كامل.

      وتجدر الاشارة إلى أن عملية الترشيح والانتخاب والتي تتم في اطار الحفاظ على التقاليد العمانية في الترابط والتماسك بين افراد المجتمع قد حققت خطوة هامة اضافية بصدور المرسوم السلطاني رقم 35/2000 في 7/5/2000م الخاص بتبديل بعض أحكام نظام مجلسي الدولة والشورى ، كما انها سجلت هذا العام زيادة عدد المشاركين في عملية انتخاب اعضاء مجلس الشورى الى 175 الف نسمة بنسبة 25%من عدد العمانيين البالغين من 21 عاماً فاكثر بعد ان كان العدد 51 ألفا في انتخابات الفترة الثالثة(1998/2000كما ارتفعت نسبة النساء في عدد المشاركين في الانتخابات الى 30%.

      عضوية مجلس الشورى

      يتكون مجلس الشورى من ممثلين لولايات السلطنة يجري انتخابهم حيث تقوم كل ولاية بانتخاب اثنين من مرشحيها اذا كان عدد سكانها ثلاثين الف نسمة فأكثر. كما تقوم كل ولاية بانتخاب واحد من مرشحيها اذا كان عدد سكانها اقل من ثلاثين الف نسمةوذلك وفق خطوات ومراحل حددتها اللائحة التنظيمية لانتخابات مجلس الشورى. ويعلن وزير الداخلية نتائج الانتخابات ويكون من حصلوا على اكبر عدد من الاصوات ممثلين لولاياتهم في المجلس كما يصدر تصنيف الولايات وفقا لعدد سكانها بيان من وزير الداخلية بالتنسيق مع الجهات المعنية وفقا لما جاء في المرسوم السلطاني رقم25/2000 وقد بلغ عدد أعضاء مجلس الشورى82 عضوا في فترته الثالثة (1998/2000) .

      يشترط في عضو مجلس الشورى ( للترشيح والانتخاب ) ان يكون عماني الجنسية بصفة أصلية طبقا للقانون وألا تقل سنه عن ثلاثين سنة ميلادية وان يكون من ذوي المكانة والسمعة الحسنة في الولاية وألا يكون قد حكم عليه بعقوبة جناية أو في جريمة مخلة بالشرف أو الامانة مالم يكن قد رد اليه اعتباره وأن يكون على مستوى مقبول من الثقافة وأن تكون لديه خبرة عملية مناسبة. ولا يجوز الجمع بين عضوية المجلس وعضوية مجلس الدولة أو الوظائف العامة. ويصدر بتعيين رئيس المجلس مرسوم سلطاني.

      ولمجلس الشورى مكتب يتكون من رئيس المجلس ونائبيه وستة من أعضاء المجلس. ويقوم المكتب بوظائف عدة من أبرزها تحديد مواعيد بدء دورات المجلس وجدول أعمالها والنظر فيما يصل المجلس من رسائل من المواطنين والمسؤولين وغير ذلك من المهام الى جانب مباشرة أعمال المجلس بين دورات الانعقاد.

      اختصاصات مجلس الشورى ودوراته .

      يتمتع مجلس الشورى بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال المالي والاداري، ومقره مسقط. ويعقد المجلس أربع دورات اعتيادية سنويا خلال اشهر يناير ومارس ومايو واكتوبر من كل عام. ويجوز لرئيس المجلس ان يدعو الى عقد دورة استثنائية اذا اقتضت الضرورة ذلك.

      ووفقا للمادتين 28و 29 من نظام مجلسي الدولة والشورى الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 86/97 يتمتع المجلس بصلاحيات عديدة وعلى جانب كبير من الأهمية تنمويا واجتماعيا حيث يقوم مجلس الشورى (( بمساعدة الحكومة في كل ما يهم المجتمع العماني ويقدم لها ما يراه كفيلا بدعم مقوماته الاساسية وقيمه الأصيلة )) .

      وفي هذ الاطار يقوم المجلس بمراجعة مشروعات القوانين التي تعدها الوزارات والجهات الحكومية قبل اتخاذ اجراءات اصدارها ويحيل المجلس مشروعات القوانين التي يتولى مراجعتها مشفوعة بتوصياته الى مجلس الدولة وللمجلس كذلك تقديم ما يراه مناسبا في مجال تطوير القوانين الاقتصادية والاجتماعية النافذة في السلطنة. ويحيل المجلس مشروعات التعديلات التي يقترح اجراؤها على هذه القوانين الى مجلس الدولة بالاضافة الى ابداء الرأي فيما تعرضه الحكومة عليه من موضوعات وتقديم المقترحات المناسبة لها، ويرفع مجلس الشورى توصياته إلى جلالة السلطان المعظم.

      وبينما يتلقى المجلس ــ في اطار اختصاصاته ـــ تقارير سنوية من وزراء الخدمات حول منجزات وخطط وزاراتهم، فإنه يجوز للمجلس دعوة أي منهم لتقديم بيان حول بعض الامور المتعلقة باختصاصات وزارته لمناقشتها وتبادل الرأي فيها ويتم نقل المناقشات العامة مع وزراء الخدمات عبر وسائل الاعلام المختلفة ومن ثم يتحقق التواصل والتفاعل بين مناقشات المجلس واهتمامات المواطنين.

      جدير بالذكر أن مجلس الشورى درس العديد من مشروعات القوانين الاقتصادية والاجتماعية والتي صدرت بالفعل ومنها على سبيل المثال قوانين المحاماه والوكالات التجارية ، والضمان الاجتماعي ، وحماية المال العام ، السلطه القضائية وغيرها بالاضافة الى تعديل العديد من القوانين. كما درس مجلس الشورى العديد من الموضوعات ذات الارتباط بالمواطنين وجوانب التنمية في مختلف مجالاتها ورفع بشأنها ما اتخذه من توصيات الى جلالة السلطان المعظم ومنها على سبيل المثال تلك الخاصة بالزكاة وتطبيقها، وسوق مسقط للأوراق المالية، وانشاء المجالس المحلية ، وقانون المطبوعات و النشر، وغيرها. كما نظم المجلس في مايو 2000م ندوة وطنية بتوجيه جلالة السلطان المعظم حول تبسيط الاجراءات الادارية في الدولة.
    • الادريسي

      هو أبو الحسن محمد بن إدريس الحموي، الحسني، الطالبي، اشتهر بالجغرافيا والنبات والفلك والطب والفلسفة والأدب، ولد في سبتة سنة 493 هجرية وتوفي فيها سنة 560 هجرية.



      --------------------------------------------------------------------------------

      سيرته:

      هو أبو الحسن محمد بن إدريس الحموي، الحسني، الطالبي، المعروف بالشريف الإدريسي، من نسل الأدارسة الحمويين. وهو من أكابر علماء الجغرافيا والرحالة العرب، وله مشاركة في التاريخ، والأدب، والشعر، وعلم النبات. ولد في سبته سنة 493 هـ، وتوفي فيها، على الأرجح، سنة 560. نشأ وتثقف في قرطبة، ومن هنا نعته بالقرطبي، فأتقن فيها دراسة الهيئة، والفلسفة، والطب، والنجوم، والجغرافيا، والشعر.

      طاف بلداناً كثيرة في الأندلس، والمغرب، والبرتغال، ومصر. وقد يكون عرف سواحل أوروبا الغربية من فرنسا وإنكلترا، كما عرف القسطنطينية وسواحل آسيا الصغرى. وانتهى إلى صقلية، فاستقر في بلاط صاحبها، روجه الثاني النورماني، المعروف عند العرب باسم رجار، في بالرم، ومن هنا تلقينه بالصقلي. فاستعان به رجار، وكان من العلماء المعدودين في صنع دائرة الأرض من الفضة ووضع تفسير لها. ويبدو أن الإدريسي ترك صقلية في أواخر أيامه، وعاد إلى بلدته سبته حيث توفي.

      ألف الإدريسي كتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والمسمى أيضاً (كتاب رجار) أو (الكتاب الرجاري) وذلك لأن الملك رجار ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه كما طلب منه صنع كرة من الفضة منقوش عليها صورة الأقاليم السبعة، ويقال أن الدائرة الفضية تحطمت في ثورة كانت في صقلية، بعد الفراغ منها بمدة قصيرة، وأما الكتاب فقد غدا من أشهر الآثار الجغرافية العربية، أفاد منه الأوروبيون معلومات جمة عن بلاد المشرق، كما أفاد منه الشرقيون، فأخذ عنه الفريقان ونقلوا خرائطه، وترجموا بعض أقسامه إلى مختلف لغاتهم.

      في السنة التي وضع فيها الإدريسي كتابه المعروف، توفي الملك رجار فخلفه غليام أو غليوم الأول، وظل الإدريسي على مركزه في البلاط، فألف للملك كتاباً آخر في الجغرافيا سمّاه (روض الأنس ونزهة النفس) أو (كتاب الممالك والمسالك)، لم يعرف منه إلا مختصر مخطوط موجود في مكتبة حكيم أوغلو علي باشا باسطنبول. وذكر للإدريسي كذلك كتاب في المفردات سماه (الجامع لصفات أشتات النبات)، كما ذكر له كتاب آخر بعنوان (انس المهج وروض الفرج).