"مقتطفات من كتاب سأخون وطني (هذيان في الرعب والحرية) - محمد الماغوط"

    • "مقتطفات من كتاب سأخون وطني (هذيان في الرعب والحرية) - محمد الماغوط"

      العرّاف

      ما هذا ؟!!!


      أمة بكاملها تحل الكلمات المتقاطعة وتتابع المباريات الرياضية، أو تمثيلية السهرة ، والبنادق الاسرائيلية مصوبة إلى جبينها وارضها وكرامتها وبترولها.


      كيف اوقظها من سباتها، وأقنعها بأن أحلام اسرائيل اطول من حدودها بكثير، وان ظهورها أمام الرأي العام العالمي بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم لا يعني أن جنوب لبنان هو نهاية المطاف؟
      فهي لو أعطيت اليوم جنوب لبنان طوعا واختيارا لطالبت غدا بشمال لبنان لحماية أمنها في جنوب لبنان.

      ولو اعطيت كل لبنان لطالبت بتركيا لحماية أمنها في لبنان.

      ولو اعطيت تركيا لطالبت ببلغاريا لحماية أمنها في تركيا.

      ولو أعطيت اوروبا الشرقية لطالبت بأوروبا الغربية لحماية أمنها في أوروبا الشرقية.
      ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوبي لحماية أمنها في القطب الشمالي.

      وملآت حقائبي بالخرائط والمستندات والرسوم التوضيحية ويممت شطر الوطن العربي أجوب ارجاءه مدينة مدينة وبيتا بيتا.

    • وحدثتهم كمؤرخ عن نوايا اسرائيل العدوانية وأطماعها التاريخية في أرضنا وأنهارنا ومياه شربنا. وعرضت عليهم كطوبوغرافي الوثائق والمستندات السرية والعلنية وباللغات العربية والانكليزية والتركية ... ولكن، لا أحد يبالي.

      ثم تحدثت إليهم كفنان. وعرضت أمامهم أشهر اللوحات التشكيلية والرسوم الكاريكاتورية التي تصور اسرائيل كمخلب قط للاستعمار، كرأس جسر للإمبريالية، كأفعى تلتف، كعقرب يلسع، كحوت، كتنين، كدراكولا، كريا وسكينة ... تقتل وتفتك وتتآمر ... ولا أحد يبالي.


      ثم تحدثت إليهم كخبير طاقة. وحذرتهم من أن منابع النفط هي الهدف التالي لاسرائيل. وأننا، كعرب، قد نعود إلى عصر الحطب في المضارب، ونفخ النار بالشفتين وطرف الجلباب ... ولا أحد يبالي.

      ثم تحدثت إليهم كطبيب، عن تسميم الطلاب والطالبات في الضفة الغربية، والجثث المفخخة في مجازر صبرا وشاتيلا. وعن التنكيل المستمر بأهلنا في الأراضي المحتلة، ومصادرة البيوت، وطرد السكان، وتحديد الاقامة، ومنع السفر، ومنع العودة، واغلاق المدارس، وتغيير المجالس البلدية، وقمع المظاهرات، واطلاق غاز الاعصاب، والقنابل المسيلة للدموع، والمسيلة للتخلف ... ولا أحد يبالي.

      ثم تحدثت إليهم كأب. ونبهتهم إلى أن كل مدرسة في الوطن العربي قد تصبح مدرسة بحر البقر، وكل كاتب أو شاعر قد يصبح كمال ناصر أو غسان كنفاني. وكل رئيس بلدية أو دائرة حكومية قد يعود إلى بيته على عكازين كبسام الشكعة وكريم خلف ... ولا أحد يبالي
    • ثم تحدثت إلى الفلاحين كفلاح. وإلى العمال كعامل. وإلى التجار كتاجر. وإلى اليمينيين كيميني. وإلى اليساريين كيساري. وإلى المزايدين كمزايد. وإلى المعتدلين كمعتدل. وإلى العجائز كعجوز. وإلى الأطفال كطفل ... وقلت لهم أن اتفاق شولتز مثله مثل اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق سيناء وكل الاتفاقات التي تمت من وراء ظهوركم. فهو مصوغ بدقة متناهية كابتسامة الجوكندا بحث لا أحد يعرف إذا كان يبتسم لنا أم يسخر منا. ولذلك فان دولا عربية متخاصمة لم يكن يتصور أحد أنها يمكن أن تتصالح ... قد تصالحت بسببه. وأن دولا اخرى صديقة لم يكن يتصور أحد أنها قد تختلف، قد اختلفت بسببه ... ولكن للتحركات السياسية حدودا. وللجهود الدولية معايير لا يمكن الاخلال بها. وأن مؤتمر الشعب العربي الدائم وقضيته المركزية فلسطين لا يستطيع أن يستمر في عقد جلساته الطارئة إلى ما لا نهاية ما لم يلق استجابة من هنا أو دعما من هناك

      وان المقاومة الوطنية في لبنان مهما كانت باسلة، لا تستطيع وحدها القضاء عليه ما لم تعمم هذه التجربة في كل بلد عربي.


      وقصصت عليهم أحسن القصص عن البطولة والفداء. والروعة في أن يكون الإنسان ثائراً من أجل وطنه ينصب الكمائن ويطارد الأعداء في شعاب الجبال. وفي فترات الاستراحة يضم بندقيته إلى صدره ويقرأ على ضوء القمر الرسائل الواردة إليه من الوطن، إذ في كل صفحة خصلة شعر من خطيبة، أو ورقة يابسة من حبيب.

      وقرأت عليهم بنبرة مؤثرة وغاضبة أجمل قصائد المقاومة والنضال، لناظم حكمت ولوركا وهوشي منه ومحمود درويش وسميح القاسم... ولا أحد يبالي.

      الكل ينظر إليّ تلك النظرة الحزينة المنكسرة كغصن وينصرف متنهداً إلى عمله.

      ماذا أفعل أكثر من ذلك لأثير نخوتهم وغضبهم ومخاوفهم؟

      هل أضع على وجهي قناعاً يمثل سنّي بيغن الأماميتين المشؤومتين؟ أم أضع عصابة سوداء على عينّي مثل موشي دايان، وأقفز حول أسرّة الأطفال في ظلام الليل؟
      هل أعرض في الساحات العامة صورا شعاعية لما يعتمر في صدر شارون وبيريز وارينز وايتان وغيرهم من ضغينة وحقد على هذه الأمة وما يبيتون لها ولشعوبها من قهر وذل وجوع ودمار؟

      هل فقدت الشعوب العربية احساسها بالأرض والحرية والكرامة والانتماء إلى هذه الدرجة؟
      أم أن الارهاب العربي قد قهرها وجوّعها وروّعها وشرّدها سلفا أكثر بكثير مما فعلته وما قد تفعله اسرائيل في المستقبل؟

    • انتقاء رائع وجميل أختي نهج البرده ...بارك الله فيك...

      الشعوب العربية بالفعل فقدت النخوة بشكل كبير ولم يتبقى سوى بقايا نخوة ضائعة و حائرة ..

      شعوب تشعر بالضعف ... بالهوان في بﻻدها فكيف لها أن تستشعر ما يحدث بعيدا عنها ...؟؟!!!

      لم يعد هناك اﻷساس القوي الذي جمعها في السابق وهو الدين ورفع كلمة الله في اﻷرض..

      أصبحت الدنيا هي همهم... ولم يجدوا قائدا حرا كصﻻح الدين يوحد صفوفهم..
      سبحان الله وبحمد
    • السلام عليم ورحمة الله وبركاته
      أسعد الله أوقاتكم بالخير

      فعلاً ما ذُكر أعلاه من تساؤلات وتعجب في محلها
      إلى متى الجمود والخمول
      إلى متى وفيروس إسرائيل ينتشر

      نقل موفق أُختي الفاضلة
      تقديري
    • بنت قابوس كتب:

      انتقاء رائع وجميل أختي نهج البرده ...بارك الله فيك...

      الشعوب العربية بالفعل فقدت النخوة بشكل كبير ولم يتبقى سوى بقايا نخوة ضائعة و حائرة ..

      شعوب تشعر بالضعف ... بالهوان في بﻻدها فكيف لها أن تستشعر ما يحدث بعيدا عنها ...؟؟!!!

      لم يعد هناك اﻷساس القوي الذي جمعها في السابق وهو الدين ورفع كلمة الله في اﻷرض..

      أصبحت الدنيا هي همهم... ولم يجدوا قائدا حرا كصﻻح الدين يوحد صفوفهم..


      جزيل الشكر لمرورك العاطر أخيه
      بارك الله فيك وجزاك خيرا

      امتناني
    • إنسان في هذآ الزمان كتب:

      السلام عليم ورحمة الله وبركاته
      أسعد الله أوقاتكم بالخير

      فعلاً ما ذُكر أعلاه من تساؤلات وتعجب في محلها
      إلى متى الجمود والخمول
      إلى متى وفيروس إسرائيل ينتشر

      نقل موفق أُختي الفاضلة
      تقديري



      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      وأسعد الله أوقاتك بطيب ذكره

      ممتنة لك

    • طوق الحمامة

      هل يمكن يا حبيبتي أن يقتلني هؤلاء العرب إذا عرفوا في يوم من الأيام انني لا أحب إلا الشعر والموسيقى، ولا أتأمل إلا القمر والغيوم الهاربة في كل اتجاه.

      أو أنني كلما استمعت إلى السيمفونية التاسعة لبتهوفن أخرج حافياً إلى الطرقات وأعانق المارة ودموع الفرح تفيض من عيني.

      أو أنني كلما قرأت "المركب السكران" لرامبو، اندفع لألقي بكل ما على مائدتي من طعام، وما في خزانتي من ثياب، وما في جيوبي من نقود وأوراق ثبوتية من النافذة.


      نعم فكل شيء ممكن ومحتمل ومتوقع من المحيط إلى الخليج، بل منذ رأيتهم يغدقون الرصاص بلا حساب بين عيني غزال متوسط أدركت أنهم لا يتورعون عن أي شيء.


      ولكن من أين لهم أن يعرفوا عني مثل هذه الأهواء، وأنا منذ الخمسينات لا أحب الشعر أو الموسيقى أو السحب أو القمر أو الوطن أو الحرية إلا متلصصاً آخر الليل، وبعد أن اغلق الأبواب والنوافذ واتأكد من أن كل المسؤولين العرب من المحيط على الخليج قد أووا إلى أسرتهم وأخلدوا للنوم.
    • ولكن إذا صدف وعرفوا ذلك بطريقة أو بأخرى فأكدي لهم يا حبيبتي بأن كل ما سمعوه عني بهذا الخصوص هو محض افتراء واشاعات مغرضة، وانني لا أسمع إلا نشرات الأخبار، ولا اقرأ الا البلاغات الرسمية

      ولا أركض في الشوارع إلا للحاق بمركب التطور.


      وإنني اقتنع دائماً بما لا يقنع وأصدق ما لا يصدق، ولا أعتبر نفسي أكثر من قدمين على رصيف أو رصيف تحت قدمين.

      وإذا ما سألوك: أين أذهب أحياناً عند المساء فقولي لهم: انني اعطي دروساً خصوصية في الوطن العربي في توعية اليائسين والمضللين.

      وإذا ما بدوت يائساً في بعض الأحيان، فأكدي لهم أنه يأس إيجابي، وإذا ما أقدمت على الإنتحار قريباً فلكي ترتفع روحي المعنوية إلى السماء.


      وإنني لا أعتبر أن هناك خطراً على الإنسان العربي والوطن العربي سوى اسرائيل، وتلك الحفنة من المثقفين و المنظرين العرب الذين ما فتئوا منذ سنين يحاولون اقناعنا في المقاهي والبارات والندوات والمؤتمرات بأن معركتنا مع العدو هي معركة حضارية وكأنهم ينتظرون من قادته وجنرالاته أن يجلسوا صفاً واحداً على كراسيهم الهزازة على الحدود مقابل صف من الكتاب والشعراء والفنانين العرب ليبارزوهم قصيدة بقصيدة ومسرحية بمسرحية ولوحة بلوحة وسمفونية بسمفونية وأغنية بأغنية ومسلسلاً بمسلسل.

    • لا يا حبيبتي، اركبي أول طائرة واجتمعي بكل من يعنيهم هذا الأمر في الوطن العربي، وحذريهم من الوقوع في مثل هذا الشرك، أو مثل هذه الدوامة، فصراعنا مع العدو واضح كل الوضوح في مقولة عبد الناصر الشهيرة: " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" . والصراع المحتدم الآن بين أكبر دولتين في العالم وأكثرهما غنى بالشعراء والكتاب والفنانين، ألا وهما روسيا وأمريكا حول سباق التسلح إلا الدليل القاطع على صحة هذه المقولة


      ولذلك فأنا ككل عربي، مستضعف ومستهدف من جميع الجهات، أتابع هذا السباق باهتمام بالغ، وأتابع بنفس الاهتمام كل ما يطرأ على عالم الأسلحة من تطور في الشكل والمضمون والفعالية. وان كان ما يزال للدبابة بالنسبة لي ولجيل الخمسينات برمته مكانة خاصة في نفوسنا ولا نستطيع بمجرد أن ظهرت أسلحة جديدة أكثر رشاقة وفعالية منها أن ننساها بكل هذه البساطة، فبيننا وبينها عشرة عمر

      وإذا كانت الدول الأقل غنى منا قد وفرت لكل مواطن دبابة واحدة على الأقل. فحريّ بنا نحن العرب، وقد وهبنا الله تلك الثروات والموارد التي لا تنضب، أن يصبح لكل مواطن عربي في المستقبل لا دبابة واحدة بل خمس دبابات على الأقل:
      واحدة إلى يمينه.
      وواحدة إلى يساره.

      وواحدة أمامه.

      وواحدة وراءه.

      وواحدة فوقه.

      وبذلك يرتاح ويريح.
    • المبتدأ والخبر

      بعد أن أتى الجراد السياسي في الوطن العربي على الحاضر والمستقبل، يبدو أنه الآن قد التفت إلى الماضي، وذلك حتى لا يجد الإنسان العربي ما يسند ظهره إليه في مواجهة الأخطار المحيطة به سوى مسند الكرسي الذي يجلس عليه، بدليل هذا الحنو المفاجئ على لغتنا العربية، وهذه المناحة اليومية في معظم صحف واذاعات المنطقة، على ما أصاب قواعدها من تخريب وما يتعرض له صرفها ونحوها من عبث واستهتار، حتى لم يعد احجنا يعرف كيف يقرأ رسالة أو يدوّن رقم هاتف.

      ومع احترامنا لكل حرف في لغتنا، ومع تقديرنا لجميع ظروف الزمان والمكان في كل جملة ومرحلة في الوطن العربي لا بد أن نسأل:
      ما الفائدة من الاسم إذا كان صحيحا... والوطن نفسه معتلاً؟
      أو اذا كانت هذه الجملة أو تلك مبنية على الضم أو الفتح ... والمستوطنات الاسرائيلية مبنية أمام أعيننا على جثث التلاميذ والمدرسين الفلسطينيين.
      ثم، لم وجدت اللغة أصلاً في تاريخ أي أمة؟ أليس من أجل الحوار والتفاهم بين أفرادها وجماعاتها؟
      فأين مثل هذا الحوار الآن فيما بيننا؟
      هل هناك حوار مثلا بين التاجر والزبون؟
      بين العامل ورب العمل؟
      بين المالك والمستأجر؟
      بين الراكب والسائق؟
      بين المحقق والمتهم؟
      بين الابن والأب؟
      أو بين الزوج والزوجة؟
      أيضاً لم تعد هناك حاجة لأن تسأل عن أي شيء، أو تجيب على أي شيء. فالأسعار، مثلا في السينما، مكتوبة في كل بطاقة، وفي المستشفى، فوق كل سرير. وفي المطعم، في كل فاتورة، وكل ما حول المواطن العربي أصبح سعره واضحاً ومعروفاً ومكتوباً على جميع جوانبه، من الألبسة والأحذية والفاكهة والخضروات والبيوت والبارات والمزارع والعقارات إلى الرياضيين والمطربين والكتاب والصحفيين. ولم يبق إلا أن يكتب على الشعوب سعرها ومنشؤها ومدى صلاحيتها للاستعمال.
      والأهم من كل هذا وذاك: هل هناك حوار بين السلطة والشعب في أي زمان ومكان في هذا الشرق؟
      فأي مسؤول انكليزي، مثلاُ، عندما يختلف في الرأي مع أي كان في محاضرة أو مناقشة في بلده يأتي بحجة من شكسبير لاقناع مستمعيه.
      والايطالي يأتي بحجة من دانتي.
      والفرنسي يأتي بحجة من فولتير.
      والألماني يأتي بحجة من نيتشة.
      أما أي مسؤول عربي فلو اختلف معه حول عنوان قصيدة لأتاك بدبابة فتفضل وناقشها.
      ولذا صار فم الإنسان العربي مجرد قنّ لايواء اللسان والأسنان لا أكثر. وفي مثل هذه الأحوال:
      ماذا يفعل حرف الجر المسكين أمام حاملة طائرات مثلاً؟
      أو الفتحة والضمة أمام مدفع مرتد يتسع لمجمع لغوي؟
      وما دام الحوار الوحيد المسموح به في معظم أرجاء الوطن العربي هو حوار العين والمخرز فلن ترتفع إلا الأسعار.
      ولن تنصب إلا المشانق.
      ولن تضم إلا الأراضي المحتلة.
      ولن تجر إلا الشعوب.
      لذلك كلما قرأت أو سمعت هذا أو ذاك من الشعراء والصحافيين أو المذيعين العرب "يجعجع" عن الديموقراطية والعدالة والحرية، وينتصر على الصهيونية ويقضي على التخلف، ويتوعد هذا ويهدد ذاك، وهو جالس في مقهاه، أو وراء مذياعه، لا أتمنى سوى تأميم اللغة العربية من المحيط إلى الخليج وتكويمها في بيدر أو ساحة عامة في قلب الوطن العربي، وتكليف موظف مختص وراء أذنه قلم وأمامه سجل بجميع الكتاب والشعراء والأدباء العرب وينادي عليهم بأسمائهم ويسألهم فرداً فرداً:
      - أنت أيها الشاعر التقليدي كم كلمة من أمثال: رماح، رمال، جراح، بطاح، تريد؟ تفضل مع السلامة.
      - وأنت أيها الشاعر الحديث، كم كلمة من أمثال: تجاوز، تخطي ابداع، تأنس، تريد؟ تفضل مع السلامة.
      - وانت أيها المذيع العصبي، كم كلمة من أمثال: " في الواقع "، " في الحقيقة "، و"جدلية" ، و"شمولية"، و" نظرة موضوعية " و" قفزة نوعية " ، تريد؟ تفضل مع ألف سلامة.
      - وأنت أيها المناضل والمتطرف والمتفرغ لكل محاضرة وندوة ومناسبة، كم كلمة من أمثال: دم، دماء، استعمار، امبريالية، شعوب، "وحدة الشعوب "، " وحدة المصير "، كوبا، نيكاراغوا، وكم مناقصة فوقها تريد؟ تفضل ومع ألف سلامة.
      فقبل احترام اللغة يجب احترام الانسان الذي ينطق بها.
    • الأجنحة


      الأغنياء والفقراء، القضاة والمتهمون، الحراس واللصوص والمخمورون، كلهم يقولون لي: ماذا تفعل في هذا الوطن بعد أن ابيضّ شعرك تحت سمائه وانحنى ظهرك فوق أرصفته، ماذا تنتظر منه بعد أن تحدد فيه مستقبلك ومستقبل غيرك في السياسة، كما تحدد مستقبل محمد أمين في الفن؟ سافر إلى بلاد الله الواسعة، فقد لا تجد وقتاً في المستقبل لشراء حقيبة. وقد لا تجد يداً أو اصبعاً في يدك لحمل تلك الحقيبة. وكلما عدت إلى بيتي في آخر الليل أجد على عتبته جواز السفر وتأشيرة الخروج ودفتر الصحة وبطاقة الطائرة وحبوب الدوخة.

      وأحزم حقائبي وأسافر. في الذهاب أتمنى أن يكون مقعدي في غرفة القيادة على ركبة الطيار أو المضيفة لأبتعد بأقصى سرعة عن هذا الوطن. وفي الإياب أتمنى أن يكون مقعدي في مقدمة الطائرة على غطاء المحرك لأعود بأقصى سرعة إلى هذا الوطن.

      آخر مرة كانت إلى تونس. أربعة آلاف كيلومتر فوق البحار والقارات وأنا احدق من نافذة الطائرة كما يحدق اليتيم في واجهات الحوانيت في الأعياد، كانت الغيوم هاربة من العرب، الأمواج هاربة من العرب، الأسماك هاربة من العرب، التلوث هاربا من العرب، العروبة هاربة من العرب. وبعد أسبوع كنت أهرول عائدا اليهم وحزام الأمان ما زال حول خصري.

      وسألتني زوجتي بدهشة: ما الذي عاد بك بهذه السرعة؟ ألم تعجبك تونس؟
      قلت: انها الجنة بعينيها، شمس وبحر وغابات.
      قالت: وماذا تريد أكثر من ذلك؟
      قلت: بصراحة، بلد لا يوجد فيه مشاكل لا أستطيع العيش فيه.
      قلت: مستغربة: مشاكل!
      قلت: نعم. بلد بدون أزمة سكن، أزمة مواصلات، أزمة غاز، وبدون شائعات ... لا فلان طار ولا فلان راح، لا أستطيع أن أقيم فيه أكثر من اسبوع. كما أنني بدون دخان مهرب ودعوسة رجلين في الباصات، ومسؤولين يخالفون شارات المرور، وشاحنات صاعدة هابطة وقت القيلولة تصب جهود الجماهير في أساس بناية أو شاليه لهؤلاء المسؤولين، وكل نشرة والثانية يا جماهير شعبنا، وفي هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا، لا أشعربأنني في بلدي وبين أهلي وأحبابي كما يقولون في كلماتهم الترحيبية. كل شيء عندهم في تونس هادىء كمراكز الامتحانات، وكل شيء واضح ومحدد حسب النظام والقانون، ولذلك فقدت أعصابي وصرت كالخليجي الذي اعتاد النوم طوال حياته على صوت المكيف. فما أن يتوقف عن العمل حتى يستيقظ ولا يعرف كيف ينام حتى يعود إلى العمل والهدير من جديد.

      ثم انني أحب هذا الوطن من محيطه إلى خليجه. فأينما كنت، ما ان اقرأ اسمه في جريدة، أو اسمعه في اذاعة حتى اتجمد كنهر سيبيري، كعريف في حضرة جنرال، انني احبه، قدروا ظروفي وعواطفي.
      فيه قرأت أول قصة لياسين رفاعية، وسمعت أول أغنية لفهد بلان، وقرأت أول افتتاحية ترد على كل المخططات الاجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق وتنتهي ببيتين للأصمعي. فيه سمعت لأول مرة اسم: قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية، حرف الاستنزاف، الكيلومتر 101، مرسيدس 220 امبريالية، استعمار انسبستر، ديبون، فيزون، بيار كاردان، جنرال الكتريك، جنرال سيلاسفيو؟

      وصرخت زوجتي بحدة: مشكلتك أنك تسخر من كل شيء في هذه المنطقة.
      فقلت لها: بالعكس، مشكلتي أنني احترم كل شيء فيها حتى قمامتها، بدليل، وأنا عائد في آخر الليل سقط عليّ كيس قمامة، فلم أحتج. ولم أنفضها حتى عن رأسي وثيابي، لأنني من طريقة سقوطها عليّ عرفت أنها زبالة مدعومة.
      قالت: حالتك خطيرة جدا. عليك بمراجعة طبيب.
      قلت: ان الدكتور كيسنجر لن يحل مشكلتي، وتصوري أيضاً ... صرت أبكي في أفلام حسن الامام، وأفرقع بأصابعي في حفلات سميرة توفيق.
      قالت: كم يؤلمني أن ارى شاعراً مثلك لا يجد ما يتحدث به في أواخر عمره غير حسن الامام وسميرة توفيق وأكياس القمامة. هل نسيت الشعر؟
      قلت: الشعر! كأنك تذكرينني بطفل فقدته ولا أعرف قبرا له.
      قالت: هل تثق بي؟
      قلت: كثقتي بكرايسكي.
      قالت: أيا كان رأيك فانت في حالة يرثى لها أيها العجوز الصغير. وعلاجك الوحيد هو الشعر. السفر الروحي على أجنحة الحلم والخيال.
      فقلت: ولكن كيف؟ وإلى أين؟

      ولما كانت زوجتي بطبيعتها حالمة وخيالية، فسرعان ما فتحت النافذة وحدقت في الأفق البعيد وقالت: الآن وليس غداً. انزع من رأسك كل السفاسف السياسية والمنغصات اليومية وتعال معي لنطر على أجنحة الحلم والخيال إلى العوالم التي سبقنا اليها رامبو وفيرلين وهايني وشلر ولوركا، لنطر بعيدا في عالم السحر والجمال حيث السماء الزرقاء والأمواج الحالمة والغابات العذراء.
      فقلت لها: حبيبتي، اذا ما استمرت الامور في المنطقة على هذا المنوال. تبادل شتائم ومؤتمرات وخطابات. فلن نطير أنا وأنت وغيرنا في نهاية الأمر الا إلى كامب ديفيد.
    • كاتب رائع ...

      أسلوب جميل...

      رغم كونه يحمل الكثير جدا من التشاؤم ..إلا أنه معه حق في الكثير جدا مما قاله ...

      شكرا لك أختي على نقل الكتاب لنا


      مجهود موفق ....
      سبحان الله وبحمد
    • ساعة المستقبل

      بعد ثلاثين سنة من الثقة
      المتبادلة بين المواطن العربي وأجهزة الاعلام العربية، نعلم أنه عندما تركز
      الاجهزة على قضية ما وترعاها فجأة بكل ما عندها من صحف ومجلات وخطب ومهرجانات
      ومطربين ومطربات، فمعنى ذلك أن نقرأ الفاتحة قريباً على هذه القضية.




      أنا مثلا: دون تردد أو
      مناقشة، ما أن تركز مثل هذه الأجهزة على قضية الحرية فجأة حتى أجهز
      "شحاطتي" وبيجاماتي وأحلق شعري على الصفر سلفا.




      وعندما تركز على موضوع
      الاشتراكية، أسارع على الفور وأتفقد برادي صحنا صحنا وبيضة بيضة، لأن معنى ذلك أن
      الناس ستأكل بعضها عما قريب.




      وعندما تركز على موضوع
      النصر والتحرير واستعادة الاماكن المقدسة، أضب الحقائب واستعد للمبيت قريبا أنا
      وعائلتي تحت أحد الجسور في الفاتيكان، لأن معنى ذلك أن قطعة أخرى من الأرض العربية
      ستطير.




      والآن تركز هذه الأجهزة
      في مشرق الوطن العربي ومغربه فجأة وبعد خراب البصرة على موضوع الوحدة العربية بحجة
      أنها الرد الحاسم على ما تطرحه الامبريالية الأمريكية في المنطقة من مشاريع جديدة
      للتجزئة والتقسيم. ومعنى ذلك أن عدد الدول العربية سيرتفع من 22 إلى 42 دولة. أي
      بعدد الولايات الأمريكية تقريباً.




      ماذا فعل المواطن العربي
      لحكامه خلال الثلاثين سنة حتى يعامل هذه المعاملة؟


      أعطاهم أولاده للحروب.

      وعجائزه للدعاء.

      ونساءه للزغاريد.

      وكساءه لليافطات.

      ولقمته للمآدب
      والمؤتمرات.


      وشرفاته وموطىء قدميه
      للمهرجانات والخطابات.


      وطلب منهم نوعاً واحداً
      من الحرية، وهو النوع المتعارف عليه في أبسط الدول المتحضرة. فأعطوه عشرين نوعا من
      الحرية لا يوجد لها مثيل لا في الدول المتحضرة ولا في الدول المتوحشة.




      وطلب منهم نوعاً واحداً
      من الاشتراكية، وهو النوع المعمول به في معظم الدول الاشتراكية. فأعطوه خمسين نوعا
      من الاشتراكية إلا النوع المعمول به في الدول الاشتراكية.




      أعطاهم سبع دول عام 1949،
      لتوحيدها. فأعطوه بعد ثلاثين سنة 22 دولة لا يستطيع 22 بسمارك أن يوحد أنظمة السير
      فيها.


      ومنذ ثلاثين سنة أيضاً
      أعطاهم قضية ظريفة خفيفة كالفلة، تتمنى معظم الدول والشعوب في ذلك الحين أن يكون
      عندها قضية مثلها. وهي قضية فلسطين. فأعطوه بالاضافة اليها:


      قضية لومومبا.

      وقضية المالكي.

      وقضية فرج الله الحلو.

      وفضية الشوّاف.

      وقضية البرازاني.

      وقضية بن بركة.

      وقضية بن بللا.

      وقضية بن عاشور.

      وقضية عبد الحكيم عامر.

      وقضية برلنتي عبد الحميد.

      وقضية علي صبري.

      وقضية خزنة عبد الناصر.

      وقضية موسى الصدر.

      وقضية جنبلاط.

      وقضية سعد حداد.

      وقضية أحمد الخطيب.

      وقضية الخميني.

      وأخيراً قضية السادات.

      فماذا يتحمل هذا الإنسان
      ليتحمّل؟


      بمعنى أن ينام المواطن
      العربي على هم قديم. هذا لا يجوز. وأمر لاترضاه لا أنظمة الحكم العربية، ولا دول
      عدم الانحياز، ولا منظمة الوحدة الآسيوية الافريقية، ولا منظمة الصحة العالمية.


      المفروض كل يوم جديد، هم
      جديد.




      وأن يعود المواطن إلى
      بيته في المساء وهو لا يحمل لعائلته وأطفاله أكلة جديدة أو ثياباً جديدة، بل قضية
      جديدة.


      وتقول اعلانات الدعاية أن
      ساعة أوريس التي تتحمل الصدمات هي ساعة المستقبل. قسماً بالله ألف ساعة أوريس لا
      تتحمل في ثلاث سنوات الصدمات التي يتحمّلها المواطن العربي في ثلاث دقائق - ولذلك
      كل ما يلزمه هو قشاط جلد من عند الرأس والقدمين ليلفّه الطيارون ورجال الأعمال حول
      معاصمهم، باعتباره هو لا أحد سواه ساعة المستقبل.
    • سيداتي سادتي



      مواطن عربي ينقل إبرة الراديو من محطة إلى محطة ويعلّق على ما يسمعه من أغان وبرامج وأخبار وتعليقات، من الصباح الباكر حتى نهاية الإرسال في الوطن العربي.
      إذاعة رقم 1 : عزيزي المستمع، في نزهتنا الصباحية كل يوم تعال معنا إلى ربوع الوطن الحبيب حيث لا شيء سوى الحب والجمال.
      المستمع: والتخلف.

      إذاعة رقم 3: عزيزي المستمع مع الورود والرياحين والنرجس والنسرين والفل والياسمين.
      المستمع: أي فل وأي ياسمين. والله لو مات أحد أصدقائي في هذا الغلاء الفاحش فلن أستطيع أن أقدم له إلا إكليلاً من الخطابات.

      إذاعة رقم 4: قصيدة اليوم: وللحرية الحمراء باب.
      المستمع: بكل يد قابضة يدق.

      إذاعة رقم 5: واننا نعلن من هنا أن لا شروط لنا أبداً على تحقيق الوحدة العربية.
      المستمع: باستثناء شرط واحد هو أننا لا نريدها.

      إذاعة رقم 6: حكمة اليوم، قل كلمتك وامش.
      المستمع: إلى البنك.

      إذاعة رقم 7: ان المجلس الأعلى لشركات الطيران العربية يحذر في مؤتمره المارقين والعابثين بقضايانا المصيرية ويضع كافة امكاناته وطاقاته في خدمة المعركة.
      المستمع: بما أن الأمور قد وصلت إلى شركات الطيران فمعنى ذلك أن القضية "طايرة قريباً".



      إذاعة رقم 9: من أنبائنا الرياضية خرج الجواد العربي "نور الصباح" من الداربي الانكليزي بعد الشوط الأول بسبب إهمال الجوكي وسقوطه عنه.
      المستمع: طبعاً لأن العرب لا يعرفون أن يخيّلوا إلا على بعضهم.

      إذاعة رقم 10: وان الاتحاد النسائي العام في الوطن العربي يدعو كافة أعضائه المنتسبات ...
      المستمع: .... إلى ترك أطفالهن دون رضاعة، وأزواجهن دون طعام، وبيوتهن دون ترتيب ومطابخهن دون جلي والتفرّغ لحلّ مسؤولياتهن وفضح المؤامرات التي تحاك ضد قضيتنا وأمتنا، وكل فرع لا يتقيد بهذه التعليمات يغلق وتختم جميع مكاتبه "بالشكلس الأحمر" .

      إذاعة رقم 11: وكما قلنا وأكدنا مراراً نعلن أمام العالم أجمع أنه:
      لا صلح
      لا اعتراف
      لا مفاوضات
      المستمع: لا تكذبي. إني رأيتكما معا.

      إذاعة رقم 12: واننا نؤكد أيضاً من هنا ولجميع شعوبنا العربية والإسلامية أننا لن نذهب إلى مؤتمر ولن ننسحب من جلسة ولن نتهاون في قضية ولن نساوم على حق ولن نتردد في مساعدة ولن نتراجع عن موقف ولن نفاوض ولن نصالح ولن نقرر إلا ما تمليه ارادة الشعوب.
      المستمع: والشعوب في السجون.


      إذاعة رقم 14: وبعد أن شرح سعادته لسفراء الدول الغربية الظروف الخطيرة التي تمر بها المنقطة، أعطاهم مهلة شهرين للعودة بأجوبة واضحة من حكوماتهم، وذلك قبل بدء حملة الانتخابات الأمريكية وانشغال العالم بها، لأن العرب مصممين أكثر من أي وقت مضى على صوم رمضان القادم في القدس والصلاة في عكا والوضوء في مياه نهر الأردن.
      ثم استقل سعادته الطائرة في رحلة استجمام إلى أوروبا تستمر...
      المستمع: إلى ما بعد الإنتخابات الأمريكية.

      إذاعة رقم 15: واننا في هذه الظروف المصيرية نحث جميع القادة والمسؤولين العرب على الالتزام بقرارات جميع القمم العربية دون استثناء: قمة الخرطوم وقمة الرباط وقمة بغداد وقمة فاس الأولى والثانية.
      المستمع: عجيب، كل هذه القمم وما زلنا في الحضيض.

      إذاعة رقم 16: والآن سيداتي سادتي، ومع اقترابنا من ركن المنزل تنضم جميع موجاتنا العاملة...
      المستمع: إلى جبهة الصمود والكفاح العربي ... ونقدم لكم طبخة اليوم.

      إذاعة رقم 17: ان طريقنا إلى فلسطين لا بد أن تمر من بيروت.
      المستمع: .... ومن جونيه.

      إذاعة رقم 18: ومن موسكو.
      إذاعة رقم 19: ومن واشنطن.
      المستمع: من كثرة الطرق التي أصبحت تؤدي إلى فلسطين صارت القضية في حاجة إلى ادارة مرور.
      المذيع : إخرس.
      المستمع: لن أخرس.
      المذيعون العرب: ستخرس رغماً عن أنفك . ( وتمتد مئات الأيدي من الراديو وتنهال عليك ضرباً وصفعاً :( كلب، جاسوس، حقير، طابور خامس ... الخ...

      إذاعة رقم 21: نأسف لهذا الخلل الفني، وسنعود إليكم فور إصلاحه.
      إذاعة اسرائيل: لا ... لا ... خذوا راحتكم.
    • رائع هذا الكاتب...

      قضية غﻹعﻻم العربي...

      صعبه ومتداخلة... نكاد ﻻ نصدق ما نسمعه وما نراه...

      إعﻻم مسيس...
      بل أحيانا أصبح حتى الدين يتبع السياسه...

      ﻻ حول وﻻ قوة إﻻ بالله...
      سبحان الله وبحمد
    • اللوحة المسمارية
      صوت: ألو ... مقهى النخبة، هنا نيويورك. أريد أيوب العربي.

      أيوب: هو الذي يتكلم.

      الصوت: أنا الدكتور جافييه بيريز دي كويلار. الم تعرفني؟

      أيوب: مع الأسف.

      الصوت: ولو، أنا الأمين العام الجديد للأمم المتحدة. ما هذا؟ تكاد تنتهي مدة ولايتي ولم تعرفني أو تحفظ اسمي؟

      أيوب: بسيطة يا سيدي، فنصف الوزراء الذين يتحدثون باسمي وبيدهم لقمتي ومصيري لا أعرف أسماءهم، وبعضهم لا أسمع به إلا عند تشكيل الوزارة. على كل حال، أهلاً وسهلا، أية خدمة؟
      الصوت: تعرف أن الاستعدادت بذكرى الإعلان عن حقوق الإنسان قد بدأت.

      أيوب: أي انسان! الإنسان الآلي؟

      الصوت: لا. لا. الإنسان العادي الذي من لحم ودم ومشاعر. الإنسان الذي يزرع لنأكل، ويغزل لنلبس ويموت لنحيا.

      أيوب: وما علاقتي أنا بهذا الموضوع؟

      الصوت: إن الأمم المتحدة معنية هذا العام بإقامة احتفالها السنوي بهذه المناسبة في إحدى دول العالم الثالث.

      أيوب: ألم تجدوا سوى دول العالم الثالث مكانا للاحتفال بحقوق الإنسان؟

      الصوت: لا. لأن هذه الحقوق في تلك البلاد وخلافاً للتقارير ما زالت موضع شك. ولهذا وجّهت الدعوة إلى كبار الكتاب والفنانين والتكنوقراطيين للمساهمة في هذا الاحتفال ليأتي فيلماً وثائقياً وشهادة حية أقف من خلالها على واقع هذا الإنسان وطموحاته، وعلى العوامل التي تجعل وتيرة نموه أقل بكثير من طاقاته وإمكاناته. وأريدك أن تشرف عليه شخصياً من حيث استقبال المدعوين وملاطفتهم، وترتيب أماكن جلوسهم، ومراجعة كلماتهم. انني أعتمد كثيراً على خبرتك وحكمتك في نجاح هذا الاحتفال.

      أيوب: ولكنني تركت الأدب والسياسة منذ زمن بعيد.

      الصوت: هذا ليس موضوعاً سياسياً أو أدبياً، إنه موضوع إنساني . هل تخليت عن إنسانيتك أيضاً؟

      أيوب: لا. ولكنك فاجأتني بمهمة خطيرة ليس عندي أي استعداد نفسي أو معنوي للاضطلاع بها. ليس عندي حتى الثياب اللائقة لأظهر بها في هذه المناسبة.

      الصوت: سترتدي ثياب الأمم المتحدة.

      أيوب: حسناً . وزمان ومكان الاحتفال؟

      الصوت: كل هذه المعلومات ستصلك برقياً في حينه.

      أيوب: والتعويضات!

      الصوت: ستكون مغرية وبعملة البلد المضيف.

      أيوب: لا أنا يساري ولا أقبض إلا بالدولار.

      الصوت: وكيف صرت يسارياً بين ليلة وضحاها؟
      أيوب: كما صار الأستاذ محمد حسنين هيكل. هل هو أحسن من غيره؟

      الصوت: جهّز نفسك للسفر فوراً.
    • أيوب: وما أن وصلت إلى مكان الاحتفال حتى هرع كبير الموظفين المكلّف بمرافقتي للاطلاع على كافة الاجراءات المتخذة، يشرح لي الآمال المعلّقة على هذا الاحتفال وسط بحر من الوفود والصحفيين والمصورين والمراسلين الذين تقاطروا من جميع أرجاء آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية: هذا يعبيء غليونه، وذلك يشعل سيجاره، والذي يراجع كلمته، والذي يختصر منها، أو يضيف عليها، وضحكات من هنا وتعليقات من هناك. وما أن بلغت القاعة المخصصة للاحتفال حتى صرخت بمرافقي: ما هذه الفوضى؟ من سمح لهم بالجلوس بهذا الترتيب العشوائي؟

      المرافق: لقد اختار كل وفد مكاناً وجلس فيه وليس عندي أية سلطة تحول دون ذلك.

      أيوب: أما أنا فعندي مثل هذه السلطة. ثم من هؤلاء الذين يجلسون في الصف الأول ويلفون ساقاً على ساق بكل هذه العظمة؟

      المرافق: وفود من الدول العربية.

      أيوب: وماذا جاؤوا يفعلون بهذه المناسبة؟ من وجّه اليهم الدعوة؟ ما من مؤتمر أو مهرجان في مناسبة حقوق الانسان، أو حقوق الملاحة، أو حتى حقوق الفقمة.. إلا وتراهم جاهزين بكلماتهم وتوصياتهم وبرقيات تأييدهم واستنكاراتهم. يا إلهي. هل ينامون بثيابهم في المطارات؟ أخرجهم حالا من القاعة كلها، بل حتى لو وجدت في هذا المبنى ولو "تواليت عربي" سأقدم استقالتي وأنسحب.

      المرافق: ألا يمكن أن نسمح لهم بالبقاء ولو كمراقبين؟

      أيوب: مراقبين على ماذا؟ على حقوق الإنسان؟ هل أنت أجدب؟ هل يؤتمن الثعلب على الدجاج؟ هيّا ... ليغادروا المكان، ولتقف جميع الوفود في الزاوية ريثما أعيد ترتيب الجلوس حسب هذه اللائحة التي أعددتها بنفسي. فهناك أصول ومقامات يجب أن تراعى في مثل هذه الأحوال.

      المرافق: وهذه لائحة يا سيدي بأهم البحوث والموضوعات التي ستلقى في الاحتفال. هل أتلوها عليك؟
      أيوب: طبعاً، وبسرعة.

      المرافق: كلمة الافتتاحة سيلقيها الدكتور خوريا موريا من الأرجنتين عن الجذور التاريخية لحقوق الإنسان عند جان جاك روسو. ثم يعقب عليه الدكتور غوهو موهو من أفريقيا الوسطى بمقولة ديمومة الإنسان لهيغل.

      أيوب: عظيم ولكن أسرع.

      المرافق: ثم هناك التكنولوجيا ومستقبل الإنسان.
      الاسطورة وخيال الانسان.
      الميثولوجيا وطقوس الانسان.
      فولتير وروح الانسان.
      بيكاسو وضمير الانسان.
      بريجينسكي وجسد الانسان.
      شوبان وشفافية الانسان.
      ثم بيتهوفن وعظمة الانسان. والحركة الرابعة من السمفونية الثالثة وقدر الإنسان.
      ثم آسيا تنهض.
      أمريكا اللاتينية تتمخض.
      افريقيا تتحفز.
    • أيوب: عظيم . عظيم . والآن، يجب أن يكون ترتيب الجلوس
      على الشكل التالي:


      في الصف الأول: يجلس الحدادون والنجارون والسباكون واالمقاولون والمهربون
      وأصحاب الملاهي والكباريهات.




      المرافق: سيدي. ما هذا؟



      أيوب: لا أريد مناقشة أو اعتراضا من أحد فهذا الترتيب نهائي. وجاء نتيجة دراسة
      ميدانية في معظم أرجاء العالم الثالث. ثم، لو لم أكن موضع ثقة سيادة الأمين العام
      للأمم المتحدة لما كلفني بهذه المهمة، وأرجو عدم مقاطعتي بعد الآن.


      يليهم في الصف الثاني: أصحاب البنوك وتجار العقارات والموبيليا والمفروشات.

      يليهم: السفراء والقناصل ورؤساء البعثات الأجنبية.

      يليهم: القضاة والأطباء والمحامون والمهندسون.

      يليهم: الطلاب والمدرسون والمقررون والمفتشون.

      يليهم: العمال والفلاحون والحراس والليليون.

      يليهم: الحمالون وماسحو الأحذية والباعة المتجولون.

      يليهم: النشالون والجانحون وأرباب السوابق.

      وأخيراً، يليهم: الكتاب والصحفيون وأرباب القلم.

      ثم: ليوضع في مقدمة الجميع بوط عسكري.

      واحتفلوا وناقشوا بعد ذلك حتى يورق الصوان.
    • الحديقة قرب الغابة



      اجمل شعارات هذه الأمة واعرقها. بل ثوب زفافها الأبيض. ماذا حل بها؟ ماذا بقي منها غير الازرار الصدئة والاكمام المتهدلة والجيوب الفارغة؟

      شعارات نقية يطلقها اناس انقياء وبلمح البصر تصبح كثياب عمال الدباغة مع أن الكل يدعي النظافة وتعقيم اليدين.

      معاهد جامعات مخابر تكنولوجيا، ومع ذلك حكمة قيلت قبل أربعين قرناً على ظهر بعير تحكمنا وتسيطر على افعالنا ونحن على متن الجامبو أو الكارافيل وعلى ارتفاع اربعين ألف قدم عن سطح الأرض.

      ما أذرب السنتنا في اطلاق الشعارات. وما ارشق ايدينا في التصفيق لها، وما أعظم جلدنا في انتظار ثمارها، ومع ذلك فان منظر ثائر عربي يتحدث عن آلام شعبه للصحفيين وهو يداعب كلبه الخارج لتوه من الحمام، أو منظر طفل مفزع في صدر سيارة بمفرده أمام مدرسة خاصة أو حضانة أطفال، وعلى مسافة أمتار من ظل سياراته يقف المئات تحت الشمس المحرقة بانتظار باص، يلغي مفعول عشرين دراسة ومائة محاضرة والف أغنية واهزوجة عن العدالة والاشتراكية. كأن هناك من اختص في تجويف الشعارات العربية وتفريغها كالخلد من أي محتوى... ولا يقر له قرار ما لم يتركها لمن سيجيئ من بعده وهي كالبطيخة المنهوشة بالأسنان حتى القشرة البيضاء.
    • كأني بهؤلاء وأمثالهم منذ أول مظاهرة عام 1948 اصطفوا على طريق النضال العربي وكل منهم وضع شعاراً من الشعارات في "حلة" ووقف وراءها وبيده مغرفة وراح يفرغ ما بها كبائع السحلب.

      وعندما تصبح هذه الشعارات ضجة بلا محتوى... يعودون إلى الصف مرة ثانية ويقفون رتلاً احاديا وراء بعضهم كما في النظام المنضم وكل منهم يحمل فرشاة في يمينه وسطل دهان في يساره، ويبدأ بلصق التهمة تلو التهمة على ظهر الذي أمامه بينما تكون فرشاة الذي وراءه تعمل في ظهره وتلصق عليه ألف تهمة مماثلة. حتى أصبح ظهر المواطن العربي مع مرور الأيام والعهود والمراحل كواجهة السينما أو لوحة الاعلانات.

      وفي المقابل هناك فريق ثالث يتألم ويخبط كفاً بكف لهذه الحالة.. ويدعو إلى الشفقة والرحمة بهذه الأمة ... ثم يتلفت يمنة ويسرة وينهش منها ثمن سيارته ويمضي.
      ويأتي آخر ينهش منها ثمن طقم كنبايات.
      وآخر ثمن مزرعة دواجن.
      وآخر ثمن كباريه.
      وآخر ثمن شاليه.
      وآخر محضر بناء.
      وآخر تعهد قمامات.
      وهذه خاتم سونيتر.
      وتلك فسطان سواريه للصيف.
      وتلك معطف فرو للشتاء.

      وهذه الأمة ترتجع كالنعجة في موسم القصاص بعد أن جردت من كل ما يسترها ولم يبق منها إلا الأنسجة والاعصاب.

      ولكن حذار:
      يحكى أن نمراً في سيرك هندي بعد أن تقدم به العمر وأحيل على التقاعد كأي دركي عجوز، دفن رأسه بين قائمتيه وانزوى بعيداً عن الأعين، لكن الحيوانات الاخرى لم تتركه وشأنه فراح كل ما في السيرك من قطط صغيرة وقردة وثعالب وسحالي وببغاوات وسعادين يتحرش به ذهاباً وإياباً. وهو صامت لا يروم، تعففاً وسأماً، ولكن في يوم من الأيام عندما زادوا من تحرشهم لم يطق صبراً على ذلك. فانتظرهم حتى مروا قافلة واحدة ورفع يده وهوى بها عليهم. فقضى على الجميع بضربة واحدة.