تقرأ التدوينة التالية على ثلاثة أجزاء
ديسمبر 2012، مارس 2013، و أكتوبر 2013
الجزء الأول
كتب في ديسمبر 2012
القاهرة، مصر
مجموعة أفكار متناثرة و تخاريف في فترة حرجة
*******************
*غدًا سأركب المترو من محطة عبده باشا إلى العباسية، لا، أنا لست ذاهبة من أشبي أفينيو في بيركلي إلى محطة إمباركاديرو في سان فرانسيسكو، أنا ذاهبة إلى العمل في كلية العلوم عند جامعة عين شمس، ذلك المكان البغيض الذي يبعث عليا إنقباضًا لا مثيل له لكن ما باليد حيلة، أعرف أن آخر مرة شاهدت فيها شمس الشتاء في مصر كانت منذ فترة طويلة جدا، لذلك تخدعني رائحة الشمس و يصر عقلي على أنني في الطريق إلى حرم جامعة بيركلي في كاليفورنيا و ليس حرم جامعة عين شمس..
*"أخي أنت حر وراء السدود، أخي أنت حر بتلك القيود.. إذا كنت بالله مستعصما، فماذا يضيرك كيد العبيد؟
أخي إن نمت نلقى أحبابنا، فروضات ربي أعدت لنا، و أطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود..
فطوبى لنا في ديار الخلود.."
يتردد النشيد في رأسي و أنا أقرأ معالم على الطريق في الميكروباص و بين أصابعي قلم لتحديد السطور التي لمستني، ما هذه الروعة؟ كيف كانت هذه الأشياء و المعاني غائبة عني كل هذه السنين؟
قل لي بالله عليك لماذا تعبأ بالعبيد بعد كل هذا؟
لماذا تأبه؟ أي كلام و أي وعد بعد كلام الله سبحانه و تعالى سيد كل العبيد؟
*الشيخ عمرو مات في العباسية في صمت، لا أحد يهتم لأنه شاب صموت ملتحي، و كذلك مات جيكا وغيرهم كثيرين.. و الأجانب لا يفقهون شيئًا على الإطلاق، و الكلام مع المصريين بلا فائدة منذ زمن طويل جدا..
*أذهب إلى سيلانترو التحرير فقط عندما يدعوني أحد القادمين الجدد من الولايات لأنني لا أقدر على دفع ثمن فنجان قهوة واحد في هذه الأماكن، لكن لسبب ما الجو الأمريكي المصطنع يشعرني بالألفة، رائحة القهوة الثقيلة تشبه رائحة مقاهي نيويورك في الصباح الباكر، الموسيقي الغربية الركيكة تذكرني ببلاد العام سام و بكل هذا الزيف، لكن رؤية كل هؤلاء المصريين المتأمركين تصيبني بالغثيان، أتمنى أن أصرخ في وجوههم أن يا مسوخ، يا ممسوحي الهوية، أنتم لا تعرفون أي شيء، لا تعرفون أي شيء على الإطلاق..
وي فاوند لاف إن أ هوبليس بلاايس
وي فاوند لاف إن أ هووووبليس بلااااايس
إيتس ذا واي أم فيلين أي جاست كانت ديناااااي
بت أي جارا ليت ايت جو!
ينطلق الصوت في كل أرجاء المكان، تبًا! حتى أنت يا سيلانترو ، لماذا تطاردني ريانا و أغنيتها السخيفة في كل مكان حتى هنا؟ لماذا تذكرينني؟ لماذا تتردد في رأسي الهتافات الانجليزية في المظاهرات مع كلمات الأغنية في نفس الوقت؟
******************
غزة
سوريا
العباسية
بيركلي
ميشيجان
نيويورك
قلبي الصغير لم يعد قادر على الاحتمال!
*******************
الجزء الثاني
كتب في 18 مارس 2013
القاهرة، مصر
قبل أن أعرف أنني على وشك الذهاب إلى الولايات المتحدة مرة أخرى
و هو ما حدث في نهايات مايو 2013
*******
أجد صعوبة شديدة في التعامل مع الواقع هنا، و حينما أقول هنا فأنا لا أتكلم عن مصر فقط ، أنا أتكلم على عالمي بأكمله، لا أشعر أنني أتكلم لغة يفهمها أي أحد على الإطلاق، ولا استطيع أن أصف الإعصار الفكري و النفسي الذي أمر به حاليًا بكلمات.. أنا مرهقة جدًا و فقط..
بعد رحلة الولايات المتحدة و الرجوع أشعر الآن أن أغلب الأجانب أغبياء جدًا، ضيقي الأفق، جهلاء، لا يستحقون الوقت الذي أضيعه معهم، و أشعر كذلك أن أغلب المصريين إذا لم تكن على نفس منهجهم الفكري أو إذا لم تخفي إنتماءك فلن تستطيع أن تبدأ معهم محادثة دون أن تنتهي بقطيعة تامى أو على الأقل بسب أو قذف..
لا أعرف ماذا يحدث، الحقيقة الوحيدة التي أدركها عن نفسي الآن هي أنني لست على ما يرام، أشعر أن ثمة شي خطأ في كل ما يحدث و هذا الشيء الخطأ لابد و أن يتوقف..
منذ 2011 تعرض جهازي العصبي للكثير من البيانات المعقدة التي تعذر تحليلها، الكثير من حوادث الموت لأسباب سياسية بحتة لأشخاص كثر عرفتهم على مستوى شخصي، الكثير من الدماء البريئة يمنة و يسارًا، الكثير من الصراعات الفكرية و الشخصية، الكثير من المستجدات على المستوى الشخصي و المحلي و العالمي، الكثير من الفقد و الخسارة و الهجران، الكثير من الصداقات التي أغلقت صفحاتها إلى الأبد و الكثير من الطعنات الموجهة في الظهر بعناية فائقة..
خلال السنتين الماضيتين و مما أشعر به الآن أيقنت تمامًا أن جهازي العصبي و كل دفاعاتي النفسية تعرضت للدمار الشامل، كجهاز حاسوب عتيق أرغم على استقبال كم كبير من البيانات معقدة المحتوى و التي لا تشبه بعضها البعض، كم كبير من الداتا لم تكن لديه القدرة على تحليلها أو التعامل معها فانفجر و توقف عن العمل كلية..
الكلمة الأكثر قربًا لما أحاول وصفه الآن هو أنني Overwhelmed
و هذه مشكلة جديدة لدي، كل المفردات الإنجليزية التي تعلمتها مؤخرًا و التي لا أجد بديلا لها في عربيتي الركيكة، اكتشفت أن عربيتي باتت ركيكة جدًا و هذه الحقيقة تساهم في جعلي أشعر بالسوء أكثر..
الفكرة الأفظع بالنسبة لي حاليًا هي أن عام بأكمله قد مضى منذ عدت من بلاد العم سام، عام كامل! و أنني حصلت على شهادة البكالوريوس في التكنولوجيا الحيوية و الهندسة الوراثية منذ أسبوع واحد فقط بعد 20 شهرًا من التخرج، عام بأكمله مر من عمري لم أعمل فيه في وظيفة واحدة أكثر من شهرين بمرتب مهين و مضى معظمه على الكثير من اللاشيء..
لا أعرف كيف حدث كل هذا ، و أشعر أن سنوات عمري تنقضي بسرعة مرعبة و أنني لا أتحرك قيد أنملة و لو حتى بخطوات بطيئة تجاه أي شيء إيجابي على الإطلاق..
أشعر أنني أمام بيت انهار و أنني أقف أمام الركام عاجزة عن فعل أي شيء، ماذا أرفع و ماذا أترك، ماذا أنظف وماذا ألقي في القمامة، أين أبني و كيف و من سيبني معي، الكثير من علامات الاستفهام، و لا إجابات على الإطلاق..
Numbness
منذ ذلك الحين أدركت أن عالمنا سيء جدًا وأن الوضع في مصر كارثي بحق، و تلاشت بقايا المثالية الساذجة التي كانت تدفعني للمحاولة هنا و هناك، مثاليتي التي أوحت لي بأن هناك كنز تحت الركام و أن أغاني الثورة و أشعار تميم تصلح للتعامل مع واقعنا الديناصوري في أروقة الجامعات و المصالح الحكومية لم تعد صالحة لإبقائي على قيد الحياة مع بعض الأمل يومًا واحدًا..
***********************
الجزء الثالث
كتب في بيركلي، كاليفورنيا
أكتوبر 2013
قبل أن أعرف أنني على وشك الرحيل من الولايات المتحدة مرة أخرى
**********
أكاد لا أصدق أن 2013، تلك السنة العجيبة الدامية الدسمة، على وشك الانتهاء و أنني -للعجب- في الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، في نفس المدينة التي لا أحبذها كثيرًا لأنها هادئة زيادة عن اللازم، و نفس الولاية التي أحمل لديها مشاعر مختلطة من بين كل الولايات الستة عشر التي زرتها..
أشعر بشدة كأن الزمن توقف بي عند خريف 2011، عقلي لا يستطيع تحمل تلك الديجا فو عالية الكفاءة لسبب ما، ولولا الندبات التي يحملها قلبي و عقلي و جهازي العصبي من جراء ما شهدوه في العامين و نيف المنصرمين، ما صدقت أن كل هذا الوقت قد مضى علي و أنني تمكنت من الرحيل من مصر مرة أخرى بعد ما بدا هذا ضربًا من ضروب الخيال..
أعرف أن الكثير لم يكن ليتغير في عامين لكن كل شيء في هذه البلاد السمجة يبدو كما هو بصورة مريبة صعبة التصديق على عقلي، كل الأماكن مازالت هنا، كل المناظر الطبيعية مازالت جميلة كما عهدتها، حرم الجامعة العريقة الذي كان يزورني في أحلامي مازال مألوفًا جدًا، مازال يعج بالطلاب المغرورين الذين لا يقدرون قيمة ما يملكونه و يشعرون أنهم هدية الله لكوكب الأرض فقط لأنهم هم، كل الأشخاص الذين كانوا هنا و تركتهم وراء ظهري منذ عامين مازالوا موجودين بنفس الصورة، مجموعة اليساريين الماركسيين الذين ينظرون على ما يحدث في الشرق الأوسط و يتطلعون إلى الثورات برومانسية فائقة سخيفة مازالوا هاهنا ينظرون، مازالوا رومانسيين إلى الثمالة و سطحيين جدًا بنظرتهم للأمور في الشرق الأوسط، مازالوا مجتمعين في نفس الغرفة الصغيرة في الجامعة و يبدو أنهم لم يفلحوا كثيرًا في ضم وجوه جديدة للتنظيم، ذلك الشاب الأشقر العابث الذي كان يميل لي مازال هنا أيضًا، مازال وجوده على قيد الحياة لا يضيف أي قيمة إنسانية من أي نوع للعالم أو لمحيطه الصغير، مازال يعتبر أن الاستماع إلى الموسيقى الأفريقية نوع من النشاط السياسي المباشر الذي قد يجعل العالم مكانًا أفضل بالضرورة، مازال يعتقد أنه وجد من العدم بلا سبب، أو أنه قد يكون هناك سبب لكنه لا يريد أن يتعب نفسه في البحث عن هذا لأنه يعتقد أنه سينتهي إلى التراب على كل حال.. رحلت و رجعت و لا شيء في حياته العابثة تغير، مازال يميل لي و هو مصر على الإلحاد، مازال لا يفهم أن الأمر ليس بتلك البساطة التي يفكر بها، مازلت لا أفهم لماذا أنا بالذات و لماذا لا يفهم أنني أختلف كليًا عن باقي الفتيات أنصاف العاريات اللاتي تعج بهم المدينة و الطرقات..
باختصار كل شيء يبدو مألوفَا جدًا لدرجة تثير الريبة ولا أعرف هل عقلي يتلاعب بي أم أن هذا طبيعيًا؟ هل طبيعي ألا تتغير نفس المدينة الناعسة في الساحل الغربي من الولايات المتحدة بعد عامين من أجل ترفيهي؟ ربما لأنني تغيرت كثيرًا ولأن مصر تغيرت كثيرًا في غيابي المرة الماضية أصبح عقلي مبرمجًا على أن التغيير الشاسع هو سنة الكون الآن، و لكن في حقيقة الأمر العالم لم يتغير كثيرًا لتغيرنا ولا أحد يأبه بهذا الكلام..
في منتصف أكتوبر 2011 بعد نجاتي من ماسبيرو بأقل من أسبوع كنت على متن طائرة متجهة للولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في حياتي لحضور هذا المؤتمر و بقيت برات البلاد خمسة أشهر و قد كانت هذه المدة أطول مدة قضيتها بعيدًا عن القاهرة في حياتي، حتى عدت إلى مصر في مارس 2012 بسبب أحداث بور سعيد و أشياء أخرى و قضيت أصعب سنوات حياتي على الإطلاق في مصر..
بدايات 2012 حتى ربيع 2013، مجرد التفكير في حياتي في تلك المدة يشعرني بالإرهاق و الحزن، 14 شهرًا من الإكتئاب الحاد، متلازمة ما بعد الصدمة، و فقدان الأمل، ثم المزيد من الصدمات و الوفيات و الإعتقالات، وهكذا دواليك..
في تلك الفترة استشهد و قتل أكبر عدد ممن عرفتهم شخصيًا منذ بداية الأحداث في 2011، في تلك الفترة لم أكن أدرس ولا أعمل، في تلك الفترة باءت كل محاولاتي لجعل أي شيء يعمل بالفشل، مرار خالص عالي التركيز، و خواء تام دفنته في جالونات من القهوة و المقالات و الكتب.
بعد رجوعي من الولايات المتحدة لم أعد أنا أنا و لم تعد الديار كما تركتها، قضيت أكثر من العام أمام جهاز الكومبيوتر المحمول بفنجان القهوة حتى الساعبة صباحًا كلي يوم، قائمة معارفي و شبكتي الإجتماعية تقلصت جدًا لدرجة مرعبة، لا أحد من الجامعة مازال على صلة بي أو يريد أن يكون على صلة بي، أصدقاء الثورة إما عادوا إلى حياتهم الطبيعية أو انغمسوا في الصراع حتى النخاع أو فقدوا جزء من إنسانيتهم و اتزانهم النفسي تحت وطأة ما عايشوه من مهازل و انتهاكات و أصبح بعضهم يصارع الإكتئاب و الإنتحار و متلازمات ما بعد الصدمة، لم أشعر أنني نفسي أملك الإتزان النفسي الكامل للتعامل مع هذا فاخترت الإنزواء على نفسي.
عندما عدت من الولايات لم تكن الدنيا بنفس القدر من السوء، كنت متحمسة، راغبة في فعل شيء في مصر، كان الوجود في الولايات المتحدة عبء نفسي رهيب، الإضطرار للتعامل مع الأمريكان يوميًا بعدما تفهم تركيبتهم النفسية جيدًا و تشعر بخوائهم أصعب بكثير من التعامل معهم و أنت غير عالم بهذا، و أنا عرفت الكثير رغمًا عني..
أصبح البقاء في تلك البلد يومًا واحدًا أشبه بالكابوس و لهذا رحلت في مارس 2012 و لكن بعد العودة و بعد أن باء كل محاولاتي لفعل شيء بالفشل و بعد ما مات من مات و اعتقل من اعتقل صارت مصر نفسها عبء صعب علي تحمله و مع كل ما يحدث إنهار جهازي العصبي تماما.
كنت أدعو الله ليل نهار أن يأذن لي بالخروج ثانية كما أخرجني أول مرة، أن يجعل لي مخرجًا من تلك القرية الظالم أهلها حتى شاء سبحانه و تعالى و رحلت مرة أخرى في مايو 2013 بترتيب لم أكن لأفكر فيه مهما فعلت.
ماحدث في هذه الشهور الخمس في بلاد العم سام كان قصة أخرى، ربما أرويها إذا شاء الله لي..
المصدر : عالم افتراضي