رمضان والحياة من جديد

    • رمضان والحياة من جديد

      نتمنى حلول رمضان
      , ونتشوق لاستقباله, ونعلم جميعًا أنه بإذن الله سينقضي وينتهي كما انقضى غيره, تلك سُنَّة الله سبحانه,
      وتمر الأيام الجميلة مرورًا سريعًا, تمر وربما نكون عنها غافلين.
      لقد تزينت الدنيا بزخارفها, وكثرت مشاغل الحياة
      حتى شغلت الخلق عن دورهم الحقيقي, فنسوا الغاية التي خلقوا من أجلها، والتي قال الله عنها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. لذلك علينا أن نجعل الدنيا زادًا للآخرة، فقد يسرقنا الوقت وفجأة نجد أنفسنا بين الحياة والموت،
      وعندها نتذكر حق الله عز وجل، ونتمنى أن يجعل لنا من العمر بقية؛ لكي نعود إليه سبحانه..
      فهل يا تُرى إذا تحقق ذلك وزاد العمر من جديد سنعود إلى الله فعلاً بالإنابة والعمل أم سننسى أنفسنا
      \مرة ثانية ونغتر بالدنيا ونتشاغل مع من يتشاغل؟!
      في رمضان الماضي كنت أستشعر أنه آخر رمضان في حياتي،
      وكنت أشعر بمرور دقائقه حريصة أشد الحرص على جمع ما أستطيع ليقبلني ربي عنده في ذلك الشهر،
      فما لبثت أن مرت الأيام.. عام كامل.. وجاء رمضان جديد فشعرت أنه قد بعثني ربي مرة ثانية،
      فتذكرت الآية من
      قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10].
      فذلك العبد يتمنى تأخير الأجل بعض الوقت ليكثر من فعل الخيرات،
      رغم أن الحياة كانت أمامه, ولكنه كان غافلاً عن يوم لقاء ربه، فأراد منحه أيامًا من عمره ليكثر فيها من الطاعات.
      وهكذا وبنفس الطريقة اليومية يأتي الليل ويعم السكون وينقلب الأحياء جميعهم أمواتًا
      , وإن كان موتهم موت مؤقت, لكنه أشبه ما يكون بالموتة الكبرى.
      إنني أشعره كذلك عندما أردد دعاء الاستيقاظ من النوم
      "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور", "الحمد لله الذي ردَّ عليَّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره",\
      حال النائم كحال مفارق الحياة لا يشعر وهو مستغرق في نومه بما يدب حوله,
      إنها لصورة مصغرة للموت الكبير..
      لكن تُرى هل يعتبر الإنسان بعد الاستيقاظ من نومه أنه قد بعثه الله سبحانه
      من جديد في يوم جديد يسعى سعيه في الإكثار من الصالحات؟
      كذلك حال من يمر به حادث ما فيكون قريبًا
      من الأموات وينظر إليه الجميع أنه كذلك, وقد يتغير حاله بحال آخر فتتحسن صحته وتبدأ تعود له الحياة من جديد
      , فهل اعتبر مما حدث له؟ فإن الله قد بعثه للحياة من جديد، وأمده بعمر جديد ليعمل ويكثر مما يقربه من ربه.\
      نحن بحاجة أن نقف مع أنفسنا محاسبين لها على هذا المفهوم الذي نفرط في معناه
      , هل سنستيقظ من رقدتنا وغفلتنا وألا يكون حالنا في شهر رمضان العظيم كحالنا
      في غيره تلهنا سكرة الهوى وطول الأمل؟!
      إننا بحاجة ماسّة إلى أن نستشعر بمعاني المحاسبة والتدبر،
      فقادم إلينا شهر غذاء للأرواح, وبلسم للجراح, ومقيد للشهوات, مقوٍّ للهمم, غنيمة للصالحين،
      وفرصة للعصاة والمذنبين، فالكثير يتناسى آثاره الخيّرة وسننه النيّرة،
      واكتفى من الصيام بحبس نفسه عن الطعام والشراب!!
      كذلك حال الغريق يندرج به الموج ويشتد عليه فلا يستطيع الخروج مما فيه، ويتلقف أنفاسه الأخيرة بلحظة واحدة ثم يجد من يرفعه من أعماق الماء
      ويبدأ ليستنشق نسمة هواء لعمر جديد، فهل علم أنه قد بعثه ربه من جديد
      وأعطاه فرصة جديدة للعمل ليغير من حاله ويعود لربه بأعمال كثيرة تقربه من الله سبحانه
      ؛ ليدخر زاده المطلوب للقاء الحق الذي كتبه الله عليه؟!
      وعند حلول شهر رمضان أذكر في نفسي
      من كان معنا في رمضان الماضي من الأقارب والمعارف والطيبين، ولكنه حال
      الموت بينهم وبين إدراك رمضان هذا العام, بل وافاهم رمضان وهم تحت الثرى
      ، وأتساءل هل كانوا على وعي بأنه سيكون رمضان الماضي آخر رمضان لهم؟!
      ويا تُرى ماذا فعلوا في رمضانهم الأخير هذا؟ وهل أعدوا الزاد للقاء ربهم؟
      وعند قدوم الشهر
      يعلو في الأفق نسيم نفسي عجيب يشعر المسلم به عند إعلان رؤية الهلال؛
      ففيه خصوصية لا توجد في غيره, فالصدقة فيه أفضل من غيره وفيه تتضاعف الحسنات،
      وفيه يزيد إقبال قلوب العباد على الله عز وجل، كما أن من فضله أيضًا العمرة فيه تعدل حجة مع النبي
      r؛ ففي الصحيحين: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، أو قال: "حجة معي".
      وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فلنضاعف الحسنات فيه
      ونغتنم ذلك الشهر.
      علينا أن نشكر الله عز وجل الذي أمدنا ومنحنا عمرًا جديدًا,
      فلنكثر من قول "اللهم بلغنا رمضان", وعلينا أن نصلح ما بيننا وبين الله عز وجل,
      \وما بيننا وبين الناس, وما بيننا وبين أنفسنا, ونستعد لحسن العمل, وصدق النية
      حتى نخرج من رمضان بتجارة رابحة، وصدق القائل: رمضان سوق يقوم ثم ينفض،
      ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر.
      إن رمضان فرصة للتغيير, فيه يجد المسلمون
      فسحة جديدة للعبادة والإقبال، فيجب أن يكون منطلقًا لرجعة ثابتة, وعودة صادقة إلى
      الله عز وجل, ليس تغييرًا مؤقتًا في أيام معدودة، فإذا كانت القلوب غافلة والنفوس
      شاردة عليها أن تُقبِل على الله سبحانه قبل فوات الفرصة وانقضاء الأعمار.

      المصدر: موقع المسلم
      . ‏عفى الله عن حديث بالقلب يظل ولا يُقال ,,
    • صوم مودع | ابراهيم الدحيم :

      لو كشف لك من علم الغيب عن خفي أجلك، فأخبرت أن ما تدركه
      من رمضان هذه السنة هو آخر رمضان لك في الحياة.. ثم أنت لا تدري أتتمه
      أم تنقطع بالموت دونه، لو قيل لك ذلك.. كم سيكون الخير فيك؟!
      وكم ستجهد في استغلال أيامه ولياليه، وتحقيق الإخلاص والصدق فيه؟!وكم هي أعمال البر التي سنقوم بها؟!إن الشعور بالوداع وتضايق الفرص يبعث في النفس من الاهتمام والجد والتوجه شيئًا
      لا يبعثه التسويف وطول الأمل.. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله،
      علمني وأوجز. فقال: "إذا قمت في صلاتك، فصلِّ صلاة مودع"
      [1].
      تصور أنك تصلي صلاة تنتظر بعدها الموت، كم ستخشع فيها ويحضر قلبك؟! وكم ستتمها وتحقق الإخلاص فيها؟!لماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها؟! ونستشعر أننا نصوم
      رمضان هذه السنة صوم مودع! وننظر إلى إقبالة رمضان هذه السنة على أنها إقبالة ملوِّح بالوداع..
      كم كنت تعرف ممن صام في سلف *** من بين أهل وجيران وإخـوان
      أفناهم الموت واستبقاك بعدهــم *** حيًّا فما أقرب القاصي من الداني
      ومعجب بثياب العيـد يقطــعها *** فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان

      فكم من مستقبل يومًا لا يكمله! ومؤملاً لغدٍ لا يدركه! وقد روي في الحديث
      "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده"
      [2].
      فتعال معي -أيها الحبيب- نستحضر أحاسيس الوداع، ولوعة الفراق، علَّنا نودع بها دعة أتلفت أيامنا
      ، وكسلاً أذهب أعوامنا، وأماني أضاعت إيماننا.. تعال معي نخصُّ هذا الشهر الكريم بمزيد
      عناية وكأنا نصومه صوم مودع، دعنا نخرجه من إلف العادة المستحكمة، إلى روح العبادة المشرقة..
      والله يتولانا وإياك بعونه ورعايته.
      نصوم رمضان في كل عام وهمُّ أكثرنا أن يبرئ الذمة ويؤدي الفريضة..
      فليكن همنا هذا العام تحقيق معنى الصيام (إيمانًا واحتسابًا)؛ ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا.. وكم هي كثيرة!
      نحرص كل عام على ختم القرآن في شهر القرآن مرات عديدة..
      فلتكن إحدى ختمات هذا العام ختمة تدبر وتأمل بنية إقامة حدوده قبل سرد حروفه.
      نتنقل للقيام بين المساجد كل عام طلبًا لصوت الأجمل، والوقت الأخصر.. فليكن سعينا هذا العام في طلب الصلاة الأكمل.نخص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا،
      فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الأرواح والأنفس، من خلال جلسات الإيمان التي تشرق بها أركان البيت.
      إذا أدخلنا السرور على أسرنا بهذا وذاك فلنوسع الدائرة هذا العام فندخل السرور على أسرٍ أخرى..
      أسرتها الحاجة، وكبلتها الأعباء.
      نتصدق كل عام بقصد مساعدة المحتاجين، لنجعل قصدنا هذا العام بهذه المساعدة مساعدة أنفسنا بتخليصها
      من نار الخطيئة بصدقة تطفئ غضب الرب.
      نحرص على العمرة في رمضان لفضلها..
      فلنجعلها هذا العام لعمرنا كله نغسل بها ما مضى من ذنوب..
      نطوف بها في أفياء الرحمة، إذ قد يكون آخر العهد بالبيت الطواف.
      نحرص على اكتساب العمل النافع في رمضان، فليكن هذا النفع متعديًا للغير بكتاب يُهدى، أو نصيحةٍ تُسدى أو إصلاحٍ بين الناس.لنفسك من دعائك النصيب الأوفى، فلنتخلَّ عن هذا (البخل) في شهر الكرم،
      فملايين المسلمين في حاجة إلى نصيب من دعائك الذي تؤمِّن عليه الملائكة
      وتقول: (ولك بمثل)، فيبقى نصيبك محفوظًا.
      الجود محمود في رمضان وأنت من أهله، فليمتد جودك
      إلى الإحسان لمن أساء عليك، ووصل من قطعك (وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا).
      لنكف عن الاعتكاف إلى الناس، ولنكتف بالعكوف مع النفس لمحاسبتها،
      فربما يفجأنا الموت فنحاسب داخل القبر قبل أن نتمكن
      من محاسبة أنفسنا ونحن أحياء {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
      نحب التعبد بتفطير الصائمين، فلنجرد هذه العباد
      ة من حب المحمدة أو دفع المذمة، فذلك رياء لا يثيب صاحبه بل يصيب مقاتله.
      تفطير الصائمين من جوعة البطن مستحب مندوب،
      ولكن إشباع جياع القلوب فرض مطلوب،
      فليكن لنا جهد في هذا مع جهدنا في ذلك،
      فكم من ظامئ للموعظة يحتاج السقيا! وكم من غارق في الشهوات يحتاج طوق النجاة!
      تصفُّ قدميك مع مصلين لا تعرفهم.. فهلا تعرفت على ما يوحِّد قلبك معهم، ويضم صفك إليهم،
      فإن تسوية الصفوف خلف الإمام ما جُعلت إلا لتوحيد القلوب مع الإيمان!!
      لنا ولك أعداء، فانتصر عليهم بالدعاء إن كانوا كافرين،
      وانتصف منهم بالدعاء إن كانوا مسلمين، فكم من دعاء حوّل العداء إلى ولاء! والله يتولى الصالحين.
      في رمضان، يذكرك الضعفاء أنفسهم على نواصي الطرقات وعند أبواب المساجد،
      فلا تنس المستضعفين الذي استغنوا عن السؤال، أو قطع طريقهم إليك
      رتل الدبابات وأزيز الطائرات، أو أعياهم الجوع في المجاهل والأحراش الموحشة.
      يتوارد على سمعك في كل عام ما يعرفك بقدر رمضان، فاجعل هم هذا العام أن تتعامل مع رمضان بمقدار قدره.قدر رمضان يتضاعف ليلة القدر، فهل قدَّرت في نفسك أنها ربما فاتتك في
      أعوام خالية؟! فاغتنمها اليوم فقد لا تأتي بها ليالٍ تالية.
      إذا ودعت رمضان أو ودعك.. فاستحفظه ربك، واستودعه عملك..
      فإن لم تجد ما تودعه فذاك لخيبة نفسك، وذهاب عمرك، والمحروم من حُرِم.
      هذه خطرات على أبواب هذا الموسم العظيم، فهلا عقدنا العزم
      على أن يكون الشهر لنا {مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، نغسل فيه أدران الذنوب فنتوب،
      ونشرب من مواعظه ما تحيا به القلوب، فليكن بداية جديدة لنا، ومحطة للعودة الصادقة إلى ربنا،
      فها قد اقتربت أيام رمضان وهبت رياحه فاغتنمها.
      فيا غيوب الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا همم المسلمين أسرعي
      ، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما أناب.
      اللهم سر بنا في سَرْب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة.
      اللهم بارك لنا في رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقائك من النيران.
      . ‏عفى الله عن حديث بالقلب يظل ولا يُقال ,,

    • لعله اخر رمضان : خالد الراشد


      كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام..
      نرقب شهر الصوم ونتحراه، ثم ماذا؟!..
      عام كامل بأيامه ولياليه قد قوَّض خيامه.. وطوى بساطه.. وشدَّ رحاله.. بما قدمنا فيه من خير أو شر.
      وصدق الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122]،
      {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]،
      {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
      قال ابن كثير -رحمه الله-: "تمر بنا الأيام تترى، وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر".إنَّ الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود، ولو أنفقنا جبال الأرض ذهبًا وفضة.. واعلم أنَّالأنفاس معدودة، والآجال محدودة.واعلم أيضًا أن من أعظم نِعم الله عليك أن مدَّ في عمرك، وجعلك تدرك هذا الشهر العظيم..
      فكم غيَّب الموت من صاحب!! ووارى الثرى من حبيب!!
      تذكر من صام معنا العام الماضي.. وصلى العيد.. ثم أين هو الآن بعد أن غيبه الموت؟!..اجعل لك من هذا الحديث نصيبًا، قال r:
      "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".
      المصدر: محاضرة (غربة صائم) للشيخ خالد الراشد.
      . ‏عفى الله عن حديث بالقلب يظل ولا يُقال ,,
    • كثيرًا ما تضيع منا الأيام الأولى في رمضان؛ لأننا لم نحسن الاستعداد لها، فلا نشعر بقيمة الصيام، ولا بحلاوة القرآن، ولا بخشوع القيام.. وهذه لحظات غالية، وأوقات فريدة ينبغي للمسلمة الواعية أو المسلم الفاهم ألاَّ يفرِّط فيها أبدًا.ويسعى الخطباء والدعاة والعلماء والمتحدثون أن يضعوا برامج في شعبان؛ لشحذ الهمم، وتنشيط الكسالى، مثل الإكثار من الصيام وقراءة القرآن والقيام لدخول رمضان. وقد تعوَّدنا على هذه الأمور، فلا تضيع منا دون انتباه.. وهذا -لا شك- شيء طيب.. بل رائع.. فاللاعب الذي لا يقوم بعملية الإحماء والتدريب قبل المباراة لا يمكن أن يستمر فيها بلياقة جيدة. وهكذا أيضًا المسلم والمسلمة الذي "يُفاجَأ" برمضان فإنه لا يُحسِن استخدام كل أوقاته، واستغلال كل لحظاته.لكني أرى أن الأهم من ذلك، والذي قد نغفله كثيرًا، هو الاستعداد "ذهنيًّا" لهذا الشهر الكريم.. بمعنى أن تكون مترقبًا له، منتظرًا إياه، مشتاقًا لأيامه ولياليه.. تَعُدُّ الساعات التي تفصل بينك وبينه، وتخشى كثيرًا ألاَّ تبلغه!هذه الحالة الشعورية صعبة، ولكن الذي يصل إليها قبل رمضان يستمتع حقيقةً بهذا الشهر الكريم.. بل ويستفيد -مع المتعة- بكل لحظة من لحظاته.وقد وجدتُ أنه من أسهل الطرق للوصول إلى هذه الحالة الشعورية الفريدة أن تتخيل بقوَّة أن رمضان القادم هو "رمضانك الأخير" في هذه الدنيا!!إن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أوصانا أن نُكثِر من ذكر الموت، فقال: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ"[1]. ولم يحدِّد لنا وردًا معينًا لتذكُّرِه، فلم يقُلْ مثلاً: تذكروه في كل يوم مرة، أو في كل أسبوع مرة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكنه ترك الأمر لنا، نتفاوت فيه حسب درجة إيماننا؛ فبينما لا يتذكر بعضُنا الموت إلا عند رؤية الموتى، أو عيادة المرضى، أو عند المواعظ والدروس، تجد أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ". وقد قال هذه الكلمات الواعية تعليقًا على حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"[2].وفي إشارة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى تذكُّر الموتى كل يومين قال: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"[3].رمضان الأخير مطلب نبويإذن افتراض أن رمضان القادم هو رمضان الأخير افتراض واقعي جدًّا، ومحاولة الوصول إلى هذا الإحساس هو مطلب نبويٌّ، والمشاهدات العملية تؤكِّد هذا وترسِّخه.. فكم من أصحابٍ ومعارفَ كانوا معنا في رمضان السابق وهم الآن من أصحاب القبور! والموت يأتي بغتةً، ولا يعود أحدٌ من الموت إلى الدنيا أبدًا.. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].فالعودة من الموت مستحيلة، وكل الذين يموتون يتمنون العودة، إنْ كان مسيئًا ليتوبَ، وإن كان مُحسِنًا ليستزيد! فماذا لو مِتنا في آخر رمضان المقبل؟! إننا -على كل الأحوال- سنتمنَّى العودة لصيام رمضان بشكل جديد، يكون أكثر نفعًا في قبورنا وآخرتنا.. فلنتخيَّلْ أننا عُدْنا إلى الحياة، وأخذنا فرصة أخيرة لتجميل حياتنا في هذا الشهر الأخير، ولتعويض ما فاتنا خلال العمر الطويل، ولتثقيل ميزان الحسنات، ولحسن الاستعداد للقاء الملك الجبَّار.هذا هو الشعور الذي معه ينجح إعدادنا وعملنا بإذن الله في هذا الشهر الكريم.. وليس هذا تشاؤمًا كما يظنُّ البعض، بل إن هذه نظرة دافعة للعمل، ودافعة -في نفس الوقت- للبذل والتضحية والعطاء والإبداع.. ولقد حقَّق المسلمون فتوحات عسكرية كثيرة، ودانت لهم الأرض بكاملها بسبب هذه النظرة المرتقِبة للموت، الجاهزة دومًا للقاء الله عز وجل.وما أروع الكلمات التي قالها سيف الله المسلول خالد بن الوليد -رضي الله عنه- لزعيم الفرس هُرمز عندما وصف الجيش الإسلامي المتَّجِه إلى بلاد فارس فقال: "جئتك برجالٍ يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"[4]!!ولقد حقق هؤلاء الرجال الذين يحبون الموت كل مجدٍ، وحازوا كل شرفٍ.. ومات بعضهم شهيدًا، وعاش أكثرهم ممكَّنًا في الأرض، مالكًا للدنيا، ولكن لم تكن الدنيا أبدًا في قلوبهم.. كيف وهم يوقنون أن الموت سيكون غدًا أو بعد غدٍ؟!أعمال رمضان الأخيروالآن ماذا أفعل لو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير؟!لو أني أعلم ذلك ما أضعتُ فريضة فرضها الله عليَّ أبدًا، بل ولاجْتهدتُ في تجميلها وتحسينها، فلا أصلي صلواتي إلا في المسجد، ولا ينطلق ذهني هنا وهناك أثناء الصلاة، بل أخشع فيها تمام الخشوع، ولا أنقرها نقر الغراب، بل أطوِّل فيها، بل أستمتع بها.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ"[5].ولو أني أعلم أن هذا هو "رمضاني الأخير" لحرصت على الحفاظ على صيامي من أن يُنقصِه شيءٌ؛ فرُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. بل أحتسب كل لحظة من لحظاته في سبيل الله، فأنا أجاهد نفسي والشيطان والدنيا بهذا الصيام.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[6].ولو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير، لحرصت على صلاة القيام في مسجد يمتِّعني فيه القارئ بآيات الله عز وجل، فيتجول بين صفحات المصحف من أوَّله إلى آخره.. وأنا أتدبَّرُ معه وأتفهَّم.. بل إنني أعود بعد صلاة القيام الطويلة إلى بيتي مشتاقًا إلى كلام ربي، فأفتح المصحف وأستزيد، وأصلي التهجد وأستزيد، وبين الفجر والشروق أستزيد.. إنه كلام ربي.. وكان عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- يفتح المصحف ويضعه فوق عينيه ويبكي، ويقول: "كلام ربي.. كلام ربي"[7].ولو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير ما تجرأت على معصية، ولا فتحت الجرائد والمجلات أبحث ملهوفًا عن مواعيد التمثيليات والأفلام والبرامج الساقطة.. إن لحظات العمر صارت معدودة، وليس معقولاً أن أدمِّر ما أبني، وأن أحطم ما أشيد.. هذا صرحي الضخم الذي بنيته في رمضان من صيام وقيام وقرآن وصدقة.. كيف أهدمه بنظرة حرام، أو بكلمة فاسدة، أو بضحكة ماجنة؟!إنني في رمضان الأخير لا أقبل بوقت ضائع، ولا بنوم طويل، فكيف أقبل بلحظات معاصي وذنوب، وخطايا وآثام؟! إن هذا ليس من العقل في شيء.ولو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير ما كنزتُ المال لنفسي أو لورثتي، بل نظرت إلى ما ينفعني عند ربي، ولبحثت بكل طاقتي عن فقيرٍ محتاج، أو طالب علم مسكين، أو شاب يطلب العفاف ولا يستطيعه، أو مسلمٍ في ضائقة، أو غير ذلك من أصناف المحتاجين والملهوفين.. ولوقفت إلى جوار هؤلاء بمالي ولو كان قليلاً، فهذا هو الذي يبقى لي، أما الذي أحتفظ به فهو الذي يفنى!رمضان وأمتنا الجريحةولو أني أعلم أن هذا رمضاني الأخير ما نسيت أُمَّتي؛ فجراحها كثيرة، وأزماتها عديدة، وكيف أقابل ربي ولست مهمومًا بأمتي؟! فلسطين محاصَرة.. والعراق محتلَّة.. وأفغانستان كذلك.. واضطهاد في الشيشان، وبطش في كشمير، وتفتيت فيالسودان، وتدمير في الصومال.. ووحوش الأرض تنهش المسلمين.. والمسلمون في غفلة!ماذا سأقول لربي وأنا أقابله غدًا؟!هل ينفع عندها عذرٌ أنني كنت مشغولاً بمتابعة مباراة رياضية، أو مهمومًا بأخبار فنية، أو حتى مشغولاًَ بنفسي وأسرتي؟!أين شعور الأمة الواحدة؟!هل أتداعى بالحُمَّى والسهر لما يحدث من جراح للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟!وحتى -والله- لو كنت مشغولاً بصلاتي وقيامي، هل يَقبل ربي عذري أنني نسيت رجالاً تُقتَّل، ونساءً تُغتَصب، وأطفالاً تُشرَّد، وديارًا تُدمَّر، وأراضي تُجرَّف، وحُرمات تُنتَهك؟!رمضان وفقه الرسوللقد أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بالفطر وهم يتَّجِهون إلى مكة ليفتحوها بعد خيانة قريش وبني بكر..إن الصيام يُؤخَّر، والجهاد لا يُؤخَّر..ليس هذا فقهي أو فقهك، إنما هو فقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.هكذا كان يجب أن يكون رمضاني الأخير، بل هكذا يجب أن يكون عمري كله.. وماذا لو عشت بعد رمضان؟! هل أقبل أن يراني الله عز وجل في شوال أو رجب لاهيًا ضائعًا تافهًا؟!وما أروع الوصية التي أوصى بها أبو بكر الصديق أبا عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- وهو يودِّعه في رحلته الجهادية إلى الشام.. قال أبو بكر: "يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا، وعش مجاهدًا، ولتتوفَّ شهيدًا"[8].يا الله! ما أعظمها من وصية! وما أعمقه من فهم!فلا يكفي العمل الصالح بل احرص على ذروة سنام الإسلام.. الجهاد في سبيل الله.. في كل ميادين الحياة.. جهاد في المعركة مع أعداء المسلمين.. وجهاد باللسان مع سلطان جائر.. وجهاد بالقرآن مع أصحاب الشبهات.. وجهاد بالدعوة مع الغافلين عن دين الله.. وجهاد للنفس والهوى والشيطان.. وجهاد على الطاعة والعبادة، وجهاد عن المعصية والشهوة.إنها حياة المجاهد..وشتَّان بين من جاهد لحظة ولحظتين، وبين من عاش حياته مجاهدًا!ثم إنه لا يكفي الجهاد!!بل علينا بالموت شهداء!وكيف نموت شهداء ونحن لا نختار موعد موتتنا، ولا مكانها، ولا طريقتها؟!إننا لا نحتاج إلى كثير كلام لشرح هذا المعنى الدقيق، بل يكفي أن نشير إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتضح المقصود.. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[9].ولتلحظْ -أخي المسلم، وأختي المسلمة- كلمة "بصدق" التي ذكرها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.. فالله عز وجل مطَّلعٌ على قلوبنا، مُدرِك لنيَّاتنا، عليمٌ بأحوالنا.أمتي الحبيبة..ليست النائحة كالثكلى!إننا في رمضاننا الأخير لا نتكلف الطاعة، بل نعلم أن طاعة الرحمن هي سبيلنا إلى الجنة، وأن الله عز وجل لا تنفعه طاعة، ولا تضرُّه معصية، وأننا نحن المستفيدون من عملنا وجهادنا وشهادتنا.فيا أمتي، العملَ العملَ.. والجهادَ الجهاد.. والصدقَ الصدق؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب منها، والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.وأسأل الله عز وجل أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
      [HR][/HR]
      [1] رواه النسائي (1824)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258)، وأحمد (7912)، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (1210) في صحيح الجامع.
      [2] البخاري: كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (6053).
      [3] البخاري: كتاب الوصايا، باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصية الرجل مكتوبة عنده" (2587)، ومسلم: كتاب الوصية (1627).
      [4] ابن الجوزي: المنتظم في التاريخ 4/101، الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/554.
      [5] رواه النسائي (3939)، وأحمد (14069)، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (3124) في صحيح الجامع.
      [6] البخاري: كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760).
      [7] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10/320.
      [8] أبو الربيع الكلاعي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 3/118.
      [9] مسلم: كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (1909)، والنسائي (3162)، وابن ماجه (2797).

      . ‏عفى الله عن حديث بالقلب يظل ولا يُقال ,,