Source: atheer.om/archives/50038/%d8%a…%d8%a3%d8%b1%d8%ac%d9%88/Atheer News كتب:
لـ: معاوية الروحي
تمهيد/ أو ربما تهديد:
سيادة [القارئ / القاضي]
[مرافعة تمهيدية]
ما أن وقعت عين عقلي على غلاف الكتاب إلا وعفريت سوء الظن بالكتاب يستولي عليّ استيلاءً كبيراً، إن جملة [مراسلات إلكترونية] في غلاف الكتاب توحي بأشياء كثيرة، توحي بأننا أمام كتاب [لم يخطط له] والعفوية ـ هذا السلوك الإنساني النبيل ـ لا تنجح في كتب كثيرة.
يستيقظ مع سوء الظن بالكتاب صديق لسوء الظن … الشك !!! وما أجملها من بداية [عقلية] قبل قراءة هذا الكتاب أو أي كتاب آخر، سوء الظن بالكتاب قبل قراءته عملية ممنهجة لصناعة تحد عقليّ مع الكتاب. عملية ترفع من التركيز أثناء القراءة، ومن التحليل الداخلي وعمليات [فك التشفير] التي تتم أثناء المرور على الحواريات التي بُني عليها الكتاب.
كأي وكيل ادعاء عدائي بدأت مبكرا وقبل امتلاء قاعة المحكمة بالحضور بدأت أترافع أمامك أيها القاضي الكريم [القارئ كما تحب أن تسمي نفسك]، بدَأَت مرافعتي تتكون في عقلي قبل أن أفتح الصفحة الأولى، هل سيخيب سوء ظني أم سيصدق؟ هذا ما ستقوله لك السطور القادمة بعد هذا التهديد الصريح، وبعد تهيئتي للمطالبة بأقسى عقوبة ممكنة على هذا الكتاب المتهّم الماثل بين يديك أيها القاضي.
&&&
نشرُ مراسلات بين شخصين ليست عملية عفوية. اتخاذ قرار نشر مراسلات أدبية له هدفٌ عميقٌ يتجاوز العملية الفنية المعتادة، أو ضرورة الأرشفة، لتوثيق ما قيل وما كتب وما سجّل في خفاءٍ عن أعين الناس ليوضع لهم في كتاب لاحقا، كان هذا أول ما رغبت في اكتشافه من الكتاب الذي يدور عالمه حول العوالم النفسية الداخلية لصديقين يتكونان أمام عينيك يا سيادة [القاضي / القارئ].
استطاعت الصفحات العشرون الأولى في إصابة سوء ظني بالكتاب بالخيبة، وتحولت من مقعد وكيل الادعاء إلى مقعد المحامي لأترافع الآن أمامك يا سيادة القاضي أمام كل الشكوك التي وضعتها والتي لم أقلها لك، والتي لن أقولها لك لسبب بسيط للغاية، أنني عشت تجربة قرائية جميلة للغاية مع صفحات هذا الكتاب الــ[165].
الكتاب في صفحاته كاملةً لم يحو أي سردٍ تقريبا إلا جملا قليلة على شاكلة [ومر العيد ــ وتأخر تواصلنا ــ وانقطعنا فترة]، واستمر الكتاب في جميع صفحاته بهذا الشكل، رسالة من وليد الذي تغيرت صفته عبر الصفحات [بدأت من الغريب] وعبد الله حبيب الذي كانت صفته ثابتة من بداية الكتاب إلى نهايته، فهو الحبيب عبد الله حبيب كما يناديه الجميع، معتقدين كلهم أنهم أول من ناداه بهكذا نداء.
استجمع الشاب الصحاري وليد الشعيلي شجاعته، بعد شغف كبير وطويل بكاتب [وجد فيه ضالته] وجنونه وفهمه للحياة، وجد فيه روحا أخرى عاشت الحياة قبله وتركت له سراجا في كل حرف كتبه عبد الله حبيب، وكأنني أراه في [جفون الليالي] يتتبع، ويعيد قراءة المقال وراء المقال، والكتاب وراء الكتاب، ويربط بين هنا وهناك قصة يفهمها، أو عبرة يستلهمها، يقرأ، ويتوقف ليتخيل عدة ساعات، ثم يعود ليقرأ، ويتنهد ويحب ويكره ويغضب، ويشعر بالغيظ والقهر من الكاتب تارة ومن المكتوب تارة أخرى، يشعر بالحب والفرح، بالسلام، بالكآبة، بالحزن، بالنبل، بالتضحية، ويشعر أنه أقرب قارئ له في الكون، ولاحقا ــ ربما ــ أقرب إنسان لهذه الكتلة البعيدة من الأسئلة التي تلف حول فلك الكائن البشري: الحبيب عبد الله حبيب، وما أدراك ما الحبيب عبد الله حبيب.
وكأنني أراه وهو يقرر ألّا يكون شبحا بعد تلك الليلة، بعد أن استعد جيدا في باطن عقله، بعد أن بقي الوقت المستحق، بعد أن قام بما عليه فعله من قراءة وفهم وتأمل، وكأنني أراه وهو يقرر ألا يكون في حياة الحبيب عبد الله حبيب شبحا، أو قارئا بعيدا، أن يعطي لذلك الفهم والحب والبعد والتأمل صفاتٍ أخرى، لا يدري كيف ستبحر به ولا يدري كيف ستكون، ولكنه يعلم جيدا أن الحبيب يستحقها، وأنه هو يستحق تلك الصداقة التي تكونت مع الحروف كما تزهر شجرة في الصحراء، وكما تمطر قطرة ماء في الأرض الخواء، ومن هناك، بعد ذلك القلق، بدأت الحكاية:
رسالة وليد الأولى:
” بعد سماعي لرثائك لعلي المعمري في برنامج “المشهد الثقافي” أيقنت أنك رثيت نفسك أكثر منه يا عزيزي، وأن عيني صورة المهرج في غرفة خالد البدور ما زالتا تقفزان إلى ذاكرتك المرهقة. تنتابني الآن أمنية كانت قد راودتك في زمن بعيد أيضا في معرض الشارقة وهي أن تأخذ المرحوم جمعة الفيروز جانبا وتقول له: ” لا تمت أرجوك”
أرجوك لا تمت يا عبدالله حبيب.
“ثكلى هي الريح” يا عبدالله” لكن مجز الصغرى كفيلة بمواساة الريح، ليس لدي “مساءلات سينمائية”، أريد التواصل لأنني أخشى “رحيل” [التوح] فيصبح [فراق بعد حتوف]. وإن خففنا الغصة سيأتي الموت، رغم احتراقه من أجل تهميشنا للغصة. “أرجوك لا تمت” ودعنا نتواصل ولو لثوانٍ من هذه الحياة أرجوك، من أجل خاطر فاطمهْ (بالدارج العُماني)، وآمنة، ومحفوظة ومي غصوب، وسركون بولص، ومجز ذلك الضلع الآخر.
أرجوك تواصل معي
وليد خلفان الشعيلي صحار.
انتهى النقل
وكأنني أرى الأفكار في رأس وليد وهي تتدافع، ذلك الخوف المعتاد من التواصل مع الكتاب الذين نعشقهم ليأتي الواقع ويخذلنا، الخوف أن يعاملونا [ككائنات زائدة عن الحاجة في حياتهم]، ألسنا من قرأ لهم كل كتاب بدقة وتمحيص؟ ألسنا من نعلم جيدا قصص حياتهم أكثر منهم؟ ألسنا من قرأ لهم الكتاب والمقال والتعليق في الفيس بوك والجريدة؟ أليس وليد من تابع عبدالله حبيب كما يقول الكتاب في كل زاوية منه؟ تابعه بشكل لصيق؟ تابعه متابعة المحب المريد؟ التلميذ للأستاذ؟ الصديق العتيد للصديق البعيد؟
يكسر وليد حاجزا مهما في حياته، حاجزا جلب له أجمل تجربة كما يبدو في تاريخ عقله، في حياة الأفكار لديه، ولن يفهم إلا من تتلمذ على يد أستاذٍ ثقافي، على الطريقة الكلاسيكية العُمانية، لن يفهم معنى ذلك بالنسبة لشاب في عصر الضياع الحر، والحرية الضائعة، ماذا يعني عبدالله حبيب لنا هذا شيء، ولكن ماذا يعني لوليد فهذه [أشياء] أخرى، تدور في سيكولوجية التلميذ الوفي، الذي حمّل كل وفائه في رسالة، وترك قبله يخفق بعد أن أرسلها، مذيلا الرسالة برجاء ونداء، أنه لا يطلب الكثير، القليل من التواصل أيها الحبيب عبدالله حبيب، القليل.
هنا تحول الكتاب إلى حبكة درامية غريبة النوع، من ذلك النوع من الروايات التي يبتكرها الكتاب عن [القارئ الأول]. القارئ الأول شخصية غريبة في حياة كل كاتب في الأرض، بعض الكتاب يجدون القارئ الأول سريعا، والبعض يموتون دون أن يفصح هذا القارئ عن نفسه، والبعض يكتشفونه في رسالة كالتي ذكرت أعلاه.
هذه الرسالة ليست بسيطة كما يبدو، إنها [مبرمجة] بشكل واضح لتقول أشياء أكثر مما تقوله الكلمات، تقول للحبيب عبدالله حبيب [قرأتك ــ وفهمتك ــ وأعرف ما تخفيه وما تبديه].
يأتي الرد محبطا قليلا من عبدالله حبيب، يبدو أنه لم يركز كثيرا في الرسالة، ولا مضامينها، ردٌ سريع بعض الشيء، ويتساءل [هل تريد كتاب مساءلات سينمائية؟]. كعادته، وكما يفعل دائما. سرحان حتى وهو معك ..
” عالمك مثر وجميل”
“لا تحرق رسائل حبك القديم”
ليرد عبد الله حبيب بعدها مذهولا؟
“من أنت .. من أي كوكب أنت؟”
هُنا بدأت حكاية الكتاب .. وكأنني أرى ابتسامة وليد الشعيلي وهي تشتعل في وجهه، لأن اللغة قامت بدورها، ولأن الجسر الأول المكون من الحروف التي تنقل الأفكار في البداية، والمشاعر في النهاية قد بني بجملتين.
من أنت؟ من أي كوكب أنت؟
&&&
تساقطت الظنون التي حملتها تجاه الكتاب وخابت، وثق الربع الأول من الكتاب [تناوشاً حدوديا] كبيرا بين عالمين، بين عقلين مختلفين. أدرك عبدالله حبيب أنه ليس أمام شخص [عادي] يمكن أن يمر على حياته كما يفعل المئات من البشر الذين ينساهم وينسى أسماءهم بسهولة ودون ندم. وانطلق وليد بشجاعة أكبر في مرحلة لاحقة من الكتاب في قول ما لديه.
لديه رسالة عميقة لعبدالله حبيب، يقولها في كل رسالة، ويتجاهلها الحبيب بوعي أو بدون وعي.
العارف لعالم عبد الله حبيب، ولللتشابه بينه وبين فقيد الرواية العمانية، سيعلم لماذا سمى وليد كتابه [أرجوك لا تمت]، وهذا سؤال القهر والحيلة. السؤال المر [وماذا أكون في حياته؟] هُناك انطلق وليد من أقوى نقطة لديه [فهمه] العميق للحبيب، مستخدما [منطق الحبيب] في مخاطبة الحبيب. ولم يستطع عبدالله حبيب أن يقول: لا ..
كان يجب أن تبدأ هذه الحكاية بشكل أو بآخر ..
أدرك عبد الله حبيب ذلك، وفهمه أيضا ..
وبعدها تغير شكل المحادثات، والمراسلات، وبدأت رحلة الكتاب في الربع الثاني تصبح أكثر جمالا وتنوعا.
&&&
المثير للإعجاب في ما نقله وليد من مراسلات عن الكاتب عبدالله حبيب، الاختيارات المتقنة التي تخبرك من يكون عبدالله في حقيقته كإنسان، عن العُماني البسيط الذي يعيش شوقا أزليا وجوديا حتميا لا يزول، عن الخائف من خسارة من يحبهم، عن الكاتب غير القادر على أن يحب نفسه، وغير القادر على تحمل جلد الذات الشديد والتعنيف الشديد للخسارات الوجودية التي يعيشها العالم، عن [الصفعة القدرية] التي تقع على وجه عبدالله حبيب أيضا مع كل صفعة قدرية تحمل [رحيلا جديدا].
بعد أن تغيرت المسميات الرسمية، إلى الأصدقاء، إلى الأحبة، ظهر وليد لنا في الكتاب، صديقا للأستاذ، وأستاذا للصديق، مدافعا يقف في وجه أستاذه من أجل الحياة ” أرجوك لا تمت ” يرددها مرارا وتكرارا في الكتاب، لا تذهب إلى حيث ذهب همنجواي وصديقه، وكأنه يقول: ألا تفهم؟ أن ما لمت علي المعمري فيه ألومك فيه؟؟ وكأنه يقول: ليتي أمتلك شجاعة لأقولها ولكنني سألومك لو رحلت، سألومك لو قررت الرحيل، سألومك لأنك ترحل تدريجيا، سألومك وسأغضب، ولن أتوقف عن حبك، لائما أو غاضبا.
يبدو يأس وليد واضحا أحيانا، يأسه من قدرته على تغيير درب الحبيب للحتف، يخاف من الفراق وأن تحين الحتوف، يتلون هذا اليأس بلون الحب الجميل، ولكنه يعود في اللحظات القلقة، اللحظات الخفية التي لم ينقلها لنا الكتاب، أما عن يأس عبد الله حبيب المطعّم بجمال العقل واللغة والكلمة والفكرة، فهو يأس جميل، يحملك على الاعتقاد الخطير [أن الحبيب يجب أن يبقى يائسا]، يحملنا عى ما يريد وليد أن يزيله عن حياة أستاذة بكل محاولاته، عن قبولنا كقراء [بكل أنانية] أن يبقى الحبيب عبدالله حبيب حزينا، ويائسا، ليكتب لنا كلمات الحزن الجميلة، وأفكار اليأس الملهمة. يبدو يأس وليد واضحا، كما يبدو شعوره بالذنب، شعوره أنه [ربما] أحدهم، الشعور الذي يظهر بين السطور، ليختفي مع رسالة من معاني الوجود تأتي من عقل الأستاذ إلى تلميذه وصديقه النجيب.
ليس بيدي شيء … ليس بيدي شيء
يتبادل الطرفان الأدوار، في مرحلة لاحقة من الكتاب. يتلون الكتاب بالمشاعر بين صديقين أحيانا، أو بين عقلين أحيانا، مرة عقل وقلب، مرة قلب وعقل، مرة قلب وقلب، ومرة عقل وعقل. وليد، الذي ربما رأى كل هذا في خياله، عاش هذا الخيال وأصبح واقعا. في كل رسالة يشكره على [الوعي] الذي يغرسه في عقله، على الأستاذية التي يمارسها عبدالله حبيب بكل وفاءً وجمال.
يغادر عبد الله حبيب السطور للتحكيم في جائزة سينمائية جديدة، كان الحديث عن السينما أقل الموضوعات المكتوب عنها في الكتاب، لست أدري هل هذا بسبب انتقائي من قبل المؤلف الذي أعد الكتاب أم لأنه فعلا لم يكن يريد [مساءلات] سينمائية. وفعلا، لا مساءلات سينمائية في هذا الكتاب، إنها مساءلات وجودية من غريب أصبح صديقا، ومن أستاذ أصبح [يسمع].
من وليد في البداية وهو يطلق الرجاء، إلى عبدالله حبيب وهو يطلق النداء [أين أنت؟؟] ..
قرأت في هذا الكتاب وفاءً جميلا، وفاءً من نوع خاص للأستاذ وللأستاذية، وفاء القارئ لكاتبه. ولمن لم يدخل الوسط الثقافي العُماني على الطريقة الكلاسيكية فمن الصعب أن يفهم هذا النوع من [التتلمذ]، في عمان يتم التتلمذ بالطريقة الكلاسيكية القديمة، أن تختار أستاذا، أن تخلص له إن أخلص لأفكاره ومبادئه التي علمها لك، أن تقف معه في السراء والضراء، وأن تحترم تاريخه وإرثه الأدبي. كان الكتاب في كله وفي مجمله يدور حول الأستاذ، في تضحية جاءت كهدية من كاتب للقراء، وليس من كاتب للكاتب.
وليد قدم الكتاب [كهدية] للعالم قبل أن يكون هدية لعبد الله حبيب. هدية اسمها [عوالم عبد الله حبيب الداخلية]، وكما بدأ الكتاب إلى أن انتهى، كان وليد [ضيفا خفيف الظل] يكتفي بالقلق على أستاذه، ويبقي الكلمات المرّة في فمه ولا يقولها، الكلمات التي لم ينطقها وليد وقال نيابة عنها: أرجوك لا تمت.
خاتمة/مرافعة نهائية
أطالب أيها القاضي الكريم ببراءة المتهم وليد الشعيلي مما أسند إليه من تهم، وأطالبك أيها [القاضي / القارئ] الكريم أن تقرأ الكتاب لتجد الوفاء الرائع للأستاذية، كانت هدية جميلة من شابٍّ كان يمكنه أن يستغل هذا الكتاب للوصول إلى أشياء كثيرة، فالحرف الذي صدر من عبد الله حبيب له مكانه ومكانته، ولكنه لم يفعل، كانت هدية لنا نحن الذين نحب عبد الله حبيب [دون أن نفهمه]. هدية وضحت لنا عوالم هذا الكاتب العُماني، الرمز الذي خرج مؤخرا من تجربة صعبة.
وإن كان وليد الشعيلي يقول لعبد الله حبيب: أرجوك لا تمت.
أقول لعبد الله حبيب: توقف عن قتل نفسك ..
ليس لأننا نحبك ..
لكن لأن هذه الحياة تستحق أن تعاش.
شارك هذا المقال:
تأملات صديقة في كتاب وليد الشعيلي أرجوك لا تمت ” مراسلات إلكترونية مع عبد الله حبيب”
- خبر
-
مشاركة