من سجلات مستشفى الأمراض الشعرية

    • خبر
    • من سجلات مستشفى الأمراض الشعرية

      Atheer News كتب:

      صادق الطريحي

      من حسن حظي أن الأمم المتحدة قد اختارتني لأكون قيماً على مستشفى الأمراض الشعرية، ومتولياً لأوقافه، وهي وظيفة مرموقة ولله الحمد؛ لأنها لا تخضع للمحاصصة الطائفية البغيضة، أو للولاءات الحزبية والشخصية، ولكن من سوء حظ أسرتي أنها ليست وظيفة مرموقة؛ لأنها لا تتوارث في الأسرة الواحدة كما هو متعارف عليه في سدانة المساجد والتكايا، وإدارة أوقاف الطوائف المحروسة بأموال النذور والهدايا والمشاريع الاستثمارية وغير الاستثمارية.

      تتلخص مهمتي في تسجيل الوافدين إلى المستشفى، وإرشادهم إلى أقسامه، والتعريف بأنظمته، وتعريف بعضهم ببعض، ثم تقديم تقرير فني عن التقدم الذي يحرزه الوافدون في التسامح وفن الحوار، وتقبل الآخر، وأساليب العلاج التي يبتكرونها، وأهم الإنتقادات التي يوجهونها إلى أعمالهم، ومعتقداتهم، فضلاً عن الأنشطة الشعرية التي يقيمها المستشفى في الأيام البيض التي تحددها الأمم المتحدة المحروسة بسلطة الخمسة الكبار، والشركات العابرة وغير العابرة.

      في اليوم الأول لاستلامي الوظيفة وأنا في سبيلي إلى قسم الأمراض الشعرية المزمنة، لاح لي رجل في الستينيات من عمره، كان جريحاً كما يبدو، ولكنه ما زال يحتفظ بقوته وظرافته وهو يحادث إحدى الممرضات العراقيات الجميلات ـ وكل العراقيات جميلات ـ  فما إن وصلت إليه حتى التفت إلي قائلاً:

      ـ دعك الآن مني، لست جريحاً كما تظن، لكنني أظن أنني شاهدت هذه الآنسة من قبل.

      وهنا قالت الممرضة بغنج :

      ـ يقول السيد إنه شاهدني في كنيسة السريان في الباب الشرقي، وأنا لم أدخل هذه الكنيسة كما تعرف، والدي شماس في كنيسة سيدة الزهور في الكرادة.

      وسرعان ما عرفت أن السيد الحبوبي لا يكذب، فقلت :

      ـ لقد توهم الشاعر حتماً، لقد شاهد إبان تواجده في بغداد مسبقاً نساء كثيرات، ولا شك في تشابهكن في رقة البشرة وسحر الأناقة …

      فقاطعني الحبوبي قائلاً :

      ـ أرجو أن تسجلني ضمن قائمة الفقهاء، فقد تركت الشعر وأنا في الأربعين … ولكن، لا … لا، دعني قليلاً مع الشعراء، سأقول غزلاً في هذه النصرانية البغدادية …

      وهنا تركنا الحبوبي وهو يردد بعض الشعر، فشكرت الممرضة على حسن تصرفها معه وتبعته مسرعاً كي أرشده إلى جناحه الخاص مع الشريف الرضيّ حيث قرنه الشيخ محمد مهدي البصير به ” لأنهما يتشابهان تشابهاً قوياً … فكلاهما شاعر فحل، وكلاهما طريف الغزل عفيفه إلى حد بعيد ”  ولكنه وصل قبلي إلى جناح النقاد وهو يردد :

      فاسقني كأساً، وخذ كأساً إليك         فلذيذ ُ العيش أن نشتركا

      فلقيه الدكتور يوسف عز الدين، معتذراً إليه بلطف عن كلام قاله في (الشعر العراقي في القرن التاسع عشر) فقلت : ما أحرى أن ندرس في هذا البيت قيمة المشاركة في العيش، واحترام خيارات الشخص الآخر! فوافقني على ذلك، وهنا سأله الشاعر الحبوبي برفق إن كان قد دخل قصر آل كبة في وقت ما؟ فقال مجيباً :

      أعف عني واقفاً بين يديك    أيها المشرف من عالي الذرا

      وما أسرع ما حضر الدكتور علي عباس علوان، يحيط به ـ فضلاً عن تلامذته ـ  عدد من العاملين في شارع الشيخ عمر، لأنه نقل في منتصف الثمانينيات من التدريس في جامعة بغداد إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فسأله الفقيه الحبوبي مبتسماً إن كان قد عاش في بيئة لا يرى النساء فيها؟ فقال مباشرة :\

      إن نبراس الهوى وقف عليك           أنت في الحب ترى ما لا نرى

      فشكرهما الحبوبي كثيراً، ودعا لهما بطيب الإقامة في المستشفى، وسألني هامساً عن قائل هذين البيتين، وفي أي مناسبة قيلا؟ فقلت له : لم يعد الشعر الحديث يقال في مناسبات الزفاف والختان، ولكن دعنا نذهب إلى جناحك، وسنتحدث هناك بالشعر، فأنت متعب الآن، وليس من المفيد أن تشغل وقتك مع النقاد.

      فاطمأن الشاعر إلى إجابتي، وقال إن النقاد في زماننا هم الشعراء، ورجاني أن أصطحبه في أقرب وقت إلى تلك الكنيسة التي شاهد فيها الفتاة التي تمنى أن يربع فيها الأقانيما! فوعدته خيراً … وفيما نحن في طريقنا إلى جناح الشريف الرضيّ، وجدنا الدكتور محمد مهدي البصير، وقد رد إليه بصره، واستغنى عن مساعده الذي يقرأ له إجابات الطلبة، فعرف أحدهما الآخر، وبادره الشاعر البصير مسلماً عليه، ومعتذراً عن ركة قصيدته التي رثاه بها، فقد كان في فجر شبابه، فقال الحبوبي : لقد لمستُ شعورك وأسفك عليّ، وبصرك اليوم حديد! والشاعر من يعرف قيمة قصيدته، فكيف رُدّ إليك بصرك؟ فأجاب الناقد البصير : بفضل الطب الحديث والخلايا الجذعية، وليس بفضل العراق الجديد!! ولولا أن دار بابل للثقافات والفنون والإعلام قد أعادت طبع كتابي (خطرات) لما جربت العلاج في هذا المستشفى!!

      فسكتُّ، ولم يشأ محمد سعيد الحبوبي أن يسأل أكثر، ولكنه لم ينس أن يسأله عن قائل البيتين، فقال الأستاذ البصير : إنه عبد الرزاق عبد الواحد وهو شاعر ميساني من طلبتي في دار المعلمين العالية ـ طيب الله ذكراها ـ وقد ترحم عليّ في قصيدته الموشحة هذه، فقال الحبوبي بحسرة : رحم الله أبا إسحاق الصابي، أترانا سنجده عند الرضيّ، أم أن الشريف مشغولٌ بشيء آخر؟

       والحق أن الشريف الرضيّ كان مشغولاً بشيء آخر، ليس هو التغزل بالنساء العراقيات اللواتي تطوعن للتمريض في هذا المستشفى، بل للدفاع عن غزله الحجازي من المحو، فقد ارتاد الديار الحجازية من ليس له حظ من الفقه والأدب والمدرسة واللغة والسياسة، فصار حاجاً، وصار … وهو لا يحسن غير الـ …

      ومررنا بأبي إسحاق الصابي، فإذا هو مشغول أيضاً، فقد ذهب يتفقد أقرباءه في بغداد، فلم يجدهم، وخشيت أن أصطحب السيد الحبوبي إلى الكنيسة فيظن أحدهم ما يظن، فآثرت أن أغلق هذه الصفحة بسؤال شيخي البصير : ما بالنا نحسن المعارضة أحياناً ولا نحسن الحكم أبداً؟ فقال : “لأن المعارضة كلام والحكم عمل”.

      المشاهدات 3 3 مشاهدات اليوم

      Source: atheer.om/archives/50490/50490/