شئٌ من طفولته (5)
شُهرَ عن صاحبي -صغيراً- استغراقُه في التفكير حتى يذهلَ عن عالمِه المحيطِ به، فلا ينتبه لمن يحدّثُه، أو لما يحدثُ جانبَه!
من ذلك أنه كان يوماً عائداً من مدرستِه، و كانت الحافلةُ -و قد استُبدلت الحافلاتُ بالسيارات- تُنزلُه في نقطةِ تجمّعٍ تبعد عن بيته.
و كانت طريقه بين البيت و تلك النقطة تمرّ بين حدائق نخلٍ سامقة، و سواقٍ يجري عليها ماء الفلج لسقي تلك الحدائق في أوقاتٍ محددة، و شجرة "أمبا" عظيمةٌ هائلة، كانت في وقت ثمارها يسقط منها الكثير من حبات "المانجو" اللذيذة، لذا كان الكبار و الصغار على السواء يتسابقون في المرور عليها ليظفروا بما تجود به تلك الشجرة عليهم!
و حائطٍ طينيّ قديمٍ مائل يميل على الطريق، كانت أمّه كثراً ما تنبّهه بالإسراع حين المرور عليه خوفاً من سقوطه!
و قنطرة على الفلج المشهور يقطع بها ذلك الفلج، و على جانب القنطرة و غير بعيدٍ عنها "مجازةٌ" نساء، كانت "المجازة" عبارة عن حجرةٍ طينية بنيت فوق الفلج لتستخدمها النساء للإغتسال بعيداً عن الأعين، و لطالما تفكّرَ صاحبي كيف تبدو "المجازة" من الداخل؟ و لم يتمكّن من معرفةَ ذلك إلا بعد سنين طويلة و بعد أن هُجرت "المجازة" و لم تعد تُستخدم، و سقط جانبٌ منها! لم يكن داخلها ما يسترعي الإنتباه، فالفلج يقطع منتصفها، و على الحائط أوتاد لتعليق الملابس.
كان صاحبي عائداً من المدرسة متجها إلى البيت، مخترقا تلك المزارع، مستغرقاً في التفكير كعادته، و لم ينتبه إلا و هو يصطدم بجذع نخلة عظيمة على جانب وجهه اليمين! و ملئ ما حول عينه اليمنى خدوشاً و جروحا
حين وصل إلى البيت، لم يصدّق أحدٌ روايتَه، و اتُّهمَ بأنّه انخرطَ في عراكٍ بالمدرسة نتج عنه تلك الخدوش و الجروح!! الشئ الذي لم يستطع الجميع تفسيره، هو كيف لصاحبي المعهود بالهدوء و البعد عن المشاكل أن ينخرط في عراكٍ كهذا؟!
بالنسبةِ لصاحبي فإنّه تمسّك بروايته، ثمّ لاذ بالصمت حين تمّ تكذيبُه!
ما لا يعرفُهُ أحدّ سواي، أن صاحبي كان كثيراً ما يقفُ أمام المرآة، ممعناً النظر في عينيه، و يسأل نفسه: من أنا؟ و ما أنا؟!!
و يستغرقُ في التفكير، حتى تصيبه حالةٌ ينسى فيها اسمه، و يرحلُ فيها عن عالمه، و يبدو كأنه شخصٌ آخر ينظر من بعيد إلى ذلك الشخص الواقف أمام المرآة
و يصابُ بصداعٍ شديد، يكاد أن يخلّفه مجنوناً، فلا يملك ليعودَ إلى رشده إلا أن يضرب رأسه بالمرآة ثم يبتعد مسرعاً عنها، فإذا هو هو من جديد!!!
كبرَ صاحبي، و تعلّم القراءة، و أصبح الإستغراق في القراءة و الذهول بها عن المحيط بديلا عن الوقوف أمام المرآة.
											

 
