ليلة غاب فيها القمر...روووووعة...

  • امتلأ البيت بحركة مريبة، الهاتف لم يتوقف عن الرنين وأصوات مختلطة بدأت ترتفع بعد أن كانت همهمة، كُلنا قَلِق خائف حزين، كيف لا والأمر يتعلق به بذلك الإنسان الفريد؟ الكل قلق خائف، ما عداه هو بقي كما عهدناه دائماً مبتسماً حنوناً صابراً.
    وفي مجلسه المعتاد عند المدفأة جلس يحتسي فنجان قهوته بصمت، تحلَّقنا حوله محدِّقين في الأرض واجمين، بدأت أمي بالحديث محاولة كسر هذه الدائرة المرعبة.
    حديث متقطع يتلوه سكون، وهو ما يزال صامتاً،
    كانت أختي الصغيرة تجاهد لإخراج التمر المكنوز من علبته.. كان دبقاً، ملتصقاً، أشقر بلون العسل،
    الصنف الذي يفضله... أشارت إليَّ أن تعالي تولي مهمة إخراجه.. فقلت لها ممازحة: بل أنت من بدأت هذا فأكمليه.
    فصاحت مغتاظة: بل أنت من ستقوم بذلك، قلت: بل أنت.
    ابتسم وقال: أنتما كسعيد وسعيدة. قلت في نفسي: يا لسعادتي! لقد عاد للحديث، ولرواية حكاياته الممتعة،
    إنه بخير إذن، ابتسمت وقلت: وما حكاية سعيد وسعيدة؟
    الكل رفع رأسه بفرح غامر؛ فقد عاد لنا مرة أخرى. رشف رشفة من فنجانه، ثم مدَّه لي لأملأه مرة أخرى.
    ثم قال: سعيد وسعيدة زوجان يعيشان في فقر مدقع. لم يكن لديهما إلاَّ (قُلّة)[1] صغيرة من تمر، وكان التمر متيبساً جافاً يصعب إخراجه، فتشاجرا كلٌّ يطلب من الآخر أن يُخْرِج التمر، وفي آخر الأمر اتفقا على الصمت، ومن يتكلم أولاً، فعليه إخراج التمر.
    بدأت لعبة الصمت.. وكل منهما يَحدِج الآخر بنظرة غاضبة... مَرَّ بجوارهما ضيف مسافر، فسلَّم، فلم يَرُدَّ السلام عليه أحد!
    فقال: أنا مسافر جائع يا أهل الدار! فهل من قِرَى؟
    فلم يتلق إجابة على سؤاله إلا نظرات صامتة.وسعيد يُحدِّق في سعيدة، وسعيدة تحدق في سعيد،
    رشف رشفة أخرى من فنجانه ثم تابع: عندها يئس الرجل، فأخذ (قُلّة) التمر الجافة وخرج بها مسرعاً، نظرت سعيدة لسعيد أن أنقذ التمر... ثم صرخت: سعيد... التمر... الْحَق بالرجل.
    فابتسم سعيد وقال: لقد خسرتِ! وأنتِ من سيُخرج التمر من القلة! ابتسمنا لسذاجة هذين الزوجين، وابتسمنا لبسمته... وانحدر شلال الحديث عذباً صافياً.
    وفجأة سكت وأمسك برأسه بين يديه، عرفنا حينها أنها نوبة صداع جديدة... فعاد الوجوم من جديد، لم يكـن يشكــو أو يتأوه أو يتألم. بل كان يحوقل ويسبِّح... ويرفع صوته بالذكر، فندرك بذلك أن الألم قد ازدادت وطأته وقويت سطوته، فنسأله بقلق المحب: أأنت بخير؟ فيرفع رأسه بثبات: نعم! نعم! أنا بخير من الله وفضل... الحمد لله على كل حال.
    وفي ظُلْمة الليل كنت أتقلب في الفراش، أحاول عبثاً أن أنام. لا فائدة، استويت جالسة وضغطت على مفتاح الإنارة، أخذت كتاباً وفتحته، وما لبثت أن أغلقــته بسأم، واستلقــيت انظر إلى سقف الغرفة بلا هدف، القلق ينهش قلبي، والألم يعصر روحي،
    رباه! ماذا أفعل؟
    وبهدوء تسلل إلى أذني صوت نَدِيٌّ عذب يُرتِّل آيات من الذكر الحكيم، إنه هو...
    أعرف هذا الصوت جيداً، فمذ كنت طفلة وأنا أسمعه في كل ليلة، وأراه واقفاً في خشوع مصلياً، داعياً، باكياً، ولكني لم أتوقع أن أسمعه هذه الليلة، كيف، وهو بهذه الحال؟
    أخذت أتابعه وقد غمرني هدوء لذيذ، وسَكِينَة عجيبة، ورحت في نوم عميق.
    وبدأت رحلة العلاج، من طبيب لآخر، ومن مشفى هنا إلى مشفى هناك، وبدأنا نسمع أصواتاً قلقة تقول:
    - الطبيب لم يعرف مرضه.
    - أعطاه علاجاً مُسكِّناً فقط.
    - الطبيب الآخر أفضل، لماذا لا يُفْحَص عنده؟
    - يجــب أن نذهـب به إلى مستشفيات العاصمة، إنها أفضل.
    نقاش خانق مستمر، وآراء متضاربة، وحَيْرة وقَلَق... التفتُّ إليه فوجدته ساكناً مغمضاً عينيـه ويُسبِّـح بأصابعه، لا أدري كيف يتحمل هذا الأمر؟ وأنى له بهذا الصبر؟
    أن تتحول بين عشية وضحاها من إنسان قادر معتمد على نفسك، إنسان حر تذهب كيف شئت ومتى شئت، إنسان متعافٍ نشيط، إلى كومة من آلام؛ تسير تتخبط في عالم مشوَّش، معتمــداً علـى ذراع غيــرك... إنه لأمــرٌ صعــبُ لا تتحمله الجبال.
    وعصر اليوم تَقَرََّر ذَهابُه إلى العاصمة للعلاج. طفقت أمي تجمع له بعض أغراضه وترتِّب حاجياته، وهي لا تكفُّ عن إعطائه الأوامر محاولة إرغامه على أكل شيء قبل السفر.
    - كُل فأنت لم تأكل منذ الأمس إلاَّ تمرات... اشرب هذا الحليب المحلَّى بالعسل؛ فهو خفيف على معدتك... وهذه شابورة لذيذة... أتريد قطعة خبز... أم أجهز لك قرصاً صغيراً من البُر...؟
    وأمام هذا الإصرار أخذ الكأس ورشف منه رشفة ثم أعاده مكتفياً بذلك، ونحن نحوم حوله وندور بلا هدف ولا غاية. نمسك بهذا الثوب... نطويه... ثم ننشره... نُدْخِل قميصاً في حقيبته ثم نخرجه ونستبدل به قميصاً آخر، نملأ الحقيبة ثم نُفْرِغها؛ لنتأكد أننا لم ننس شيئاً... ثم نملؤها من جديد وما نلبث أن نفرغها...
    وحانت ساعة الرحيل... وقفنا كالطابور أمام الباب.. قَبَّلْنا رأسه عِدَّة مرات ونحن نتمتم بدعاء مختلط... نمسك بصعوبة عَبْرةً تتردد في الصدور، وقفنا نرقُبُه وهو يركب السيارة، ابتسم لنا ورفع يده مودِّعاً، ركب وأغلق الباب، ولم ينظر للخلف مطلقاً،
    اختفت السيارة في الأفق، ونحن ما زلنا ممسكين بمِقْبَض الباب مُحدِّقين في الفراغ.
    وفي المساء، أوى كلٌّ منا إلى فراشه بصمت، والتحف بغطائه، متظاهراً أنه يغطُّ في نوم عميق، ولكن السعيد هو من ينام «قرير عين» ونحن ودعنا السعادة حينما ودعناه.هذا مجلسه خالٍ، وهذا فِراشه خاوٍ، لم ندرك حجم وجوده في حياتنا إلاَّ عندما فقدناه، كان موجوداً دائماً لأجلنا حتى أصبح وجوده أمراً مسلَّماً به، مفروغاً منه، حقيقة من حقائق الحياة.
    أذكر عندما كان أخي الصغير يبكي في الليل من ألم في رجله، كان يستيقظ وينفث عليه، ويقرأ سورة الفاتحة حتى يهدأ وينام. وإلاَّ ركب سيارته ودار به يسلِّيه حتى يسكن. وكان أخي يبكي كل ليلة، وكان يفعل ذلك كل ليلة.
    كلٌّ منا يعلم، سواء أكان سعيداً، أم مهموماً، أم متضايقاً، أم مريضاً، أم فرحاً، أم محتاجاً أيَّ شيء... أي شيء؛ فإنه هنا لأجله تراه صدراً حنوناً، وعقلاً راجحاً، وقلباً طيِّباً، ورأياً صائباً مستعداً دوماً للمشاركة والعون.
    بدا الليل طويلاً بلا نهاية، وبدت أركان البيت باكية حزينة... طفقت أدور وأفتش عن شيء لا أدرك كنهه...
    مررت بغرفة أختي وجدتها متكومة داخل اللِّحاف وصوت نشيج مكتوم ينبعث من داخله.
    رثيت لها وبي مثل ما بها.
    رأيت غرفة أخي مضاءة فطرقت الباب ودخلت، وجدته يعبث بجواله، سألته: لِمَ لَمْ تنم؟ الوقت متأخر... رد بصوت حاول أن يجعله حازماً خشناً: لا أشعر برغبة في النوم.
    ثم أردف: أنتِ لِمَ تنامي حتى الآن أليس الوقت متأخراً؟
    فاجأني بسؤاله، تلعثمت قليلاً ثم قلت: أنا... أنا سأنام الآن، لكن أحببت أن أطمئن عليكم قبل نومي
    ردَّ قائلاً: نحن بخير. أريحينا فقط من دورية التفتيش الليلية
    بدا صارماً جادّاً غير متأثر...
    يا له من قاسي القلب متحجر الفؤاد! ألم يفقده كما فقدناه؟ أمسكت مقبض الباب لأغلقه، فإذا بصــوت يقول: لا تقلقي سيكون بخير. نظرت إلى أخي... إلى عينيه فرأيت دموعاً تتلألأ توشك أن تسقط وهو يدافعها، أغلقت الباب بسرعة وهربت إلى الصالة الكبيرة.
    لاح لي باب غرفة أمي مغلقاً على غير العادة، اقتربت منه. فإذا بي أسمع صوتاً رتيباً مرتفعاً... إنها إذاعة القرآن الكريم
    إذن هي الأخرى لم تنم، همَمْت بطرق الباب، ثم فضَّلتُ الانسحاب.
    عُدتُ إلى غرفتي، ارتميت على فراشي... أحس بفراغ وخواء... حرقة شديدة داخلي ونار تستعر، ألم مُمِضٌّ وروح كئيبة يائسة صمت قاتل...وهدوء مقيت
    وفجأة بدا لي أنني أسمعه! صوت نديٌّ عـذب يرتِّل آيات كريمة بخشــوع. نظرت إلى الساعة المعلقة...
    نعم إنه هو... الساعة نفسها... الصوت نفسه.
    قفزت بلهفة وانطلقت راكضة إلى مصلاه، وهناك في الصالة الكبيرة بجانب شجرة الزينة الضخمة؛ حيث اعتاد أن يصلي دائماً.. وجدت سجادته المهترئة القديمة، والتي رفض بشدَّة أن يغيِّرَها. كانت ما تزال مفروشة باتجاه القبلة وبجانبها مصحفه الكبير.
    ولأول مرة منذ أن عرفتُ معنى الحياة أرى هذين وحيدين من دونه، وبخشوع تعلمته منه وقفت على سجادته ويمَّمت وجهي نحو البيت العتيق والدموع تغسل وجهي وتتساقط على سجادته وتمتمت ضارعة: ربــــــــــاه! احفظ (أبي) وأعده إلينا سالماً.
    النور من عينيك يخبو يا أبي
    والقلب من فرط الأسى يتمزقُ
    والرأس تسنده بكف واهن
    قد كان غضّاً بالنضارة يُشرِقُ
    وعيوننا أبتاه! ترنو للسما
    بإلهنا حبل الرجا متعلقُ


    314 ﻣﺮﺓ ﻗﺮﺃ

التعليقات 0

  • RIYAMI 1001 -

    كلمات جميلة..