نبذة من ترجمة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي
أسمه ومولده:-
هو العالم الجليل قدوة المحققين، وعمدة المدققين، صدر العلماء العاملين، الإمام المحدث، التقي الزاهد، والفاضل العابد، أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن جامع الهرري[1] الشيبي[2] العبدري[3]، مفتى هرر.
ولد في مدينة هرر عاصمة بلاد الحبشة[4] حوالي سنة 1910ر، وكانت هرر تسمى قلعة الإسلام في تلك البلاد لكثرة العلماء فيها وتمسك أهلها بأحكام الدين الإسلامي، و نسب الشيخ الأصلي يعود إلى بني شيبة وهم بطن من عبد الدارمن قبيلة قريش.
نشأته ورحلاته:
نشأ في بيت متواضع مُحباً للعلم ولأهله، فحفظ القرءان الكريم استظهارا وترتيلاً وإتقانا وهو ابن سبع سنين، ثم عكف على الاغتراف من بحور العلم فحفظ عددا من المتون في مختلف العلوم، ثم أولى علم الحديث اهتمامه فحفظ الكتب الستة وغيرها بأسانيدها حتى إنه أجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشرة، ولم يكتف بعلماء بلدته وما جاورها بل جال في أنحاء الحبشة والصومال لطلب العلم وسماعه من أهله، وله في ذلك رحلات عديدة لاقى فيها المشاق والمصاعب، غير أنه كان لا يأبه بها بل كلما سمع بعالم شد رحاله إليه ليستفيد منه، وهذه عادة السلف الصالح، وساعده ذكاؤه وحافظته العجيبة على التعمق في الفقه الشافعي وأصوله ومعرفة وجوه الخلاف فيه، وكذا الشأن في الفقه المالكي والحنفي والحنبلي حتى صار يشار إليه بالبنان وتشد الرحال إليه من أقطار الحبشة والصومال.
أخذ الفقه الشافعي وأصوله والنحو عن العالم النحرير الشيخ محمد عبد السلام الهرري والشيخ محمد عمر جامع الهرري والشيخ محمد رشاد الحبشي والشيخ إبراهيم أبي الغيث الهرري والشيخ يونس الحبشي والشيخ محمد سراج الجبرتي، ومن المتون التي حصلها على هؤلاء ألفية الزبد و التنبيه والمنهاج و اللمع للشيرازي وألفية ابن مالك وغير ذلك من الأمهات.
وأخذ علوم العربية بخصوص عن الشيخ الصالح أحمد البصير والشيخ أحمد بن محمد الحبشي وغيرهما، وقرأ فقه المذاهب الثلاثة وأصولها على الشيخ محمد العربي الفاسي[5] والشيخ عبد الرحمن الحبشي.
وأخذ علم التفسير عن الشيخ شريف الحبشي في بلده جمة، وأخذ الحديث وعلومه عن كثير من أجلهم الشيخ أبو بكر محمد سراج الجبرتي مفتي الحبشة والشيخ عبد الرحمن عبد الله الحبشي وغيرهما، ثم اجتمع بالشيخ الصالح المحدث القارئ أحمد بن عبد المطلب الحبشي، شيخ القرّاء في المسجد الحرام[6]، فأخذ عنه القراءات الأربع عشرة واستزاد منه في علم الحديث، ثم أخذ من الشيخ داود الجبرتي القارئ.
وقد شرع يُلقي الدروس مبكرا على الطلاب الذين ربما كانوا أكبر منه سناً فجمع بين التعليم والتعلم، وانفرد في أرجاء الحبشة والصومال بتفوقه على أقرانه في معرفة علم تراجم رجال الحديث وطبقاتهم، وحفظ المتون والتبحر في علوم السنة واللغة والتفسير والفرائض وغير ذلك، حتى إنه لم يترك علماً من العلوم الإسلامية المعروفة إلا درسه وله فيه باع .
ثم أم مكة فتعرف على علمائها كالشيخ العالم السيد علوي المالكي والشيخ أمين الكتبي، وحضر على الشيخ محمد العربي التبان، واتصل بالشيخ عبد الغفور النقشبندي فأخذ منه الطريقة النقشبندية.
ورحل بعدها إلى المدينة المنورة واتصل بعلمائها فأخذ الحديث عن الشيخ محمد بن علي الصديقي البكري الحنفي، ثم لازم مكتبة عارف حكمت والمكتبة المحمودية مطالعا منقباً بين الأسفار الخطية مغترفاً من مناهلها فبقي في المدينة مجاورا سنة، أما إجازاته فأكثر من أن ندخل في عددها وأسماء المجيزين وما مع ذلك.
ثم رحل إلى بيت المقدس في أواخر العقد الخامس من هذا القرن ومنه توجه إلى دمشق فاستقبله أهلها بالترحاب، لاسيما بعد وفاة محدثها الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، فتنقل في بلاد الشام بين دمشق وبيروت وحمص وحماة وحلب وغيرها من المدن، ثم سكن في جامع القطاط في محلة القيمرية، وأخذ صيته بالانتشار فتردد عليه مشايخ الشام وطلبتها وتعرف على علمائها واستفادوا منه وشهدوا له بالفضل وأقروا بعلمه، واشتهر في الديار الشامية " بمحدث الديار الشامية" " وخليفة الشيخ بدر الدين الحسني".
ثناء العلماء عليه:
وقد أثنى عليه العديد من علماء وفقهاء الشام منهم:
1- الشيخ عز الدين الخزنوي الشافعي النقشبندي من الجزيرة شمالي سوريا رحمه الله
2- الشيخ عبد الرزاق الحلبي إمام و مدير المسجد الأموي في دمشق.
3- الشيخ أبو سليمان الزبيبي.
4- الشيخ ملا رمضان البوطي .
5- الشيخ أبو اليسر عابدين مفتى سوريا رحمه الله .
6- الشيخ عبد الكريم الرفاعي.
7- الفقيه الحنفي الشيخ سعيد طناطرة.
8- الشيخ أحمد الحصري شيخ معرة النعمان ومدير معهدها الشرعي.
9- الشيخ عبد الله سراج الحلبي.
10- الشيخ محمد مراد الحلبي.
11- الشيخ الدكتور صهيب الشامي أمين فتوى حلب .
12- الشيخ عبد العزيز عيون السود شيخ قراء حمص رحمه الله .
13- الشيخ أبو السعود الحمصي.
14- الشيخ فايز الديرعطاني نزيل دمشق جامع القراءات السبع فيها رحمه الله.
15- الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت الدمشقي رحمه الله .
16- الدكتور الحلواني شيخ القراء في سوريا.
17- الشيخ أحمد الحارون الدمشقي الولي الصالح رحمه الله.
18- الشيخ طاهر الكيالي الحمصي وغيرهم نفعنا الله بهم.
ومن خارج الشام: أثنى عليه الشيخ عثمان سراج الدين سليل الشيخ علاء الدين رحمهما الله شيخ النقشبنديه في وقته، وقد حصلت بينهما مراسلات علمية وأخوية.
والشيخ عبد الكريم البياره المدرس في جامع الحضرة الكيلانية في بغداد، والشيخ أحمد الزاهد.
والشيخ محمود الحنفي من مشاهير مشايخ الأتراك العاملين الآن بتلك الديار.
والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي محدث الديار الهندية رحمه الله اجتمع به مرات عديدة واستضافه.
والشيخ عبد الله بن صديق الغماري محدث الديار المغربية .
أخذ الإجازة في الطريقة الرفاعية من الشيخ عبد الرحمن السبسبي، والشيخ طاهر الكيالي، والإجازة في الطريقة القادرية من الشيخ أحمد العربيني رحمهم الله تعالى.
قدم إلى بيروت عام 1370 هـ – 1950 ر، فاستضافه كبار مشايخها أمثال الشيخ القاضي محي الدين العجوز رحمه الله ، والشيخ المستشار محمد الشريف رحمه الله ، والشيخ عبد الوهاب البوتاري إمام جامع البسطا الفوقا، والشيخ أحمد إسكندراني رحمه الله إمام ومؤذن جامع برج أبي حيدر ولازمه واستفاد منه، ثم اجتمع بالشيخ توفيق الهبري رحمه الله وعنده كان يجتمع بأعيان بيروت، وبالشيخ عبد الرحمن المجذوب رحمه الله ، واستفادوا منه، و بالشيخ مختار العلايلي رحمه الله أمين الفتوى السابق الذي أقر بفضله وسعة علمه وهيأ له الإقامة على كفالة دار الفتوى في بيروت ليتنقل بين مساجدها مقيماً الحلقات العلمية وذلك بإذن خطي منه، وفي سنة 1389هـ -1969ر وبطلب من مدير الأزهر في لبنان حاضر في التوحيد في طلاب الأزهر.
سلوكه وسيرته:-
الشيخ عبد الله الهرري شديد الورع، متواضع، صاحب عبادة، كثير الذكر، يشتغل بالعلم والذكر في آن واحد، زاهد طيب السريرة، لا تكاد تجد له لحظة إلا وهو يشغلها بقراءة أو ذكر أو تدريس أو وعظ أو إرشاد، عارف بالله متمسك بالكتاب والسنة، حاضر الذهن قوي الحجة ساطع الدليل، حكيم يضع الأمور في مواضعها، شديد النكير على من خالف الشرع، ذو همة عالية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى هابه أهل البدع والضلال وحسدوه، لكن الله يدافع عن الذين ءامنوا.
هذا ما كان من خلاصة ترجمته الجليلة، ولو أردنا بسطها لكلت الأقلام عنها وضاقت الصحف ولكن فيما ذكرناه كفاية يستدل به كما يستدل بالعنوان على ما هو في طي الكتاب.
تصانيفه وآثاره:
شغله إصلاح عقائد الناس ومحاربة أهل الإلحاد وقمع فتن أهل البدع والأهواء عن التفرغ للتأليف والتصنيف، ورغم ذلك ترك أثاراً ومؤلفات قيمة منها:-
1- الصراط المستقيم في التوحيد - طبع
2- النهج القويم شرح الصراط المستقيم - طبع
3- الدليل القويم على الصراط المستقيم.
4- شرح العقيدة النسفية - طبع
5- شرح العقيدة الطحاوية – طبع
6- قصيدة في الاعتقاد تقع في ستين بيتاً.
7- المقالات السنيه في كشف ضلالات أحمد بن تيميه - طبع
8- الغارة الإيمانية في كشف مفاسد التحريرية.
9- النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي، توحيد عقيدة.
10- شرح ألفية الزبد في الفقه الشافعي.
11- شرح متن أبي شجاع في الفقه الشافعي.
12- شرح متن العشماويه في الفقه الملكي.
13- مختصر عبد الله الهرري الكافل بعلم الدين الضروري – طبع .
14- بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب – طبع .
15- صريح البيان في الرد على من خالف القرءان – طبع .
16- شرح ألفيه السيوطي في علم مصطلح الحديث.
17- التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث – طبع.
وقد رد فيه على الألباني وفند أقواله، وقد حصل هذا الكتاب على تزكية محدث الديار المغربية الشيخ عبد الله الغماري رحمه الله فقال: "هو رد جيد متقن".
18- نصرة التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث
– طبع .
19- شرح البيقونية في مصطلح الحديث.
20- أسانيد الكتب السبعة، وفيه يذكر الشيخ عبد الله أسانيده للكتب السبعة وغيرها- طبع .
21- الروائح الزكية في مولد خير البرية – طبع .
22- شرح الأجرومية في النحو.
التعريف بالمنهج العلمي الذي يدرسه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي :-
أعلم أخي المسلم أن الشيخ عبد الله الهرري لم يأت بجديد على الإطلاق، وليس صاحب مذهب مستحدث، إنما مذهبه مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وكتبه على مذهب الإمام الشافعي، وفتاويه لا تخرج عن المذاهب المعتبرة لأهل السنة والجماعة، وما حصل أن خالف إجماع المسلمين ولو في مسألة واحدة لأنه يعتبر الإجماع حجة في الشرع بعد كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن كتبه ودروسه ومحاضراته تزخر بما أقره الأئمة الأعلام المعتبرون في علوم الدين المختلفة.
وسنعرض هنا عدة مسائل على سبيل الذكر لا الحصر مما يعتني الشيخ عبد الله بتعليمه لأهميتها وكثرة المشوشين حولها.
أولاً: الحث على طلب العلم الشرعي وتعلم الفرض العيني:-
يحث الشيخ عبد الله الهرري طلابه على التزود من العلم الشرعي وتعلم ذلك القدر من علم الدين الذي لا يعذر مسلم بجهله، والذي سماه العلماء بالفرض العيني، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:-" طلب العلم فريضة على كل مسلم"[7] أي علم الدين الضروري الشامل لمعرفة الله ومعرفة رسوله وغيرهما من ضروريات الاعتقاد، والشامل أيضا لمعرفة أحكام الصلاة والطهارة شروطاً وأركانا ومبطلات وغيرهما من ضروريات علم الدين.
فالشيخ يحرص على تعليم العلم الشرعي بطرق وأساليب الفقهاء والمحدثين والحفاظ، وليس بالاعتماد فقط على المطالعة من الكتب لاحتمال الدس عليها أو السقط المخل بالمعنى.
ثانياً:- الاهتمام بعلم التوحيد:-
إن العلم بالله وصفاته أجل العلوم وأعلاها رتبة وأوجبها تحصيلاً وأولاها اعتناء ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة.
قال الله تعالى:- ] فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك[ (سورة محمد/19)، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار.
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم، فقال:' أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له'[8]،
ثالثاً:- تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين:-
ومما يهتم به الشيخ عبد الله الهرري تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين سنده في ذلك هو سند من سبقه من العلماء ألا وهو قول الله تعالى:- ] ليس كمثله شىء[ ( سورة الشورى/11)، وقوله تعالى:- ] ولم يكن له كفوا أحد[ (سورة الإخلاص/4) وقوله تعالى:- ] هل تعلم له سميا [ (سورة مريم /65) وفي هذه الآيات كفاية لمن يتدبر.
رابعاً:تبرئة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مما لا يجوز عليهم:-
يحرص الشيخ عبد الله الهرري على توضيح أمر مهم في دروسه وكتبه، وهو التحذير من نسبة ما لا يليق بالأنبياء لهم، ذلك أنهم أفضل خلق الله، فقد قال الله تعالي: ]وكلا فضلنا على العالمين[(سورة الأنعام/86)، فالشيخ حفظه الله يُعلم أنه يجب اعتقاد أن كل نبي من أنبياء الله يجب أن يكون متصفاً بالصدق والأمانة والفطانة، فيستحيل عليهم الكذب والخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها.
فالأنبياء يجوز عليهم من المعاصي فقط الصغائر التي ليس فيها خسة ولكن ينبهون فوراً للتوبة قبل أن يقتدي بهم فيها غيرهم، ومن الصغائر التي فيها خسة سرقة حبة عنب.
وقد علمنا الشيخ أن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاصه كفر، ويكون صاحبه كافراً خارجا من دين الإسلام بالإجماع، وهذا موافق لما جاء في جميع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:- ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدو للكافرين[ (سورة البقرة/98)، وقوله تعالى:- ] قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم[ ( سورة التوبة65-66).
خامساً:- التحذير من الردة وبيان أقسامها المُجمع عليها:-
إن الشيخ عبد الله الهرري لم يأت بجديد في هذا الباب، وإنما هو ناقل لما قرره علماء المسلمين، فالشيخ يقسم الردة إلى ثلاثة أقسام : أفعال وأقوال واعتقادات كما اتفق على ذلك أهل المذاهب الأربعة: الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة.
والردة أمر منتشر في هذا الزمان والعياذ بالله وهذا مما دفع الشيخ إلى الإسهاب في هذا الأمر فإنك تجد كثيرا من الناس يتساهل في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنبا فضلاً عن كونه كفراً، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:' إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعياً خريفاً' أي مسافة سبعين عاماً في النزول وذلك منتهى جهنم وهو خاص بالكفار، والحديث رواه الترمذي وحسنه وفي معناه حديث رواه البخاري ومسلم.
سادساً:- بيان أن التوسل وزيارة قبور الأنبياء والصالحين والتبرك بآثارهم أمر جائز:-
وهذا مما درج عليه المسلمون من لدن الصحابة إلى زمننا هذا ولا يلتفت إلى المخالف في هذا الأمر لأنه يكون مخالفاً لإجماع الأمة .
والشيخ عبد الله الهرري علمنا أنه لا دليل حقيقي يدل على عدم جواز التوسل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله، لأنه ليس عبادة لغير الله مجرد النداء لحي أو ميت، ولا مجرد الاستغاثة بغير الله، ولا مجرد قصد قبر ولي للتبرك، ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس، ولا مجرد صيغة الاستعانة بغير الله تعالى، أي ليس ذلك شركاً، لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين، لأن العبادة عندهم: الطاعة مع الخضوع، قال الأزهري[9] الذي هو أحد كبار اللغويين نقلاً عن الزجاج الذي هو من أشهرهم: "العبادة في لغة العرب الطاعة مع الخضوع"، وقال مثله الفراء، وقال بعضهم: "العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع"، وقال بعض:" نهاية التذلل" كما يفهم ذلك من كلام شارح القاموس المرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين[10]، وهذا الذي يستقيم لغة وعرفاً.
إن الشيخ عبد الله حفظه الله يقول بجواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وندائه سواء في حال حياته أو مماته مع اعتقاد أن النافع والضار على الحقيقة هو الله، ومن اعتقد أن غير الله ينفع ويضر بمعنى يخلق النفع والضرر فقد أشرك بالله، فلا يعتقد بمن يقول:" يا رب فرج كربي بجاه محمد" أنه عبد محمدا، إنما قصده:" يا رب بمقام محمد عندك فرج كربي". وهذا ما فيه ضرر في الاعتقاد بل فيه ثواب.
سابعاً:- بيان أنواع البدعة وأنها على قسمين بدعة هدى وبدعة ضلالة:-
كعادة الشيخ لم يأت في هذا الموضوع بجديد، إنما قال ما سبق إليه العلماء ودعم كلامه بالأدلة الواضحة والنقولات الجلية.
فالبدعة لغة:- ما أحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع: المحدث الذي لم ينص عليه القرءان ولا جاء في السنة[11]، والبدعة تنقسم إلى قسمين:- بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للقرءان والسنة، وبدعة هدى:- وهي المحدثة الموافقة للكتاب والسنة.
وهذا التقسيم للبدعة هو مفهوم من حديث البخاري[12] ومسلم[13] عن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:- " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ورواه مسلم[14] بلفظ أخر وهو:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، فأفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" ما ليس منه" أن المحدث إنما يكون رداً أي مردوداً إذا كان على خلاف الشريعة وأن المُحدث الموافق للشريعة ليس مردوداً.
والأصل في تقسيم البدعة إلى قبيحة وحسنة هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم[15] من حديث جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ" . و روى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : " المحدثات من الأمور ضربان : أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة الضلالة ، والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة ا.ه16 .
ومن الأمثلة على البدع الحسنة:-
1- جمع المصلين خلف قارئ واحد في صلاة التراويح:-
وهو ما فعله عمر رضي الله عنه في أثناء خلافته، حيث جمع الناس في التراويح خلف قارئ واحد، وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعا متفرقين، يصلي الرجل لنفسه فيصلي بصلاته الرهط ، وقال بعد أن رءاهم مجتمعين خلف قارئ واحد: " نعم البدعة هذه" رواه البخاري .
فهذا أمر لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفعله عمر ووافقه عليه الصحابة فهو من البدع الحسنة. الاحتفال بالمولد النبوي:
ومن البدع الحسنة الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل لم يكن في عهد النبي ولا فيما يليه، إنما أحدث في أوائل الستمائة للهجرة، وأول من أحدثه ملك إربل، وكان عالما تقياً شجاعاً يقال له المظفر، وجمع لهذا كثيراً من العلماء، فيهم من أهل الحديث و الزهاد الصالحين والصوفية الصادقين ، فاستحسن ذلك العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ومنهم الحافظ السيوطي، فقد ألف فيه رسالة سمّاها حسن المقصد في عمل المولد17
الخاتمة
لقد بينا سيرة العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي ومنهجه في تعليم الناس الخير، ولمعا من العلم الذي يدرسه في بلاد الشام منذ ما يقرب من خمسين سنة، فمن أراد الزيادة فليطالع كتب الشيخ ويلاحظ غزارة علم هذا الرجل واعتداله وابتعاده عن التطرف والغلو والإرهاب وأنه موافق للعلماء لا يخرج عما قرروه قيد أنملة وهذه الأوراق دليل على اعتماد الشيخ على ما أقره علماء المسلمين الماضون، ومن لم يستطيع ذلك فليراجعنا في جمعية الثقافة العربية الإسلامية يجد الجواب الشافي.
نسأل الله أن يرزقنا السلامة في ديننا، وأن يرزقنا من اليقين ما يُهون علينا مصائب الدنيا، وأن لا يجعل مصيبتنا في ديننا، وأن يظهر الحق والدين، اللهم آمين ، الحمد لله الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي أنعم علينا بتمام هذه الوريقات، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، ونسألك من فضلك، بجاه أشرف رسلك، أن تجعل ما كتبناه خالصا لوجهك، وأن تنفع به وتجعله سبباً للفوز برضاك وعفوك.
وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
___________________________________
[1] - نسبة إلى هرر وهي مدينة تقع في الناحية الداخلية الأفريقية، تحدها من الشرق والجنوب جمهورية الصومال، ومن الغرب الحبشة، ومن الشمال الشرقي جمهورية جيبوتي، وقد احتلت الصومال وقُسمت إلى خمسة أجزاء، فكان إقليم الصومال الغربي ( هرر) من نصيب الحبشة وذلك سنة 1304 هـ – 1887ر.
[2] - نسبة إلى بني شيبة وهم بطن من عبد الدار من قريش وهم حجبة الكعبة المعروفون ببني شيبة إلى الآن، انتهت إليهم من قبل جدهم عبد الدار حيث ابتاع أبوه قصي مفاتيح الكعبة من أبي غبشان الخزاعي ، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم في عقبهم. أنظر في كتاب "سبائك الذهب" ( ص 68).
[3] - بنو عبد الدار بطن من قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم الرابع، انظر في كتاب " سبائك الذهب" (ص 68).
[4] - وكانت تضم أثيوبيا والصومال وتخضع لحكم الدكتاتور المسمى هيلاسيلاسي الذي حاربه الشيخ عبد الله الحبشي .
[5] - نسبة إلى فاس في بلاد المغرب.
[6] - تسلّم إمامة المسجد الحرام أيام السلطان عبد الحميد الثاني
[7] - رواه البيهقي وابن ماجه في مقدمة سننه، وقد قال الحافظ كمال الدين المزي:" هذا الحد روي من طرق تبلغ مرتبة الحسن"، أنظر " سنن ابن ماجه ( ج1/81).
[8] -رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح.
[9] - أنظر تهذيب اللغة (ج2/234)
[10] - أنظر تاج العروس (ج3/410-411 مادة ع ب د).
[11] - أرجع إلى مادة( ب د ع) في المصباح المنير وتاج العروس.
[12] - صحيح البخاري: كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود.
[13] - صحيح مسلم : كتاب الاقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
[14] - صحيح مسلم : التخريج السابق.
[15] - صحيح مسلم: كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار.
16 - مناقب الشافعي (1/469)
17 – أنظر الحاوي للفتاوي ( ج /189)
أسمه ومولده:-
هو العالم الجليل قدوة المحققين، وعمدة المدققين، صدر العلماء العاملين، الإمام المحدث، التقي الزاهد، والفاضل العابد، أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن جامع الهرري[1] الشيبي[2] العبدري[3]، مفتى هرر.
ولد في مدينة هرر عاصمة بلاد الحبشة[4] حوالي سنة 1910ر، وكانت هرر تسمى قلعة الإسلام في تلك البلاد لكثرة العلماء فيها وتمسك أهلها بأحكام الدين الإسلامي، و نسب الشيخ الأصلي يعود إلى بني شيبة وهم بطن من عبد الدارمن قبيلة قريش.
نشأته ورحلاته:
نشأ في بيت متواضع مُحباً للعلم ولأهله، فحفظ القرءان الكريم استظهارا وترتيلاً وإتقانا وهو ابن سبع سنين، ثم عكف على الاغتراف من بحور العلم فحفظ عددا من المتون في مختلف العلوم، ثم أولى علم الحديث اهتمامه فحفظ الكتب الستة وغيرها بأسانيدها حتى إنه أجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشرة، ولم يكتف بعلماء بلدته وما جاورها بل جال في أنحاء الحبشة والصومال لطلب العلم وسماعه من أهله، وله في ذلك رحلات عديدة لاقى فيها المشاق والمصاعب، غير أنه كان لا يأبه بها بل كلما سمع بعالم شد رحاله إليه ليستفيد منه، وهذه عادة السلف الصالح، وساعده ذكاؤه وحافظته العجيبة على التعمق في الفقه الشافعي وأصوله ومعرفة وجوه الخلاف فيه، وكذا الشأن في الفقه المالكي والحنفي والحنبلي حتى صار يشار إليه بالبنان وتشد الرحال إليه من أقطار الحبشة والصومال.
أخذ الفقه الشافعي وأصوله والنحو عن العالم النحرير الشيخ محمد عبد السلام الهرري والشيخ محمد عمر جامع الهرري والشيخ محمد رشاد الحبشي والشيخ إبراهيم أبي الغيث الهرري والشيخ يونس الحبشي والشيخ محمد سراج الجبرتي، ومن المتون التي حصلها على هؤلاء ألفية الزبد و التنبيه والمنهاج و اللمع للشيرازي وألفية ابن مالك وغير ذلك من الأمهات.
وأخذ علوم العربية بخصوص عن الشيخ الصالح أحمد البصير والشيخ أحمد بن محمد الحبشي وغيرهما، وقرأ فقه المذاهب الثلاثة وأصولها على الشيخ محمد العربي الفاسي[5] والشيخ عبد الرحمن الحبشي.
وأخذ علم التفسير عن الشيخ شريف الحبشي في بلده جمة، وأخذ الحديث وعلومه عن كثير من أجلهم الشيخ أبو بكر محمد سراج الجبرتي مفتي الحبشة والشيخ عبد الرحمن عبد الله الحبشي وغيرهما، ثم اجتمع بالشيخ الصالح المحدث القارئ أحمد بن عبد المطلب الحبشي، شيخ القرّاء في المسجد الحرام[6]، فأخذ عنه القراءات الأربع عشرة واستزاد منه في علم الحديث، ثم أخذ من الشيخ داود الجبرتي القارئ.
وقد شرع يُلقي الدروس مبكرا على الطلاب الذين ربما كانوا أكبر منه سناً فجمع بين التعليم والتعلم، وانفرد في أرجاء الحبشة والصومال بتفوقه على أقرانه في معرفة علم تراجم رجال الحديث وطبقاتهم، وحفظ المتون والتبحر في علوم السنة واللغة والتفسير والفرائض وغير ذلك، حتى إنه لم يترك علماً من العلوم الإسلامية المعروفة إلا درسه وله فيه باع .
ثم أم مكة فتعرف على علمائها كالشيخ العالم السيد علوي المالكي والشيخ أمين الكتبي، وحضر على الشيخ محمد العربي التبان، واتصل بالشيخ عبد الغفور النقشبندي فأخذ منه الطريقة النقشبندية.
ورحل بعدها إلى المدينة المنورة واتصل بعلمائها فأخذ الحديث عن الشيخ محمد بن علي الصديقي البكري الحنفي، ثم لازم مكتبة عارف حكمت والمكتبة المحمودية مطالعا منقباً بين الأسفار الخطية مغترفاً من مناهلها فبقي في المدينة مجاورا سنة، أما إجازاته فأكثر من أن ندخل في عددها وأسماء المجيزين وما مع ذلك.
ثم رحل إلى بيت المقدس في أواخر العقد الخامس من هذا القرن ومنه توجه إلى دمشق فاستقبله أهلها بالترحاب، لاسيما بعد وفاة محدثها الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، فتنقل في بلاد الشام بين دمشق وبيروت وحمص وحماة وحلب وغيرها من المدن، ثم سكن في جامع القطاط في محلة القيمرية، وأخذ صيته بالانتشار فتردد عليه مشايخ الشام وطلبتها وتعرف على علمائها واستفادوا منه وشهدوا له بالفضل وأقروا بعلمه، واشتهر في الديار الشامية " بمحدث الديار الشامية" " وخليفة الشيخ بدر الدين الحسني".
ثناء العلماء عليه:
وقد أثنى عليه العديد من علماء وفقهاء الشام منهم:
1- الشيخ عز الدين الخزنوي الشافعي النقشبندي من الجزيرة شمالي سوريا رحمه الله
2- الشيخ عبد الرزاق الحلبي إمام و مدير المسجد الأموي في دمشق.
3- الشيخ أبو سليمان الزبيبي.
4- الشيخ ملا رمضان البوطي .
5- الشيخ أبو اليسر عابدين مفتى سوريا رحمه الله .
6- الشيخ عبد الكريم الرفاعي.
7- الفقيه الحنفي الشيخ سعيد طناطرة.
8- الشيخ أحمد الحصري شيخ معرة النعمان ومدير معهدها الشرعي.
9- الشيخ عبد الله سراج الحلبي.
10- الشيخ محمد مراد الحلبي.
11- الشيخ الدكتور صهيب الشامي أمين فتوى حلب .
12- الشيخ عبد العزيز عيون السود شيخ قراء حمص رحمه الله .
13- الشيخ أبو السعود الحمصي.
14- الشيخ فايز الديرعطاني نزيل دمشق جامع القراءات السبع فيها رحمه الله.
15- الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت الدمشقي رحمه الله .
16- الدكتور الحلواني شيخ القراء في سوريا.
17- الشيخ أحمد الحارون الدمشقي الولي الصالح رحمه الله.
18- الشيخ طاهر الكيالي الحمصي وغيرهم نفعنا الله بهم.
ومن خارج الشام: أثنى عليه الشيخ عثمان سراج الدين سليل الشيخ علاء الدين رحمهما الله شيخ النقشبنديه في وقته، وقد حصلت بينهما مراسلات علمية وأخوية.
والشيخ عبد الكريم البياره المدرس في جامع الحضرة الكيلانية في بغداد، والشيخ أحمد الزاهد.
والشيخ محمود الحنفي من مشاهير مشايخ الأتراك العاملين الآن بتلك الديار.
والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي محدث الديار الهندية رحمه الله اجتمع به مرات عديدة واستضافه.
والشيخ عبد الله بن صديق الغماري محدث الديار المغربية .
أخذ الإجازة في الطريقة الرفاعية من الشيخ عبد الرحمن السبسبي، والشيخ طاهر الكيالي، والإجازة في الطريقة القادرية من الشيخ أحمد العربيني رحمهم الله تعالى.
قدم إلى بيروت عام 1370 هـ – 1950 ر، فاستضافه كبار مشايخها أمثال الشيخ القاضي محي الدين العجوز رحمه الله ، والشيخ المستشار محمد الشريف رحمه الله ، والشيخ عبد الوهاب البوتاري إمام جامع البسطا الفوقا، والشيخ أحمد إسكندراني رحمه الله إمام ومؤذن جامع برج أبي حيدر ولازمه واستفاد منه، ثم اجتمع بالشيخ توفيق الهبري رحمه الله وعنده كان يجتمع بأعيان بيروت، وبالشيخ عبد الرحمن المجذوب رحمه الله ، واستفادوا منه، و بالشيخ مختار العلايلي رحمه الله أمين الفتوى السابق الذي أقر بفضله وسعة علمه وهيأ له الإقامة على كفالة دار الفتوى في بيروت ليتنقل بين مساجدها مقيماً الحلقات العلمية وذلك بإذن خطي منه، وفي سنة 1389هـ -1969ر وبطلب من مدير الأزهر في لبنان حاضر في التوحيد في طلاب الأزهر.
سلوكه وسيرته:-
الشيخ عبد الله الهرري شديد الورع، متواضع، صاحب عبادة، كثير الذكر، يشتغل بالعلم والذكر في آن واحد، زاهد طيب السريرة، لا تكاد تجد له لحظة إلا وهو يشغلها بقراءة أو ذكر أو تدريس أو وعظ أو إرشاد، عارف بالله متمسك بالكتاب والسنة، حاضر الذهن قوي الحجة ساطع الدليل، حكيم يضع الأمور في مواضعها، شديد النكير على من خالف الشرع، ذو همة عالية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى هابه أهل البدع والضلال وحسدوه، لكن الله يدافع عن الذين ءامنوا.
هذا ما كان من خلاصة ترجمته الجليلة، ولو أردنا بسطها لكلت الأقلام عنها وضاقت الصحف ولكن فيما ذكرناه كفاية يستدل به كما يستدل بالعنوان على ما هو في طي الكتاب.
تصانيفه وآثاره:
شغله إصلاح عقائد الناس ومحاربة أهل الإلحاد وقمع فتن أهل البدع والأهواء عن التفرغ للتأليف والتصنيف، ورغم ذلك ترك أثاراً ومؤلفات قيمة منها:-
1- الصراط المستقيم في التوحيد - طبع
2- النهج القويم شرح الصراط المستقيم - طبع
3- الدليل القويم على الصراط المستقيم.
4- شرح العقيدة النسفية - طبع
5- شرح العقيدة الطحاوية – طبع
6- قصيدة في الاعتقاد تقع في ستين بيتاً.
7- المقالات السنيه في كشف ضلالات أحمد بن تيميه - طبع
8- الغارة الإيمانية في كشف مفاسد التحريرية.
9- النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي، توحيد عقيدة.
10- شرح ألفية الزبد في الفقه الشافعي.
11- شرح متن أبي شجاع في الفقه الشافعي.
12- شرح متن العشماويه في الفقه الملكي.
13- مختصر عبد الله الهرري الكافل بعلم الدين الضروري – طبع .
14- بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب – طبع .
15- صريح البيان في الرد على من خالف القرءان – طبع .
16- شرح ألفيه السيوطي في علم مصطلح الحديث.
17- التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث – طبع.
وقد رد فيه على الألباني وفند أقواله، وقد حصل هذا الكتاب على تزكية محدث الديار المغربية الشيخ عبد الله الغماري رحمه الله فقال: "هو رد جيد متقن".
18- نصرة التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث
– طبع .
19- شرح البيقونية في مصطلح الحديث.
20- أسانيد الكتب السبعة، وفيه يذكر الشيخ عبد الله أسانيده للكتب السبعة وغيرها- طبع .
21- الروائح الزكية في مولد خير البرية – طبع .
22- شرح الأجرومية في النحو.
التعريف بالمنهج العلمي الذي يدرسه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي :-
أعلم أخي المسلم أن الشيخ عبد الله الهرري لم يأت بجديد على الإطلاق، وليس صاحب مذهب مستحدث، إنما مذهبه مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، وكتبه على مذهب الإمام الشافعي، وفتاويه لا تخرج عن المذاهب المعتبرة لأهل السنة والجماعة، وما حصل أن خالف إجماع المسلمين ولو في مسألة واحدة لأنه يعتبر الإجماع حجة في الشرع بعد كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن كتبه ودروسه ومحاضراته تزخر بما أقره الأئمة الأعلام المعتبرون في علوم الدين المختلفة.
وسنعرض هنا عدة مسائل على سبيل الذكر لا الحصر مما يعتني الشيخ عبد الله بتعليمه لأهميتها وكثرة المشوشين حولها.
أولاً: الحث على طلب العلم الشرعي وتعلم الفرض العيني:-
يحث الشيخ عبد الله الهرري طلابه على التزود من العلم الشرعي وتعلم ذلك القدر من علم الدين الذي لا يعذر مسلم بجهله، والذي سماه العلماء بالفرض العيني، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:-" طلب العلم فريضة على كل مسلم"[7] أي علم الدين الضروري الشامل لمعرفة الله ومعرفة رسوله وغيرهما من ضروريات الاعتقاد، والشامل أيضا لمعرفة أحكام الصلاة والطهارة شروطاً وأركانا ومبطلات وغيرهما من ضروريات علم الدين.
فالشيخ يحرص على تعليم العلم الشرعي بطرق وأساليب الفقهاء والمحدثين والحفاظ، وليس بالاعتماد فقط على المطالعة من الكتب لاحتمال الدس عليها أو السقط المخل بالمعنى.
ثانياً:- الاهتمام بعلم التوحيد:-
إن العلم بالله وصفاته أجل العلوم وأعلاها رتبة وأوجبها تحصيلاً وأولاها اعتناء ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة.
قال الله تعالى:- ] فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك[ (سورة محمد/19)، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار.
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم، فقال:' أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له'[8]،
ثالثاً:- تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين:-
ومما يهتم به الشيخ عبد الله الهرري تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين سنده في ذلك هو سند من سبقه من العلماء ألا وهو قول الله تعالى:- ] ليس كمثله شىء[ ( سورة الشورى/11)، وقوله تعالى:- ] ولم يكن له كفوا أحد[ (سورة الإخلاص/4) وقوله تعالى:- ] هل تعلم له سميا [ (سورة مريم /65) وفي هذه الآيات كفاية لمن يتدبر.
رابعاً:تبرئة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين مما لا يجوز عليهم:-
يحرص الشيخ عبد الله الهرري على توضيح أمر مهم في دروسه وكتبه، وهو التحذير من نسبة ما لا يليق بالأنبياء لهم، ذلك أنهم أفضل خلق الله، فقد قال الله تعالي: ]وكلا فضلنا على العالمين[(سورة الأنعام/86)، فالشيخ حفظه الله يُعلم أنه يجب اعتقاد أن كل نبي من أنبياء الله يجب أن يكون متصفاً بالصدق والأمانة والفطانة، فيستحيل عليهم الكذب والخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها.
فالأنبياء يجوز عليهم من المعاصي فقط الصغائر التي ليس فيها خسة ولكن ينبهون فوراً للتوبة قبل أن يقتدي بهم فيها غيرهم، ومن الصغائر التي فيها خسة سرقة حبة عنب.
وقد علمنا الشيخ أن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاصه كفر، ويكون صاحبه كافراً خارجا من دين الإسلام بالإجماع، وهذا موافق لما جاء في جميع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى:- ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدو للكافرين[ (سورة البقرة/98)، وقوله تعالى:- ] قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم[ ( سورة التوبة65-66).
خامساً:- التحذير من الردة وبيان أقسامها المُجمع عليها:-
إن الشيخ عبد الله الهرري لم يأت بجديد في هذا الباب، وإنما هو ناقل لما قرره علماء المسلمين، فالشيخ يقسم الردة إلى ثلاثة أقسام : أفعال وأقوال واعتقادات كما اتفق على ذلك أهل المذاهب الأربعة: الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة.
والردة أمر منتشر في هذا الزمان والعياذ بالله وهذا مما دفع الشيخ إلى الإسهاب في هذا الأمر فإنك تجد كثيرا من الناس يتساهل في الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظ تخرجهم عن الإسلام ولا يرون ذلك ذنبا فضلاً عن كونه كفراً، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:' إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعياً خريفاً' أي مسافة سبعين عاماً في النزول وذلك منتهى جهنم وهو خاص بالكفار، والحديث رواه الترمذي وحسنه وفي معناه حديث رواه البخاري ومسلم.
سادساً:- بيان أن التوسل وزيارة قبور الأنبياء والصالحين والتبرك بآثارهم أمر جائز:-
وهذا مما درج عليه المسلمون من لدن الصحابة إلى زمننا هذا ولا يلتفت إلى المخالف في هذا الأمر لأنه يكون مخالفاً لإجماع الأمة .
والشيخ عبد الله الهرري علمنا أنه لا دليل حقيقي يدل على عدم جواز التوسل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله، لأنه ليس عبادة لغير الله مجرد النداء لحي أو ميت، ولا مجرد الاستغاثة بغير الله، ولا مجرد قصد قبر ولي للتبرك، ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس، ولا مجرد صيغة الاستعانة بغير الله تعالى، أي ليس ذلك شركاً، لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين، لأن العبادة عندهم: الطاعة مع الخضوع، قال الأزهري[9] الذي هو أحد كبار اللغويين نقلاً عن الزجاج الذي هو من أشهرهم: "العبادة في لغة العرب الطاعة مع الخضوع"، وقال مثله الفراء، وقال بعضهم: "العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع"، وقال بعض:" نهاية التذلل" كما يفهم ذلك من كلام شارح القاموس المرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين[10]، وهذا الذي يستقيم لغة وعرفاً.
إن الشيخ عبد الله حفظه الله يقول بجواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وندائه سواء في حال حياته أو مماته مع اعتقاد أن النافع والضار على الحقيقة هو الله، ومن اعتقد أن غير الله ينفع ويضر بمعنى يخلق النفع والضرر فقد أشرك بالله، فلا يعتقد بمن يقول:" يا رب فرج كربي بجاه محمد" أنه عبد محمدا، إنما قصده:" يا رب بمقام محمد عندك فرج كربي". وهذا ما فيه ضرر في الاعتقاد بل فيه ثواب.
سابعاً:- بيان أنواع البدعة وأنها على قسمين بدعة هدى وبدعة ضلالة:-
كعادة الشيخ لم يأت في هذا الموضوع بجديد، إنما قال ما سبق إليه العلماء ودعم كلامه بالأدلة الواضحة والنقولات الجلية.
فالبدعة لغة:- ما أحدث على غير مثال سابق، وفي الشرع: المحدث الذي لم ينص عليه القرءان ولا جاء في السنة[11]، والبدعة تنقسم إلى قسمين:- بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للقرءان والسنة، وبدعة هدى:- وهي المحدثة الموافقة للكتاب والسنة.
وهذا التقسيم للبدعة هو مفهوم من حديث البخاري[12] ومسلم[13] عن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:- " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ورواه مسلم[14] بلفظ أخر وهو:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، فأفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" ما ليس منه" أن المحدث إنما يكون رداً أي مردوداً إذا كان على خلاف الشريعة وأن المُحدث الموافق للشريعة ليس مردوداً.
والأصل في تقسيم البدعة إلى قبيحة وحسنة هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم[15] من حديث جرير بن عبد الله البجلى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ" . و روى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : " المحدثات من الأمور ضربان : أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة الضلالة ، والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا ، وهذه محدثة غير مذمومة ا.ه16 .
ومن الأمثلة على البدع الحسنة:-
1- جمع المصلين خلف قارئ واحد في صلاة التراويح:-
وهو ما فعله عمر رضي الله عنه في أثناء خلافته، حيث جمع الناس في التراويح خلف قارئ واحد، وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعا متفرقين، يصلي الرجل لنفسه فيصلي بصلاته الرهط ، وقال بعد أن رءاهم مجتمعين خلف قارئ واحد: " نعم البدعة هذه" رواه البخاري .
فهذا أمر لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفعله عمر ووافقه عليه الصحابة فهو من البدع الحسنة. الاحتفال بالمولد النبوي:
ومن البدع الحسنة الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا العمل لم يكن في عهد النبي ولا فيما يليه، إنما أحدث في أوائل الستمائة للهجرة، وأول من أحدثه ملك إربل، وكان عالما تقياً شجاعاً يقال له المظفر، وجمع لهذا كثيراً من العلماء، فيهم من أهل الحديث و الزهاد الصالحين والصوفية الصادقين ، فاستحسن ذلك العلماء في مشارق الأرض ومغاربها ومنهم الحافظ السيوطي، فقد ألف فيه رسالة سمّاها حسن المقصد في عمل المولد17
الخاتمة
لقد بينا سيرة العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي ومنهجه في تعليم الناس الخير، ولمعا من العلم الذي يدرسه في بلاد الشام منذ ما يقرب من خمسين سنة، فمن أراد الزيادة فليطالع كتب الشيخ ويلاحظ غزارة علم هذا الرجل واعتداله وابتعاده عن التطرف والغلو والإرهاب وأنه موافق للعلماء لا يخرج عما قرروه قيد أنملة وهذه الأوراق دليل على اعتماد الشيخ على ما أقره علماء المسلمين الماضون، ومن لم يستطيع ذلك فليراجعنا في جمعية الثقافة العربية الإسلامية يجد الجواب الشافي.
نسأل الله أن يرزقنا السلامة في ديننا، وأن يرزقنا من اليقين ما يُهون علينا مصائب الدنيا، وأن لا يجعل مصيبتنا في ديننا، وأن يظهر الحق والدين، اللهم آمين ، الحمد لله الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي أنعم علينا بتمام هذه الوريقات، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، ونسألك من فضلك، بجاه أشرف رسلك، أن تجعل ما كتبناه خالصا لوجهك، وأن تنفع به وتجعله سبباً للفوز برضاك وعفوك.
وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
___________________________________
[1] - نسبة إلى هرر وهي مدينة تقع في الناحية الداخلية الأفريقية، تحدها من الشرق والجنوب جمهورية الصومال، ومن الغرب الحبشة، ومن الشمال الشرقي جمهورية جيبوتي، وقد احتلت الصومال وقُسمت إلى خمسة أجزاء، فكان إقليم الصومال الغربي ( هرر) من نصيب الحبشة وذلك سنة 1304 هـ – 1887ر.
[2] - نسبة إلى بني شيبة وهم بطن من عبد الدار من قريش وهم حجبة الكعبة المعروفون ببني شيبة إلى الآن، انتهت إليهم من قبل جدهم عبد الدار حيث ابتاع أبوه قصي مفاتيح الكعبة من أبي غبشان الخزاعي ، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم في عقبهم. أنظر في كتاب "سبائك الذهب" ( ص 68).
[3] - بنو عبد الدار بطن من قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم الرابع، انظر في كتاب " سبائك الذهب" (ص 68).
[4] - وكانت تضم أثيوبيا والصومال وتخضع لحكم الدكتاتور المسمى هيلاسيلاسي الذي حاربه الشيخ عبد الله الحبشي .
[5] - نسبة إلى فاس في بلاد المغرب.
[6] - تسلّم إمامة المسجد الحرام أيام السلطان عبد الحميد الثاني
[7] - رواه البيهقي وابن ماجه في مقدمة سننه، وقد قال الحافظ كمال الدين المزي:" هذا الحد روي من طرق تبلغ مرتبة الحسن"، أنظر " سنن ابن ماجه ( ج1/81).
[8] -رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح.
[9] - أنظر تهذيب اللغة (ج2/234)
[10] - أنظر تاج العروس (ج3/410-411 مادة ع ب د).
[11] - أرجع إلى مادة( ب د ع) في المصباح المنير وتاج العروس.
[12] - صحيح البخاري: كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود.
[13] - صحيح مسلم : كتاب الاقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
[14] - صحيح مسلم : التخريج السابق.
[15] - صحيح مسلم: كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار.
16 - مناقب الشافعي (1/469)
17 – أنظر الحاوي للفتاوي ( ج /189)