لقد مات كل شيء أبي ولم يعد هناك حلم سوف ينبت على أرض الواقع وإبنك لن يكون طبيب كما تريد ولن يكون طياراً كما هو يريد فإن محاولة الخروج من عنق تلك الزجاجة كانت فاشلة . ففي بلدان العالم تعد نسبتي لا يتحصل عليها إلا العبقري وفي بلادي تنظر إليها أنها نسبة الأبله في صفوف الدراسة المبتدئة فهذه شهادتي أحملها إليك وماتبقى منها بعد أن أنهكها السير معي بين أروقة الوزارات الجميلة وبين مكاتب المؤسسات الخاصة وكم لوثها دخان المصانع وغبار الطرقات حتى الحانات وقفت على أعاتبها أسأل لي عن عمل ولو كان محرماً خير لي من الفراغ أو إمتطاء الشارع ليكون لي سكناً جديد لكن كل الأمكنة أعادت إلي شهادتي وكل الأمكنة رفضتني حتى بأقل سعر للراتب ولا أملك إلا كلمة الإعتذار وشهادتي أقدمها إليك بكل لغة حزن أعرفها وبكل كلمة مريرة تسكنني وبكل دمعة متحجرة أسكبتها على هذا الحال .. أعتذر لك بعد أن تم التأكد من إضاعت الحلم الجميل الذي راودني إثنى عشر عاماً وعاش هنا بين قلبي وفكري .. أعتذر لك فليس سوى الأرصفة مكان أتواجد عليها وليس إلا البطالة حالة أقدم فيها شخصي لعلها توافق على إقامتي فمن يعلم ربما غداً حتى البطالة قد تحتاج إلى نسبة عالية وشهادة مرموقة .. أعتذر لك أبي ودعني أمسح تعب السنين وألحق بركب الجهل القادم الذي خاضه أصدقائي قبل كذا عام فائت .. دع الأمية تتسلل إلي من جديد فما فائدة علم تلقيته لم يكن سوى الشارع له ملاذ فلا تلمني يا أبي على كل السنين التي تولت هباء .. لا تلمني إن وجدت إبنك الوحيد يتوسد الطرقات ويتخذ من المجاري مسكناً له .. لا تلمني إن وجدت إبنك يوماً صدفة في طريق عابر وفي يديه بقايا أعقاب السيجار ينفث دخان الأسى على عمر الشباب .. لا تلم إبنك إن وجدته قد إتكئ على الأرجيلة وعانق دور البارات وشرب الخمور وسرق من هنا أو من هناك لا تلم إبنك فهم قد أحالوه من رجل متزن إلى لص محترف ، فماذا بعد أن يخسر الإنسان حلمه ومستقبله .. فما معنى الذات إن عاشت في الدنيا بلا أماني إنها ذات خواء وكيف لتلك الذات بخواءها أن تعانق وجه الأماني .. كيف يا أبي ؟ دعني هنا أسكب كل العلم الذي تلقيته على هذه الأرصفة لكي أعود جاهلاً كطفولتي وذاك هم ما يريدون فلا تبتئس مما أفعل ولا تحزن على ضياع إبنك الوحيد .
كل عام وأنتم بألف صحة وعافية .
تم نشر الموضوع . ( جزء من مقالي )
كل عام وأنتم بألف صحة وعافية .
تم نشر الموضوع . ( جزء من مقالي )