لقد كتبت هذا المقال أثناء زيارتي لأحد المقربين وهو نائم على سرير المرض بوحدة القلب بالعناية المركزة بالمستشفى . وكتبته على لساني وكأنني أنا من يعاني المرض . ( من باب التوضيح )
( لا .. يا زمن)
لا يا زمن .. لما خنت عهودنا وسلبت منا شبابنا وأسلمتنا للشراشف البيضاء والحقن وأدوات النبض والغرفة المنعزلة التي يحيط بجدرانها الصمت الخاشع إلا من هذيان جهاز النبض ليبقى وحيداً على آلة تحدده خيوطه المتعرجة .. لما يا زمن قتلت فينا الطموح والأماني وأحلامنا ، ولما ساقتنا أيامك إلى النوم مجبرين في جناح كبير غرفه متعددة وأبوابه مغلقة لا تفتح إلا من خلال أرقام سرية لا يعلمها إلا القليل وخلف تلك الأبواب حرس مدني وحرس عسكري وشارات أمن .. لما يا زمن ، وأين فيك الحرية المطلقة .. أين تلك الطفولة البريئة ... أين صدى ضحكاتنا المترددة بين الأزقات وفي الدروب ، أين أسراب الحمام .. أين لهونا في الحقول وبين البساتين وتحت شجر السدر .. أين خرائط أحلامنا التي رسمناها على جدارك . قد توارى يا زمن كل شيء وتبعثر الحال متدهوراً إلى القاع وما عاد في الصحة صحة تقوى على الكلام أو حتى على رد السلام .. ما عاد في الصحة ما يعطي للأمل نور وكأن الشمس بدأت تغرب في إنحدار سريع نحو مغيب مخيف .. لا يا زمن .. أتوسل فيك أيامك أن تعيدني إلى شبابي وصباي وأصدقائي وأناسي وأبنائي .. أتوسل فيك ساعاتك التي لا ساعاتك السائة إلى البعيد أن تعيد إلي حريتي وصحتي وأن تجعل العافية فراشات ترفرف فوق بساتين روحي التي أنهكها المرض .. أتوسلك يا زمن فهناك لي خارج هذه الغرفة المحروسة ثمة أحلام أود تحقيقها ، وهناك لي ثمة أهل لم تراهم منذ أمد عيناي ، ولي فيك هناك أبناء كان حلمي أن أرى ذريتهم يتهافتون نحوي ويعتلون كتفي وينامون إن هدهم التعب في حجري .. أطعمهم بيدي وأرعاهم بجوارحي فلا تدع للمرض علي سلطان ولا تتركني في هذه المساحات الضيقة فيكفي ما يعانيه هذا القلب من خذلان دائم في النبض وكأنه يستعجل رحيلي .. يكفي ما يعانيه هذا القلب من صراعه الدائم مع الشرايين الوريدية منها والتاجية .. يكفي فإلى متى والنار تأكل من جسدي وتنهش بلهيبها صدري ، وإلى متى أبقى أتجرع زادي من خلال " رطل " من المواد السائلة المغذية تأتي إلى جسمي عن طريق الحقن وعن طريق أسلاك .
لا يا زمن .. أنت لست خائن ولست جائر ولست أناني أو بخيل كل ذلك أعرفه ولكن هو الوقت الذي أتوسل فيه إليك أن تثبت لي أنك كل ذلك .. فقط أعدني إلى المساحات الفسيحة في بيتي .. أعدني إلى غرفتي التي شهدت ولادتي وطفولتي وصباي وشبابي .. أعدني إلى أبنائي الذين مذ أن فارقتهم لم تتلمس الفرحة شفاههم ولم تفارق عيونهم الدمع .. إثبت لي يا زمن أنك الصديق في الشدائد وفي المحن ولا ترمي إلي بهذا المرض لتلقيني على قارعة الهون .. ولماذا وأنا المتشدق بك إلى الرمق الأخير وأنت لي الصديق وأنت الحياة .. لماذا تزرع في حياتي الأشواك وتجبرني بالسير عارياً في تلك الدروب وأنت تعلم بي وبحالي وأنت تعلم بأنني لا زلت أكتشف نفسي وأكتشف ما حولي وتعلم أنني بدونك تعلن حياتي نهايتها .. وأنت تعلم أنني أخاف من ستائر أيامك وما تخفيه خلفها ، وأنت تعلم أنني قبل الرحيل بي شغف عارم بأن أرى أبنائي واحداً تلو الآخر أقبلهم وأضع على جبينهم قبلة الوداع .. ذاك الوداع الذي أراك تحمله بين ذراع الأيام .. ذاك الوداع الذي بدأت أرى من خلاله الكفن الأبيض وكثير من السائرون خلف موكب جنازة صامتة بجثة هامدة خانها الدهر فلم تحقق من أمانيها شيء .. أولئك السائرون في حشد مهيب هم يهيلون التراب بعد صلاتهم الأخيرة التي لا ركوع لها ولا سجود ويقرأون ما تيسر من القرآن ويقرأون آخر دعاء حفظوه في آخر رحلة معهم تعيدهم إلى حضنك وتأخذني أنا إلى حضن التراب في طريق آخر يقبع فيه النسيان . ترى هل أنت حقاً صديق وفي يا .. زمن . لا يا زمن لقد خنت كل شيء بيننا .
سوف ينشر بإذن الله يوم الأربعاء 15/1/2003 بجريدة عمان .
موعدنا التالي مع مقال كنت قد طرحت إسمه مسبقاً ونشر يوم الأحد الفائت بالجريدة وهو بعنوان ( وحيداً على مقعد الغربة ) .
( لا .. يا زمن)
لا يا زمن .. لما خنت عهودنا وسلبت منا شبابنا وأسلمتنا للشراشف البيضاء والحقن وأدوات النبض والغرفة المنعزلة التي يحيط بجدرانها الصمت الخاشع إلا من هذيان جهاز النبض ليبقى وحيداً على آلة تحدده خيوطه المتعرجة .. لما يا زمن قتلت فينا الطموح والأماني وأحلامنا ، ولما ساقتنا أيامك إلى النوم مجبرين في جناح كبير غرفه متعددة وأبوابه مغلقة لا تفتح إلا من خلال أرقام سرية لا يعلمها إلا القليل وخلف تلك الأبواب حرس مدني وحرس عسكري وشارات أمن .. لما يا زمن ، وأين فيك الحرية المطلقة .. أين تلك الطفولة البريئة ... أين صدى ضحكاتنا المترددة بين الأزقات وفي الدروب ، أين أسراب الحمام .. أين لهونا في الحقول وبين البساتين وتحت شجر السدر .. أين خرائط أحلامنا التي رسمناها على جدارك . قد توارى يا زمن كل شيء وتبعثر الحال متدهوراً إلى القاع وما عاد في الصحة صحة تقوى على الكلام أو حتى على رد السلام .. ما عاد في الصحة ما يعطي للأمل نور وكأن الشمس بدأت تغرب في إنحدار سريع نحو مغيب مخيف .. لا يا زمن .. أتوسل فيك أيامك أن تعيدني إلى شبابي وصباي وأصدقائي وأناسي وأبنائي .. أتوسل فيك ساعاتك التي لا ساعاتك السائة إلى البعيد أن تعيد إلي حريتي وصحتي وأن تجعل العافية فراشات ترفرف فوق بساتين روحي التي أنهكها المرض .. أتوسلك يا زمن فهناك لي خارج هذه الغرفة المحروسة ثمة أحلام أود تحقيقها ، وهناك لي ثمة أهل لم تراهم منذ أمد عيناي ، ولي فيك هناك أبناء كان حلمي أن أرى ذريتهم يتهافتون نحوي ويعتلون كتفي وينامون إن هدهم التعب في حجري .. أطعمهم بيدي وأرعاهم بجوارحي فلا تدع للمرض علي سلطان ولا تتركني في هذه المساحات الضيقة فيكفي ما يعانيه هذا القلب من خذلان دائم في النبض وكأنه يستعجل رحيلي .. يكفي ما يعانيه هذا القلب من صراعه الدائم مع الشرايين الوريدية منها والتاجية .. يكفي فإلى متى والنار تأكل من جسدي وتنهش بلهيبها صدري ، وإلى متى أبقى أتجرع زادي من خلال " رطل " من المواد السائلة المغذية تأتي إلى جسمي عن طريق الحقن وعن طريق أسلاك .
لا يا زمن .. أنت لست خائن ولست جائر ولست أناني أو بخيل كل ذلك أعرفه ولكن هو الوقت الذي أتوسل فيه إليك أن تثبت لي أنك كل ذلك .. فقط أعدني إلى المساحات الفسيحة في بيتي .. أعدني إلى غرفتي التي شهدت ولادتي وطفولتي وصباي وشبابي .. أعدني إلى أبنائي الذين مذ أن فارقتهم لم تتلمس الفرحة شفاههم ولم تفارق عيونهم الدمع .. إثبت لي يا زمن أنك الصديق في الشدائد وفي المحن ولا ترمي إلي بهذا المرض لتلقيني على قارعة الهون .. ولماذا وأنا المتشدق بك إلى الرمق الأخير وأنت لي الصديق وأنت الحياة .. لماذا تزرع في حياتي الأشواك وتجبرني بالسير عارياً في تلك الدروب وأنت تعلم بي وبحالي وأنت تعلم بأنني لا زلت أكتشف نفسي وأكتشف ما حولي وتعلم أنني بدونك تعلن حياتي نهايتها .. وأنت تعلم أنني أخاف من ستائر أيامك وما تخفيه خلفها ، وأنت تعلم أنني قبل الرحيل بي شغف عارم بأن أرى أبنائي واحداً تلو الآخر أقبلهم وأضع على جبينهم قبلة الوداع .. ذاك الوداع الذي أراك تحمله بين ذراع الأيام .. ذاك الوداع الذي بدأت أرى من خلاله الكفن الأبيض وكثير من السائرون خلف موكب جنازة صامتة بجثة هامدة خانها الدهر فلم تحقق من أمانيها شيء .. أولئك السائرون في حشد مهيب هم يهيلون التراب بعد صلاتهم الأخيرة التي لا ركوع لها ولا سجود ويقرأون ما تيسر من القرآن ويقرأون آخر دعاء حفظوه في آخر رحلة معهم تعيدهم إلى حضنك وتأخذني أنا إلى حضن التراب في طريق آخر يقبع فيه النسيان . ترى هل أنت حقاً صديق وفي يا .. زمن . لا يا زمن لقد خنت كل شيء بيننا .
سوف ينشر بإذن الله يوم الأربعاء 15/1/2003 بجريدة عمان .
موعدنا التالي مع مقال كنت قد طرحت إسمه مسبقاً ونشر يوم الأحد الفائت بالجريدة وهو بعنوان ( وحيداً على مقعد الغربة ) .