أواه يا زمن إن روافد الأنهار فيك قد تكسرت وتلوثت مياهها بمستنقعات الأسى فانتحرت كل الأنهار بأكملها ملقية نفسها بين أفواه البحار المفتوحة وأنت تنتظر أن يلد جرح جديد وموت جديد لنهر جديد ، وهناك في الأفق طائر حائر ظل سربه منذ عشرة أعوام والآن هو يغرد وحيداً يبكي ألمه ويبحث عن سربه المفقود . لكنك يا زمن تداهمه بهذا الليل المظلم فيتوه بوحدته بين خضم سوادك وعذابات الأقدار وبين حظه الرديئ فيحاول أن يتخلص من حصار هذا الليل لكنه لا يعلم أن لليلك هذا إمتداد طويل ، ولا يعلم أن ليس لهذا الليل مدينة يقيم فيها فيظل محلقاً ومتجهاً نحو البعيد في رحلة إكتشاف فجر ما تستفيق من خلاله الشمس ، ويطول به التحليق حتى إذا ما تعبت جناحاه قرر أن يحط بهما على أطراف غصن يأويه لكنه وفي هذا الظلام كان لا يعلم أنه يتجه نحو فضاء البحر الممتد هو الآخر وحينما حط تجاوز كل شيء فإحتضنه البحر بفاهه الواسع وأعلن في العمق نهاية إرتحاله وغربته ونهاية إكتشافه فتوالدت من تلك الأعماق نهاية أبدية لطائر سلك فضاءات غير فضاءاته وحيداً تائهاً يبحث عن سربه .
حتى نحن يا زمن فمن عدة أعوام ونحن نقيم خارج وطن الحب وخارج وطن السعادة .. منذ عدة أعوام ونحن نتعاطى مهدءات لتخفيف أنين هذه العظام التي أتعبها السير بين الردهات في الليالي الحالكة .. منذ عدة أعوام والجرح ينزف دون هوادة والحلم كعادته تسرقه الصباحات الكسلى ويظل الحزن مقيم بهيبته ووقاره وصمته ونحن نسير ببطء شديد نحو نهاية مأساوية منتظرة وكم أقمنا طقوس القرابين وأشعلنا الشموع وأحرقنا البخور وأنت مثلما أنت تاريخ مغلق بجنونك السابق لا تتعب بداً بل لتمارس في ذاتنا كل شيء قبيح وتصيب بسهامك كل أجنحة الأمل التي تتعلق ببقايا فكرنا ، فإلى متى تمتد فينا مواجع هذه الليالي وإلى متى نبقى على لوحة الإنتظار للعودة من هذه الغربة الطويلة ونحن في كل يوم نستقبل في هذه الغربة جرحاً جديد .
هناك يا زمن على تلك الجدران كانت خرائط أحلامنا رسمناها بالفحم والطباشير يوماً حينما كنا أطفالاً لا ندرك معنى الحياة .. هناك في تلك المدينة القابعة خلف الجبال وخلف الشمس وخلف الضباب وخلف المطر .. هناك كنا يوماً نحمل أحلامنا فوق رؤوسنا ونسير في طرقاتها دون أن يجلدنا الزمن بسياطه أو ترفضنا تلك الطرقات هكذا بشرعية بريئة مجنونة في نهارات جميلة وليال صاخبة نتبادل الحب بكلمات عارية فيها كثير من الإنتصارات دون أن أي حساب أو خوف منك أيها الزمن لكنك وفي غفلة مباغتة رفضتنا أنت ورفضتنا المدينة حتى أنك لم تمنحنا فرصة السؤال أو الحديث أو حتى الإستفسار ولم يكن لنا إلا أن نقلب صفحاتك بحزن مرير وإحتراق لا ينتهي يضاف إليه ألم الموت.
جزء من مقالي