مع الانبياء ... تفاصيل جميع الانبياء بطريقة رائعة

    • رفع مستوى الأخوة






      كان أيضًا من مظاهر الإيجابية في فترة مكة تنمية مشاعر الأخوة في الله بين المؤمنين على اختلاف مستوياتهم.

      أخوة لا تُبْنى إلا على عقيدة، لا فرق بين غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا قبيلة وأخرى، لا فرق بين عربي وأعجمي، فالكل مسلمون والكل مؤمنون.


      وإن زرع الأخوة في هذه القلوب المتنافرة لهو أمر شاق، لو أُنفقت فيه أموال الأرض ما كان أن يتم إلا أن يشاء الله، يقول تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].


      ونتيجة لهذه الأخوة الصادقة أصبح كل مؤمن يخاف على أخيه أكثر مما يخاف على نفسه، وإنها لتعد قوة ضخمة في جيش المؤمنين، قوة قد تمكث الأمم قرونًا من الأزمان لا تستطيع أن تزرعها في قلوب أجنادها.

      وهذه القوة (قوة الأخوة) والتي تم بناؤها في هذه الفترة المكية بمجهود عظيم وتربية مستمرة هي التي دفعت رجلاً مثل الصديق لأن ينفق أمواله ميمنة وميسرة لكي يعتق إخوانه المستضعفين من المؤمنين من رقهم؛ إذ لم يعد للمال قيمة في عينه حينما قارنه بنعمة الأخوة، فتراه وكأنه ينقذ نفسه هو، فكان يشتري الضعفاء الأرقاء -رجالاً ونساءً- لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.


      وهو الأمر الذي جعل أباه أبا قحافة، الذي لم يكن على مثل هذه التربية، يتعجب من إنفاق ابنه لأمواله الخاصة في عتق أنفسٍ ضعاف لا تربطهم به صلة ولا نسب، فقال له ناصحًا: يا بُنيَّ، أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟


      وفي يقين قال أبو بكر : يا أبتِ، إنما أريد بذلك وجه الله . فأنزل الله قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17- 21].


      وإن قوة الأخوة هذه التي بنيت في مكة ظلت مع المؤمنين في كل فترات حياتهم بعد ذلك، فظلت معهم في المدينة، وظلت معهم بعد ذلك بعد وفاة الرسول ، وظلت معهم بعد التمكين، وظلت معهم بعد كثرة الأموال، وظلت معهم رغم اختلاف العناصر والقبائل، ظلت معهم لأن الأساس كان قويًّا، ولأن الأساس قد بُني في فترة الاستضعاف في مكة، فتلك إذن وظيفة مهمة وثقيلة في ذات الوقت، وعلى المؤمنين أن يعملوا على استعادتها على الدوام.

      الدفاع عن النفس





      مظهر آخر من مظاهر الإيجابية ظهر أحيانًا في فترة الاستضعاف وهو الدفاع عن النفس. وقد يبدو في الظاهر أن هذا الدفاع مخالف لقاعدة الكف عن القتال، إلا أن الحقيقة أنه لم يكن ثمة تعارض على الإطلاق، وهذه بعض الحوادث التي حدثت في هذه الفترة بمكة، والتي تفسر لنا كيف كان المؤمنون يدافعون عن أنفسهم أحيانًا ودون مخالفة للمبدأ العام.

      فقد رأى رجل سعد بن أبي وقاص يصلي ذات يوم في الصحراء، فجعل يسخر منه ومن صلاته، فما كان من سعد إلا أن حمل قطعة عظم كانت بجواره وقذفه بها، فأريق دم الرجل، وكان ذلك أول دم أريق في الإسلام.


      وهذا الذي كان من سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه كان من بني زهرة، وله منعة وقوة في شخصه، فكان أن رد وبصورة فردية، بمعنى أن هذا الأمر لم يتطور إلى ثورة عامة في مكة، حيث لم يذهب سعد ويجمع المسلمين أو حتى يجمع قبيلته، فكان موقفًا عابرًا، اعتمد فيه على قوته وعلى منعته فانتقم لنفسه.

      وفي هذا الموقف لم ينكر عليه رسول الله ؛ وذلك لأنه لم يكن هناك أثر سلبي على عموم المسلمين، بل على العكس من ذلك فقد كان لذلك الحدث أثر إيجابي عليهم؛ إذ إن المسلمين -ولا شك- أضحوا سعداء حينما شاهدوا صورة من صور الانتصار، التي أشفت بعضًا مما في صدورهم، وأذهبت بعضًا من غيظ قلوبهم.

      وهكذا فإنه إذا كان لداعية منعة واستغلها بصورة فردية لرفع الظلم أو رد كيد، فإن هذا يفيد في هذه المرحلة.

      ومثل موقف سعد بن أبي وقاص كان موقف الصديق ، وذلك حينما اجتمع أشراف قريش يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه سلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.

      فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك. ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، وكان قد تملك الشر منهم، وباتوا على أبواب جريمة كبيرة.

      وهنا تدخل الصديق يدافع عن رسول الله ، ويصدّ الناس عنه وهو يبكي من شدة تأثره ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!


      ولا شك أن تدخل الصديق هنا كان من الأهمية بمكان، ولا يتعارض مع طبيعة المرحلة؛ فالرسول رأس الأمة، والقائد الذي لا يعوض، ولا بد أن يفتديه أبو بكر بنفسه، فتحرك لذلك.

      إلا أن الملاحظ أن تحرك أبي بكر كان تحركًا فرديًّا، فهو لم يسعَ إلى تحفيز المسلمين ولم يجمعهم، وإنما كان تحركًا فرديًّا لكنه كان مدروسًا.


      فكان أبو بكر رجلاً ذا مكانة في قريش، وكان تحركه قد يغير من الوضع ومن الموقف، وهو بالفعل قد غيَّر وأفاد، وانتهى الموقف دون تطور، وأنقذ رسول الله .


      وهذا الموقف يجعلنا نعرج على موقف آخر كان قد تعرض له رسول الله في غياب الصديق وفي حضور عبد الله بن مسعود ، الذي ليست له منعة وقوة، والذي لن يأبه له أحد، فكان تحركه هنا لن يفيد، بل كان من الممكن أن يقتل وفي نفس الوقت سيظل الموقف كما هو، فكانت الحكمة إذن تقتضي ألاّ يتدخل.


      يقول عبد الله بن مسعود كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "إِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ".


      وهنا تتبدى الحسرة في كلام ابن مسعود ؛ إذ لو كان تقدمه لحماية الرسول سيفيد لما تردد، ولكن بغير منعة سيصبح التقدم مخالفة؛ لأنه كشف لأوراق المسلمين وإشعال فتنة في مكة، وكل ذلك دون نتيجة ملموسة، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود وآثر ألاّ يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته هذا يعني رضاه.



      قال عبد الله بن مسعود: "فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ". وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.


      ومن هنا فإن المسلمين وإن كانوا مأمورين بالكف عن القتال في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، غير أنهم كانوا يتمتعون بإيجابية عالية في إطار الإمكانات المتاحة والحدود المسموح بها في هذه الفترة، والتي تمثلت في:

      - إيجابية الارتقاء بالمستوى الإيماني.

      - إيجابية الارتقاء بمستوى الأخوة.


      - إيجابية الدفاع عن النفس أو عن الغير في ظروف معينة.

      - أضف إلى ذلك أيضًا إيجابية الدعوة؛ فإن الدعوة في هذه الظروف لم تعرف التوقف، وقد استمر عدد المسلمين في الارتفاع، وقد عمل المسلمون جميعًا في هذا المجال كل بحسب طاقته.

      بل إن الدعوة خرجت من نطاق مكة إلى خارجها، وسيأتي يوم يستحيل فيه استئصال المؤمنين؛ وذلك لكثرتهم وتوزعهم على أماكن كثيرة وقبائل متعددة.

      كل هذه كانت مظاهر للإيجابية، ولا يستقيم أبدًا للمؤمن العاقل الفاهم الواعي أن يشكو الفتور أو الكسل أو ضعف الهمة، حتى في أشد فترات الاستضعاف.



    • ممتاز شد إنتبااهي أهتمامك الكبير بإكمال البرنامج ....تسلم عزيزي ....
      ....لاإله إلا الله ...... محمد رسول الله ........... ..........صلى الله عليه وسلم .....................
    • [h=2]الدعوة تنتقل إلى مرحلة جديدة
      [/h]

      أما ما كان بعد ذلك، فقد زاد تهور أهل الباطل في مكة، وزاد التعذيب، وضُيِّق الأمر بشدة على المؤمنين.

      وهنا انتقل رسول الله من هذه المرحلة التي باتت وكأنها أوشكت على الانتهاء إلى مرحلة أخرى جديدة، تناسب الحرب الضارية التي يشنها أهل الباطل في مكة.

      لقد بدأ أهل الإيمان يتزايدون، وأصبح من الصعوبة بمكان أن يختفي كل هؤلاء في البلد الصغير مكة؛ لأنه سينكشف أمرهم لا محالة، والمصير هو التعذيب والتقتيل، والمسلمون بعدُ ليست لهم طاقة بحرب أهل الباطل، فماذا يفعلون؟!


      لقد أخذ الرسول القرار الجديد الجريء، إنه قرار الهجرة إلى الحبشة.



    • [h=1]التفكير في الهجرة إلى الحبشة
      [/h]

      بعد التعذيب الشديد للمسلمين في أرض مكة وفي بيت الله الحرام، وبعد أن تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، كان قد بدا واضحًا أن النية هي الاستئصال، فماذا يحدث لو هلك المؤمنون؟! وماذا يحدث لو هلكت هذه العصابة، وتلك الطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض؟!


      فكانت مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله وعلى عاتق أتباعه، وهي الوصول بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعًا؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاًَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وكما يقول : "إِنَّمَا بُعْثِتُ لَكُمْ خَاصَّةً وَلِلنَّاسِ عَامَّةً".



      [h=2]التفكير في أمر الهجرة[/h]

      اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك كنوع من الأخذ بالأسباب، فقد قام الرسول بتخطيط بشري لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين.

      كان من السهل الميسور أن ينقذ الله حبيبه وينقذ المؤمنين بكلمة كن، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، لكن هذه ليست سنة الله في التغيير، فقام رسول الله ليعلمنا أن نأخذ بأسباب واقعية، هي في يده كبشر، وهي في أيدينا كبشر، فكر رسول الله في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، وتكون في ذات الوقت في مقدور المؤمنين في كل الظروف، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين؛ فقد نهاهم الله عن ذلك {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. إذن فلتكن الوسيلة الجديدة هي الهجرة، الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء، ليس فيها استئصال للدعوة.



      كانت هذه خطوة تكتيكية من رسول الله سبقتها إشارات جاءت في القرآن الكريم في هذه الآونة، حيث نزل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر: 10].


      فأرض الله إذن واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي التي يعبد فيها الله ، لا تفضلها قطعة أخرى بأنهار أو أشجار، أو بأموال أو بأهل أو عشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله ، ومن ثم فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض (مكة) إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله كما يريدون، فليكن إذن في غيرها، حيث الأهم أن يعبدوا الله دون أن يفتنوا في دينهم.


    • [h=2]الهجرة وأصعب قرار
      [/h]

      كان قرار الهجرة وترك الديار والعشيرة والأموال والأولاد ليس بالأمر الهين، إنما هو قرار في غاية الصعوبة، وإنما هو قرار يحتاج إلى نفوس خاصة، مع الأخذ في الاعتبار أنهم لم يقصدوا بهذه الهجرة تحسين مستوًى أفضل للمعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للعيش في مكان هادئ أو جميل، إنهم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، يتركونها إلى بلد آخر، قد يكون فقيرًا، وقد يكون بعيدًا، وقد يكون حارًّا أو باردًا، وقد يكون مجهولاً، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله .

      قرار صعب جدًّا، ولنتخيله بمقاييس الحاضر، رجل يعيش مستقرًّا، في بلد هو الأحب إلى قلبه، في مصر أو المغرب أو تونس أو السعودية أو الإمارات، يعيش في بلد مستقر، وأوضاعه مستقرة ثم هو يقرر أن يهاجر مثلاً إلى الصومال كي يعبد الله هناك بعد أن ضُيِّق عليه في بلده. قرار صعب جدًّا، فلو كان سيهاجر إلى بلد أعظم رفاهية أو أكثر أموالاً لكان هذا سهلاً، لكن أن يهاجر إلى بلد لا تهفو النفوس إليها عادةً، فهذا يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم.

      ومن هنا عظَّم الله كثيرًا من أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58، 59].


      لقد هاجر المؤمنون ليس سعيًا وراء الرزق، بل إن ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ وذلك لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد قد لا يتوافر فيه العمل المناسب، وهنا يعدهم الله بالرزق الحسن في الجنة، فعلى أسوأ الفروض في حسابات البشر أن هؤلاء المهاجرين سيقتلون أو يموتون، ووعدهم الله - ووعده الحق - أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقًا حسنًا، إضافةً إلى أنه قد عُلم عند المؤمنين أن رزقهم في الدنيا لا ينقص، ستأتيهم أرزاقهم رغمًا عنهم، في بلدهم أو في خارجها، في عمل أو في آخر {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].


      [h=2]الهجرة حفاظ على الدعوة أم حفاظ على الدعاة؟[/h]

      في قرار الهجرة قد يثار سؤال مهم، مفاده: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم للحفاظ على الدعاة؟ فهل يُضحَّى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة أم يُضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟

      وواقع الأمر أن أكثر ما يهم المؤمن في حياته إنما هو الدين، حيث إنه المقصد الأول من مقاصد الشريعة التي جاء الشرع لحمايته، ومن أجل الدين يُضحى بكل شيء، والمؤمنون يبذلون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكنهم لا يبذلون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل إن الله حث المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظًا على دينهم فقال: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].



      وقال أيضًا: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74].


      ومن هنا فقد كان السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله هو حماية الدعوة، وهذا يعني أن رسول الله أراد أن يجعل للدعوة محضنًا آخر غير مكة، حتى إذا استُؤصل الدعاة من مكة تكون ما زالت هناك طائفة أخرى وفي مكان آخر لاستمرار طريق الدعوة. فكان من الحكمة إذن أن يكون للدعوة أكثر من مركز وأكثر من مكان؛ حتى إذا أغلق واحد منها استمر الآخر وظل في عمله، وكما يقولون: لا تضع بيضك كله في سلة واحدة.

      فلم يكن السبب الأول في الهجرة إذن هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا من الأهمية بمكان، ويؤيد هذا الرأي الملاحظات التالية:

      الملاحظة الأولى: أن أمر الهجرة كان لفئة خاصة من المؤمنين.

      فلقد طُلبت الهجرة من القرشيين ولم تطلب من العَبِيد، أو من الذين كانوا عبيدًا، وقد هاجر الذين يتمتعون بعصبية وقبلية تستطيع أن توفر لهم الحماية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة ولم يهاجر الموالي المستضعفون، ولو كان الهدف الأول حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء، وإن هذا ليجرنا إلى سؤال آخر وهو: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟! ولماذا أمر رسول الله الأشراف بالهجرة ولم يأمر العبيد؟!

      1- لأن هذا أدعى لحمايتهم؛ فأمر الهجرة أمر جِدُّ خطير، وقد تطارد مكة فوج المهاجرين، وفي لحظات من الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، خاصة إذا كانوا عبيدًا، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة تصبح أقل خطورة من سابقتها؛ حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم حملاً إلى مكة، ولن يفكروا أبدًا في قتلهم؛ وذلك لمنعة قبائلهم.


      2- أن الأشراف هؤلاء سيكونون أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ إذ إنه قد اقتضت طبيعة البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم يؤبه له، وكان الغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض هذا الأمر بأفضل صورة ممكنة، وفي هذه الحالة أيضًا سيستقبل المهاجرون على أنهم وفد سياسي معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم.


      3- أن هجرة الأشراف هذه ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة؛ فمثل هذه الهجرة ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم خيرة أهل البلد، وهم من أكثر الناس سعيًا لإصلاحها، وهم أيضًا من أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، ثم ها هم يغادرون البلد لأنهم لم يجدوا فيها أمانًا، فما أبشع فعل أهل الباطل هذا، وما أشنع الجريمة، أهؤلاء هم الذين يطردون؟! أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟!


      ومن هنا تكون هجرة الأشراف -ولا شك- صدمة قوية لأهل مكة، قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إنه إذا كان قد هاجر المستضعفون فرد الفعل هو: لا ضير، أليسوا عبيدًا تركوا البلد، فلنأتِ بعبيد آخرين، وهذا ما كان سيفكر فيه الطغاة، ضاربين عرض الحائط اعتبار الآدمية والإنسانية، وبهذا يكون الرسول قد دفع المشركين دفعًا إلى تحريك عواطفهم ومشاعرهم لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله.

      الملاحظة الثانية: طول الفترة التي قضاها المهاجرون في بلد الهجرة.

      ومما يؤكد على أن الهجرة إنما كانت لحماية الدعوة هو الفترة التي قضاها المهاجرون في مهجرهم، ولننظر: متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد؟ هل عادوا في فترة مكة، أم عادوا في فترة المدينة؟

      والواقع أن المهاجرين مكثوا في الحبشة حوالي خمس عشرة سنة متتالية، ولم يعودوا إلا بعد أن اطمأنُّوا إلى زوال خطر استئصال الدعوة، فقد هاجر المسلمون هجرتهم الأولى إلى الحبشة في شهر رجب من العام الخامس من البعثة، ثم عادوا سريعًا إلى مكة بعد ثلاثة أشهر كما سيأتي بيانه، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة، وقد مكثوا فيها طيلة اثنتي عشرة سنة كاملة، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر.


      وقد مرت في هذه الأثناء أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين، ومرت أحداث عظيمة جدًّا في بناء الأمة الإسلامية، ورغم ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن ذلك اجتهادًا منهم، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول الله ، فكانت قد مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وكان قد مر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعبًا جدًّا، وكان عدد المسلمين آنذاك قليلاً، وهم في الحبشة قد تجاوزوا الثمانين (كان عدد المهاجرين في بدر هو تقريبًا نفس عدد المهاجرين في الحبشة تجاوز الثمانين بقليل)، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله ، ثم مرت الغزوات العظام؛ مرت بدر، ثم بنو قينقاع، ثم أُحد، ثم بنو النضير، ثم الأحزاب، ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير والمهم في مسيرة الدولة الإسلامية وهو صلح الحديبية، ولم يطلبهم بعد رسول الله .



    • [h=2]دور المهاجرين إلى الحبشة
      [/h]

      بعد صلح الحديبية وبعد أن أَمِن المسلمون على أنفسهم، وأصبحوا دولة مهيبة ودولة ذات كيان، حيث باتت تعقد الأحلاف والمعاهدات، وأصبح يرهب جانبها ويبجل رأيها، هنا شعر رسول الله أنه أصبح من الصعوبة استئصال المسلمين، وقد كان ذلك ممكنًا في أي وقت قبل صلح الحديبية، وكان أقرب مثال على ذلك موقعة الأحزاب، حيث أراد الكفار الإنهاء الجذري للإسلام في المدينة، لكن الله كتب النصر للمؤمنين، وعبروا كما يقولون من عنق الزجاجة، وقال : "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَ".



      وهنا وبعد أن شعر رسول الله بأول لحظات الأمان في المدينة أرسل في طلب المهاجرين في الحبشة، فأرسل إليهم عمرو بن أمية فقدموا في العام السابع من الهجرة، وذلك بعد فتح خيبر.


      فكان رسول الله يتعامل مع الأمور بحكمة سياسية رائعة، وكان قد عمل على أن يحافظ للمسلمين على نواة أخرى في مكان آخر مثل الحبشة، فإذا هلك المسلمون في المدينة حمل المهاجرون في الحبشة اللواء من جديد.

      إذن فقد كان المسلمون في الحبشة يقومون بدور في غاية الأهمية، فكانوا كالمخزون الإستراتيجي المهم للمسلمين، وكانوا أيضًا على أتم استعداد للرجوع إلى المدينة في أي لحظة تطلب منهم القيادة ذلك، فكانت الأدوار موزعة على المسلمين بدقة متناهية، فطائفة منهم تقوم بالبناء في وضوح في أواخر الفترة المكية وفي فترة المدينة، وهي معرضة لخطر شديد وتقابل الموت في كل لحظة، وطائفة أخرى كامنة في الحبشة تترصد دورها، وهي وإن كان ظاهر أمرها أنها غير معرَّضة للأذى، إلا أن مهمتها كانت في غاية الخطورة، لقد كان عليهم أن يحملوا الدعوة بمفردهم إذا هلك المسلمون في المدينة، وكيف لا وقد يموت رسول الله ومن ثَمَّ تصبح الأمانة معلقة في رقابهم وحدهم.


      [h=2]المهاجرين في الحبشة[/h]

      حيال الوضع السابق كان هناك تعليقان من الأهمية بمكان هما:

      [h=3]التعليق الأول:[/h] وهو أن هذا التوزيع للأدوار تم بمعرفة قيادة المسلمين المتمثلة في شخص رسول الله ، وقد كان هناك طاعة عظيمة جدًّا له من قِبل الطرفين، الطرف الذي يعمل في المدينة والطرف الآخر الذي يعمل في الحبشة، وكان ذلك لأنه لو ترك الأمر لكل فرد على حدة لدخل الهوى في اختياره، فقد يكون هوى المرء أن يظل بعيدًا عن أرض القتال؛ حيث الأمان هناك في الحبشة، وقد يكون هوى المرء أن يعمل للإسلام في مكان معين، كأن يحب أن يعمل مثلاً بجوار رسول الله ، أو يحب أن يكون عاملاً في قبيلة كذا أو كذا، وحتى لا يتدخل الهوى في الاختيار وزع القائد الأدوار على المسلمين، وأطاع المسلمون في أدب جم، حيث لا يشترط الجندي الصادق عملاً معينًا أو مكانًا معينًا؛ فالجندي في الإسلام يعمل لله وفي كل مكان يوضع فيه يعمل بنفس الحمية.


      وقد تجسد مثل هذا العمل في سلوك عمرو بن العاص حين قال للصديق لما عرض عليه أن يترك إمارة عمان ويتولى قيادة جيش من جيوش فتح الشام، قال عمرو: "إنما أنا سهم من سهام الإسلام، وأنت الرامي بها، فارمِ به أينما شئت".


      وإن هذا التوزيع ليحتاج أيضًا إلى كثير تنظيم، ولا بد من معرفة من الذي يقوم بهذا الدور، ومن الذي يقوم بالدور الآخر، وهذا كله يرجع إلى قيادة المسلمين وإلى الشورى وإلى رأي المجموع، وكل ذلك من أساسيات العمل الجماعي السليم، والذي علّمنا إياه رسول الله .

      [h=3]التعليق الثاني:[/h] وهو أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لم يكونوا في حالة ركون أو فتور، بل كانوا في إعداد دائم وتدريب مستمر، لقد كان المستوى الإيماني لهم فوق العادة، وكان الاستعداد النفسي للعودة والمشاركة والوقوف في الصدارة وفي مواجهة الموت؛ كان استعدادهم لمثل كل هذه الأمور استعدادًا كاملاً، وإن مما يثبت ذلك أنه لما جاءتهم إشارة العودة عادوا للتوّ ودونما ضجر أو تردد أو اعتراض أو إبطاء، ودونما طلب لفترة تجهيز أو انتقال، وأيضًا ما كان منهم حين وصلوا إلى المدينة، حيث انخرطوا سريعًا في الصف الإسلامي، وحملوا المشاق مع المسلمين وكأنهم عاشوا معهم كل التجارب السابقة، فبمجرد وصولهم المدينة علموا أن رسول الله يفتح خيبر (على بُعد حوالي مائة كيلو متر من المدينة)، فما كان منهم إلا أن توجهوا جميعًا مباشرة إلى خيبر للمشاركة في الغزو، ووجدوها قد فتحت، وقد سُرَّ بهم رسول الله كثيرًا وقال: "وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَفْرَحُ؟" وفي رواية: "بِأَيِّهِمَا أُسَرُّ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟"، ثم قسم لهم من غنائم خيبر وكأنهم شاركوا فيها.


      ثم ها هو جعفر بن أبي طالب t بعد أن عاد بسنة واحدة (ثلاثة عشر شهرًا) يخرج مجاهدًا في سبيل الله في سرية مؤتة، بل كان أحد قوَّادها، ورأينا كيف قاتل دونما تردد، وكيف أقدم دونما إحجام، وكيف ثبت دونما فرار، وكيف استشهد دونما خوف أو وجل، إذ كانت فترة الحبشة إعدادًا وتربية وصقلاً للنفوس، ولم تكن أبدًا هروبًا من الواقع، وكان جعفر قد جاء من الحبشة وهو في أتم استعداد للقتال في سبيل الله.



    • [h=1]الهجرة الأولى إلى الحبشة
      [/h]


      [h=2]لماذا الحبشة دون غيرها؟
      [/h]كانت الهجرة إلى الحبشة من أجل إنشاء مركز جديد للدعوة، يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة، لكن السؤال الآن: لماذا اختار رسول الله الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟!
      إن رسول الله -ولا شك- قد فكر كثيرًا في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن التي بدرت إلى ذهنه هو أن يرسلهم إلى إحدى قبائل الجزيرة العربية الكثيرة.

      لقد كان في جزيرة العرب تجمعات قبلية كبيرة وكثيرة، فكانت هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة، وغيرها كثير مثل غطفان وبني بكر وبني عامر، وهذه القبائل لها الميزة والأولوية في كونها تعيش في ظروف مقاربة تمامًا لظروف المسلمين في مكة؛ ومن ثَمَّ فلن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، وهذا بالإضافة إلى كونهم يتكلمون العربية، وقرب مكانهم من مكة؛ وعليه فإنه إذا احتاج رسول الله إلى المسلمين فإنهم ما يلبثون أن يقدموا سريعًا، لكن العقبة في هذا التوجه كانت تكمن في أن هذه القبائل جميعها مشركة، وهي وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين إلا أنها كلها كانت تعظّم قريشًا، وعلى هذا فإنه إذا طلب القرشيون المسلمين فلن تتردد مثل هذه القبائل أن تدفع المسلمين إليهم، إذن فلم يكن هذا الخيار صائبًا.

      ولعل الرسول قد فكر في يثرب -المدينة المنورة- لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن بها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب جدًّا، حيث الحروب ما زالت على أشدها بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود ومنذ زمن بعيد يسكنون هذه البلاد، وكان تاريخهم فيها وفي غيرها لا يبشر بخير.

      ولعل رسول الله فكر في العراق أيضًا، حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل بني شيبان وغيرها، لكن هذه القبائل -إضافةً إلى كونها مشركة- كانت على ولاءٍ شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلم يكن كسرى فارس ليرحب بمثل هذا القدوم للمسلمين.

      ولعل الرسول أيضًا قد فكر في الشام، حيث القبائل العربية مثل قبائل الغساسنة، لكنها وعلى الجانب الآخر كانت موالية للروم، ولن ترحب أيضًا باستقبال هذه الدعوة الجديدة.

      ولعله كذلك قد فكر في مصر، لكن مصر وبرغم أن بها ملكًا معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها كانت محتلة من قِبل الرومان ولا تملك من أمرها شيئًا.

      ولعله أيضًا قد فكر في اليمن، لكن اليمن أيضًا كانت محتلة من قِبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين...

      لا شك أنه قد فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية، وغالبها عربية باستثناء مصر، لكنه لم يجدها مناسبة، وهنا بزغ في ذهن رسول الله الاختيار الأخير، الذي بدا اختيارًا عجيبًا في نظر الكثيرين، حتى في نظر المعاصرين له وهذا الاختيار هو الحبشة، وكان اختيار الحبشة اختيارًا عجيبًا حقًّا، وهو إن دل على شيء فإنه إنما يدل على سعة اطلاعه وعلى حكمته في ذات الوقت، فرغم أن بالحبشة بعض العيوب الملموسة، إلا أن مزايا اختيارها كانت تفوق عيوبها كثيرًا.

      وقد كان من أهم عيوب اختيار الحبشة هو أنها بعيدة عن مكة، ومن ثم فقد تصعب عملية الاتصال أو المراسلات، كذلك أيضًا كان من هذه العيوب اختلاف لغتها (لغة الحبشة) عن لغة المهاجرين؛ حيث لم يكونوا يتكلمون العربية، وأيضًا كانت العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيرًا عن عادات وطبائع العرب والجزيرة العربية؛ مما قد يؤدي إلى صعوبة نسبية في الحياة هناك، كانت هذه هي عيوب اختيار الحبشة مكانًا لهجرة المسلمين، لكن إذا نظرنا إلى مزايا هذا الاختيار كمكان للهجرة نجد فيه الكثير.


    • مميزات الهجرة إلى الحبشة





      أولاً: عدل حاكم الحبشة


      قال رسول الله لأصحابه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إلى الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ". فلم يعلق رسول الله على شيء في حياة هذا الرجل ولا دينه، إنما فقط علق على عدله.


      وما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بيّن من أهل مكة، والظالم لا ينظر ولا يهتم ولا يكترث بحقوق غيره، أما النجاشي ملك الحبشة فقد كان عادلاً؛ وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بصرف النظر عن ديانتهم، بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم، حيث العدل من أُسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا، وبدونه لن ينجو الإنسان في الآخرة.


      وكان من سعة أفق الرسول وشمول نظرته وعمق تفكيره أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية كبيرة لأصحابه، وهو درس للدعاة في أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم حتى في زمان الاستضعاف؛ فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من هؤلاء بصرف النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم، وكانت تلك من المميزات الرئيسية في اختيار الحبشة.

      ثانيًا: أهل الحبشة هم أهل كتاب

      فقد كان المسلمون يشعرون بقرب من النصارى؛ حيث إنهم أهل كتاب أيضًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وقد شعر رسول الله والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وسبحان الله! فقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة مؤكدًا لهذه المعاني، فقال : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].


      ومع الأسف، فإن معظم النصارى في أرض الحبشة في ذلك الوقت كانت لهم اعتقادات منحرفة؛ وذلك نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل، لكن كان بعضهم ما يزال صحيح الاعتقاد، وكان النجاشي رحمه الله من هؤلاء، وقد أفاد هذا كثيرًا كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين.

      ثالثًا: الحبشة بعيدة عن مكة

      ومع أن هذا يعدّ عيبًا؛ لأن البعد عن مكة يجعل الاتصال بين الرسول وبين المهاجرين صعبًا وشاقًّا ومكلفًا إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين بعيدًا عن بطش أهل الباطل في مكة وما حولها من الأماكن التي يمتد إليها نفوذهم.

      رابعًا: الحبشة بلد مستقل

      كانت الحبشة مملكة مستقلة ليس لأحد عليها سلطان، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، إلا أن هذه التبعية كانت تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة إذن من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس أو غيرهم رأيًا على أهل الحبشة.


      خامسًا: الحبشة بلد قوي في المنطقة وعليها ملك عظيم

      فقد كان للحبشة اسم قوي في ذاك الزمن، وكان أهل مكة يعظمون ملكها كثيرًا، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، ومثل هذا الأمر كان من الممكن أن يكون عيبًا لكن في حال إذا كان ملك الحبشة ظالمًا، أما وإن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل؛ فهذا يوفر حماية كبيرة وأكيدة للمهاجرين.


      وإن هذا ليضع على عاتق قريش أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب، فكانت قوة الحبشة وقوة ملكها إضافة إلى حاجز البحر وبُعد المسافة من العوامل المهمة التي تحول دون هذا التفكير في الغزو، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب فيها تسليم المهاجرين، وإن كان الملك عادلاً فإنه -ولا شك- سيرفض تسليم زوّاره وضيوفه.
      [h=3]سادسًا: الحبشة بلد تجاري وصاحب قوة اقتصادية
      [/h] كانت الحبشة في ذلك الوقت ذات قوة اقتصادية معقولة، ولا يخشى عليها من حدوث أزمات اقتصادية، وذلك نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا - ولا شك - سيعمل على توفير الأمان والاستقرار للمؤمنين، وفي ذات الوقت فلن يغير من نفسيات أهل الحبشة؛ فهم لم يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.

      لهذه الأسباب مجتمعة -وقد يكون لغيرها- كان اختيار الحبشة اختيارًا موفقًا جدًّا، وقد بدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك، ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.



    • [h=2]المهاجرون إلى الحبشة
      [/h]

      بعد هذا الاختيار السابق أمر رسول الله أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة إلى الحبشة، عشرة رجال وأربع نسوة وكانت النسوة أزواج أربعة من المهاجرين، فكانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأمام هذه الطليعة نود أن نقف وقفتين في غاية الأهمية.




      [h=3]الوقفة الأولى: مَن أول من هاجر من المسلمين؟[/h] في مطالعة للأسماء التي هاجرت، كان الاسم الأول هو: عثمان بن عفان الأموي وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله ، ويا لهذا من موقف وتعبير، وإن لهذا الأمر أبعادًا عظيمة تجعل بل تزيد من التأكيد أن أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، فلقد أصدر رسول الله أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه ويجعلها بمنأى عن الأذى من جراء هذه الهجرة، وها هي ابنته السيدة رقية، حبيبة قلبه، وقطعة من جسده، تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، وها هو رسول الله يذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين.


      إن من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، فما أسهل أن تأمر بالتقشف! وما أسهل أن تأمر بالإخلاص! وما أسهل أن تأمر بالتضحية! وما أسهل أن تأمر بالجهاد! وما أسهل أن تأمر بالهجرة! بل ما أسهل أن تأمر بالموت! لكن ذلك كله لن يتأثر به أحد إلا إذا قُرن بعمل، وها هي التربية بالقدوة رسالةٌ من رسول الله إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزلْ إليهم، وعشْ معهم وخالطهم، افرح بما به يفرحون، وتألم مما منه يتألمون، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم.

      وقد كان الاسم الثاني في هذه الهجرة أيضًا من بيت رسول الله إنه: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله الهاشميّ القرشي الشريف، حيث هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها. وكذلك كانت بقية الأسماء التي هاجرت، كان غالبيتها من بيوتات الشرف والمكانة والمنعة في مكة، فكان منهم:


      عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، والزبير بن العوام من بني أسد، وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم، وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وعثمان بن مظعون من بني جمح، وهكذا.


      [h=3]الوقفة الثانية: المسلمون وأسباب نجاح الهجرة[/h] المطلع على حال الهجرة يَرى أن المسلمين قد أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة التي هي في أيديهم، فعملوا على ما يلي:


      أولاً: خرج المسلمون في سرية كاملة، ولم يُعلموا أحدًا بهجرتهم.


      ثانيًا: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.


      ثالثًا: ولضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله أميرًا عليهم من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون .


      رابعًا: التنوع الملموس من قبائل مكة، فقد أخرج الرسول من كل قبيلة رجلاً؛ وبذلك فلن تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، وأصبح الموقف صعبًا جدًّا عليهم، وكانت هذه هي الخطة نفسها التي استعملها بعد ذلك أبو جهل عند محاولته قتل رسول الله عند هجرته إلى المدينة؛ وذلك ليتفرق دمه بين القبائل.


      هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سوف يكون لهذا الوفد - الذي يضم خليطًا من قبائل مكة - تأثيرٌ واضح على ملك الحبشة، وكأنه يمثل سفارة رسمية تمثل شعب مكة، ومن ثم فلا يخطر على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، إنما يعلم أنها دعوة دينية أخلاقية، لا تفرق بين قبيلة وأخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.

      تخطيط وإبداع في الهجرة فعله رسول الله وأخذ فيه بكل الأسباب المادية؛ وذلك حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه . وبعد أن أخذ المسلمون بكامل الأسباب وخرجوا من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر.

      مع كل هذا، وسبحان الله! استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم ويلحقوا بهم، وهكذا؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، وعند هذا الحد كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة تمامًا، لكن المسلمون ابتهلوا إلى الله أن ينجيهم مما لحق بهم، وفي هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة، فركبوا فيهما وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم، لقد استنفد المسلمون ما في وسعهم وأخذوا بكامل الأسباب، ورغم ذلك أدركهم المشركون، تُرى لماذا أدركوهم؟!

      الحق أن المشركين لحقوا بالمسلمين ليلجأ المسلمون إلى الله، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله ، وليدركوا حق الإدراك أن الكون كله بيد الله يُصرّفه كيف يشاء.



    • [h=1]مكة وأحداث ما بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة
      [/h]

      [h=2]إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما[/h]
      كما توقع رسول الله وصل المسلمون بأمان إلى أرض الحبشة، واستقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم دار، ولم يلقوا عنتًا ولا إيذاءً ولا مشقة، وقد مرت الأيام والشهور، ثم حدث في مكة أمور عظام، وأحداث في ظاهرها بسيطة لكنها محطات تغيير مهمة، لا نقصد تغيير أوضاع مكة فقط، بل وتغيير خريطة العالم بعد ذلك، فماذا حدث في مكة؟

      أولاً: آمن حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله .


      ثانيًا: بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فقط آمن عمر بن الخطاب ، وستحمل الأيام مفاجآت عظيمة لأهل الأرض جميعًا، يرون فيها كيف أن هذا الرجل الذي آمن في هذه البلدة الصغيرة (مكة) سيوجه جيوش المؤمنين ليكسر شوكتي فارس والروم، وليوحد أطراف العالم في خلافة واحدة تحت ولاية خليفة واحد، آمن الفاروق عمر بن الخطاب في مكة، وبعد إسلامه حدثت تغييرات جذرية في سياسة المؤمنين، سنفصلها لاحقًا بمشيئة الله، ونعلق هنا فقط على ما كان له من أهمية في قضية الهجرة إلى الحبشة.


      فما إن آمن عمر بن الخطاب حتى ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثير من المسلمين إسلامهم بعد أن أذن لهم رسول الله ، وكان كما قال عبد الله بن مسعود : "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ". وقد قَلّ إلى حد كبير التعذيب الوحشي التي كانت تقوم به قريش للمؤمنين.


      وعاش المسلمون في مكة لحظات عظيمة من السعادة لم تمر بهم منذ زمن طويل، سعادة بإسلام البطلين العظيمين الجليلين، حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسعادة بالإحساس بالأمان النسبي الذي شعر به المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وسعادة بشعور العزة والفخر بهذا الدين وأتباعه. وما إن طارت أنباء هذه السعادة إلى الحبشة حتى تواصلت قلوب المؤمنين في الحبشة مع قلوب المؤمنين في مكة، وشعروا معهم بنفس السعادة التي شعروا بها، الأمر الذي زادهم حنينًا في العودة إلى أرض الوطن، وإلى أرض الأجداد والعشيرة، وإلى الكعبة والبيت الحرام والبلد الحرام، شعر المسلمون في الحبشة أنه في هذا التوقيت ستكون عودتهم ممكنة وسيكون الرجوع قريبًا.

    • [h=2]الكفار يسجدون لله تأثرا بالقرآن
      [/h]

      ومع هذا الحدث العظيم -حدث إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما- تزامن حدث آخر عجيب في مكة وفي ساحة البيت الحرام، وكان في رمضان في السنة الخامسة من البعثة، فقد كان من أساليب الكافرين لمنع الناس من التأثر بكلام الله أن يمنعوا أنفسهم من السماع أصلاً؛ لأنهم يعلمون أنه لو سمع أحدهم القرآن فقد يؤمن به، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26]. لكن الذي حدث في رمضان في السنة الخامسة من البعثة هو أن المشركين كانوا مجتمعين في البيت الحرام، وكان معهم المؤمنون أيضًا، وكان معهم رسول الله ، وقد شاهد رسول الله هذا الجمع الكبير من الناس (من الكافرين والمؤمنين)، فوقف فيهم ومُفاجِئًا لهم بدأ يقرأ سورة من سور القرآن الكريم، فقرأ عليهم سورة النجم كاملة:


      {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النَّجم: 1- 12].


      وقد أُخذ المشركون بروعة الآيات والكلمات، وقد بُهروا بهذا الكلام الغريب العجيب، الذي لا يقدر عليه بشر، فلم يحركوا ساكنًا، ونزلت الآيات كالقوارع على قلوبهم، خرست الألسنة، وتسمرت الأقدام، وتعلقت العيون برسول الله ، وأخذ رسول الله يكمل قراءته بصوته العذب، حتى إنه بدأ يقرأ آيات تُسفّه أصنامهم وآلهتهم المزعومة:


      {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النَّجم: 19- 23].


      ومع أن الآيات تهين آلهة قريش وتحقر من شأنها إلا أن المشركين لم ينبسوا بكلمة واحدة، بل ظلوا يستمعون القرآن مبهورين انبهارًا كاملاً، وأكمل رسول الله السورة بكاملها، وحين وصل إلى آية السجدة: {أَزِفَتِ الآَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا} [النَّجم: 57- 62].


      سجد رسول الله وسجد المؤمنون معه، لكن المفاجأة الكبرى أن المشركين أيضًا لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من السجود لله رب العالمين، سجدوا جميعًا مع رسول الله ، وقد طارت قلوبهم وذهلت عقولهم، ثم قاموا بعد السجود وقد أرعبتهم المفاجأة، لقد لمس الإيمان قلوبهم لحظة، ثم ما لبثوا أن نكسوا من جديد على رءوسهم متعجبين: ماذا فعلنا؟! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].


      وقد اجتمع المشركون في مكة ممن لم يحضر المشهد في البيت الحرام، وأخذوا في إلقاء اللوم والتأنيب على المشركين الذين سجدوا مع رسول الله وأُسقط في يد المشركين، ولم يدركوا ماذا يفعلون، ثم غلب عليهم شيطانهم وأوحى إليهم أن يفتروا الكذب على رسول الله ، فما كان منهم إلا أن أشاعوا أن رسول الله قد قرأ آيات معينة تعظم من شأن اللات والعزى؛ ولذلك لما جاءت آية السجود سجدوا تعظيمًا لآلهتهم، افتروا مثل هذه الفرية ليخرجوا بها من الإيمان الذي دخل قلوبهم رغمًا عن أنوفهم.



    • [h=2]العودة الأولى لمهاجري الحبشة إلى مكة
      [/h]

      ما يهمنا فيما سبق هو أن هذا الأمر قد طار إلى الحبشة بصورة مختلفة عما كان قد وقع، فلقد وصل إلى أسماع المسلمين في الحبشة أن مكة قد آمنت ودخل أهلها في الإسلام، وحدثتهم مخيلتهم بأنه قد آمن حمزة وعمر رضي الله عنهما وظهر المسلمون بوضوح وصاروا أعزة، ثم سجد المشركون مع رسول الله إيمانًا بما يقول، وقد أصبحت مكة الآن مسلمة، وهكذا ظن المسلمون في الحبشة، وكان موقفهم: ما الفائدة إذن في البقاء فيها بعد إيمان مكة؟!

      وحيال هذا الأمر نتعجب: كيف حدث هذا الخطأ في فهم المسلمين في أرض الحبشة؟! لا بد أن هناك من أخطأ في نقل الأخبار من مكة، أو أن هناك من أخطأ في فهم الخبر الصحيح، وفي كلتا الحالتين فقد ترتب على هذا الخطأ إرهاق شديد جدًّا للمسلمين في الحبشة، لقد قرروا أن يعودوا أدراجهم إلى مكة على إثر هذه الإشاعة غير الصحيحة، وكم من الأثمان يدفعها المسلمون ثمنًا للشائعات! وكم من الوقت والجهد والمال يضيع من جرَّاء مثل هذه الشائعات!

      لذا فعلى المسلمين دائمًا أن يتبينوا قبل أخذ القرار، وإني لأرى أنه كان من المفترض على المهاجرين في الحبشة أن يرسلوا أولاً رسولاً واحدًا منهم إلى مكة يستوثق صحة الخبر قبل أن يجمعوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم، قاطعين مثل هذه المسافات الطويلة والمرهقة عبر البحار والصحاري، أو كان عليهم أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم المحنك رسول الله الذي كان -ولا شك- سيرسل إليهم بالخبر لو أن مكة كانت آمنت حقًّا، وأن من المصلحة أن يعودوا، لكن هذا لم يحدث.

      وركب المسلمون البحر وقطعوا تلك المسافات الطويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم تطير فرحًا لما كانوا يعتقدون، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان إشاعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

      معاناة كبيرة مر بها المسلمون في طريق هذه الدعوة، لكن بفضل من الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا حتى الليل، وقد أرسلوا رسولاً ليجيء لهم بالخبر وانتظروا هم خارجها، وقد أتى الرسول: ما زال أهل مكة مشركين. صدمة قوية ومشكلة ضخمة، وحيالها اجتمع المسلمون وعقدوا مجلسًا للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسِّموا عليهم هذه التوصيات الثلاث.

      التوصية الأولى فهي: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة، وهو أمر شاق على النفس، ولكنه أكثر أمنًا.

      التوصية الثانية هي: أن يدخل بعض المسلمين مكة سرًّا مستخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك. ومعلوم أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة قليلة؛ لأن مكة مدينة صغيرة، ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لمدة طويلة.

      التوصية الثالثة فكانت: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهارًا، ولكن في جُوارٍ واضح وحماية معلنة؛ حتى لا يتعرض للقتل أو التعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يقومون بشرح أحوال الحبشة لرسول الله ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة.


      وبالفعل تم تطبيق هذا الاتفاق وتلك التوصيات، وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سرًّا ثم عادوا بعد ذلك أيضًا إلى الحبشة، ودخل بعضهم أيضًا مكة في وضوح.

      أما الذين دخلوا مكة فكانوا: عثمان بن عفان وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله ، وأيضًا عثمان بن مظعون ، وقد دخل عثمان بن عفان الأموي مكة في حماية قبيلته القوية، قبيلة بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك، وهو من قبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون (بني جمح) كانت من أشد القبائل محاربة له بشخصه، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي -لعنه الله- فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة، لكنها كانت إجارة غير مشروطة.





    • [h=1]الهجرة الثانية إلى الحبشة
      [/h]

      [h=2]تعذيب المسلمين في مكة
      [/h]كان المشركون -كما ذكرنا- قد رفعوا أيديهم نسبيًّا عن المسلمين بعد إسلام عمر وإسلام حمزة رضي الله عنهما، ولكن كانت هناك أمور قد جدت جعلت المشركين ينشطون من جديد في تعذيب المسلمين، كان منها:
      [h=3]أولاً: سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله[/h] لا شك أن هذا الأمر قد أحدث بلبلة في أرض مكة، ولا شك أن من كان مترددًا في الإيمان فلا بد أنه يفكر الآن بجدية للدخول فيه، وخاصة في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومن هنا فقد فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب؛ وذلك لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة.

      [h=3]ثانيًا: أنباء الاستقبال الحافل من قِبل النجاشي لمهاجري مكة[/h] كان قد وصل إلى مسامع مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا من ناحية قد رفع معنويات المسلمين، ومن ناحية أخرى أحبط معنويات الكفار، وكان لمشركي مكة علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولا شك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة من جديد أن تنشط في مواجهة الدعوة، فاستنَّت التشريعات والقرارات التالية:


      أولاً: منع المؤمنين من السفر:

      وفي سبيل ذلك قاموا بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من يخرج منها من المؤمنين، وقد وضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، وذلك كله لوقف الهجرة إلى الحبشة.

      وقد يرى البعض أنه من المفترض أن يكون المشركون سعداء بترك المسلمين لأرض مكة؛ حيث إنهم سيتخلصون من القلق الذي يسببه وجودهم معهم وبينهم، فلماذا إذن يمنعونهم من الهجرة؟!

      أما الإجابة فهي أن قريشًا كانت تفكر فيما يلي:
      1- المؤمنون ما ذهبوا إلى الحبشة إلا ليعودوا:

      كان المشركون يرون أن الحبشة ما هي إلا أحد المحاضن التربوية التي يُربَّى فيه المسلمون ليعودوا أشد قوة، فالمؤمنون أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله فإنه قد بُعث لقومه خاصة وللناس عامة، ولا بد أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطات المسلمين.


      2- المؤمنون سيفسدون علاقة الحبشة بمكة:

      فإذا رأى أهل الحبشة أخلاق المؤمنين ونضجهم ونقاء ما يدعون إليه، فإنهم ما يلبثون أن يستنكروا أفعال الذين عذبوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة.


      3- الخوف من دخول أهل الحبشة في الإسلام، ومن ثَمَّ فقد يُقدِمون على غزو مكة:

      فلم يكن بعيدًا على أهل مكة تخوفهم من أن يسلم أهل الحبشة، ثم يقبلون بعد ذلك على مكة لغزوها ونشر الإسلام فيها. وقريش تعلم أنها ليس لها طاقة بحرب دولة الحبشة وجيش الحبشة وملك الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة، وهو مجرد تابع لملك الحبشة على منطقة اليمن.


      4- الخوف من انتشار المد الإسلامي خارج مكة بصفة عامة:

      كانت قريش على يقين أن دعوة المسلمين مقنعة ودينهم قيِّم وقرآنهم معجز، ولو تركت لهم حرية الدعوة فلا شك أن عموم الناس من أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين، إذن فليُمنع المسلمون من السفر، ولتُحدد إقامتهم في أرض مكة.


      ثانيًا: استخدام أساليب التعذيب المتنوعة:

      كانت الوسيلة الثانية التي استخدمها مشركو مكة لمجابهة الدعوة في هذه الفترة هي التعذيب الشديد من جديد، وهي وسيلة العاجز، وسيلة الضعيف، وسيلة المهزوم الذي لا يجد حيلة، وكانت الانتكاسة البشعة في الإنسانية، فقد انقلبوا على كل من بقي من المسلمين في أرض مكة يعذبونهم، ولم يستطع حمزة وعمر -رضي الله عنهما- كأفراد أن يقوموا بحماية المؤمنين من هذه الحرب القرشية المنظمة.


    • قرار الهجرة الثانية إلى الحبشة



      في هذا الموقف العصيب وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفًا من استئصال عامة المسلمين في لحظات الغضب والتهور غير المحسوب وغير المدروس، في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله قراره بالهجرة مرة ثانية إلى أرض الحبشة. في المرة الأولى كان قد هاجر عشرة رجال وأربع نساء، ثم عادوا إلى مكة، ثم عاد بعضهم ثانية إلى الحبشة، أما في هذه المرة فقد صدرت الأوامر بهجرة أكثر من ثمانين رجلاً مسلمًا (اثنين وثمانين أو ثلاثة وثمانين إن كان من بينهم عمار بن ياسر)، وهاجر أيضًا ثماني عشرة امرأة، إحدى عشر منهن قرشيات، وسبع منهن غير قرشيات، هذا غير الأطفال.



      فكان الرسول كقائد مسئول له أهداف واضحة ومحددة، فالرؤية عنده واضحة، والأولويات عنده محكمة، وهو يتحرك بمرونة سياسية وفقهية عالية، كان يعلم أن الدعوة لا بد أن تصل إلى عموم الناس، والدعوة لن تصل إلى الناس إلا عن طريق الدعاة، والدعاة قد وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة، إذن فليكن القرار الحاسم الجريء وفي الوقت المناسب، وهو هجرة أكثر من ثمانين مسلمًا، وهو ما يمثل نصف الطاقة الإسلامية تقريبًا في ذلك الوقت.

      وإنه لقرار استراتيجي خطير، موازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة مع التضييق الشديد الذي تمارسه قريش.

      فقد ينفعل الشباب يقولون: نبقى مهما كانت النتائج، ولو أدى ذلك إلى الموت، فهذا موت في سبيل الله. لكن رسول الله القائد السياسي المحنك، والداعية الحكيم يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة، فالله خلق النبات ضعيفًا لينًا طريًّا مرنًا، فإذا جاءت ريح شديدة مال معها حتى لا ينكسر، ثم عندما يشتد عوده ويصبح شجرة راسخة الأركان لها جذور عميقة، فإنها لا تميل أمام الريح الشديدة، بل تظل ثابتة وتمر الرياح مهما اشتدت قوتها من حولها.

      وهكذا حال المؤمن الفقيه، ومن هنا أخذ رسول الله القرار الجريء، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى، إنه الهجرة الثانية للحبشة.

      وكان هذا القرار صعبًا للأسباب الآتية:
      أولاً: أن قريشًا الآن قد أخذت حذرها وأغلقت أبواب مكة، وأوقفت حراسها على مداخلها ومخارجها، فقد علمت خطورة انطلاق المسلمين إلى الحبشة، وهي الآن تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تمنع المسلمين عن الهجرة.


      ثانيًا: كان العدد في هذه المرة أكثر، فقد كان عددهم قُرابة المائة من المؤمنين، من الرجال والنساء، إضافةً إلى أطفالهم، وهذا غير متاع المهاجر الذي لا يتوقع رجعة قريبة، كل هذا وهم يحاولون الهرب من هذه القرية الصغيرة مكة، ووسط الحصار والتربص والحذر من جانب قريش.


      ثالثًا: أن هناك أسماء لامعة وبرّاقة سوف تهاجر هذه المرة، وإن الخطورة في خروج مثل هذه الأسماء ليست كامنة في ثقلها في مكة فقط، وإنما في كونها تخرج من داخل بيوتات زعماء قريش الذين ما فتئوا يحاربون الدعوة.

    • [h=2]أسماء المهاجرين إلى الحبشة[/h]

      من هذه الأسماء اللامعة التي هاجرت:

      1- السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وهي ابنة زعيم أهل مكة في ذلك الوقت، ومن أكبر المحاربين للدعوة.


      2- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو ابن كبير من زعماء الكفار (عتبة بن ربيعة)، الذي كان من أكبر المفاوضين، وممن آذوا رسول الله بأنفسهم، وقد قتل في بدر بعد ذلك.


      3- وكان سهيل بن عمرو الذي يُعدّ من أكبر زعماء وصناديد قريش، والمفاوض في صلح الحديبية، كان قد خرج من بيته ثلاثة مهاجرين هم: ابنتاه سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وابنه عبد الله بن سهيل بن عمرو.


      4- فاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان صفوان بن أمية من أكابر المشركين، ولم يؤمن إلا بعد فتح مكة.


      5- فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو صاحب الأساطير والخرافات التي أتى بها من فارس؛ وذلك ليصرف الناس عن سماع رسول الله .


      7- هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل كان أيضًا من أكابر المجرمين، ومن الذين نزل فيهم القرآن يلعنهم، حيث قال : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: 77].


      فكان خروج مثل هؤلاء الأبناء والبنات من داخل بيوت الزعماء سيحدث زلزلة في مكة، وسيصاب كل زعيم من زعمائهم في كبريائه وذكائه وحكمته، وفي تقديره للأمور والأحداث، فكان ذلك -ولا شك- سيؤدي إلى هزة عنيفة لأهل الباطل.


      [h=2]معية الله ونجاح الهجرة
      [/h]

      في هذا الجو المشبع بالغيوم، ومن وراء تلك الخلفيات المعقدة، أصدر الرسول قراره الشجاع بالهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية، وقد أمّر على المهاجرين في هذه المرة جعفر بن أبي طالب .


      وفي واحدة من أعقد عمليات التمويه والإخفاء تبدأ الهجرة، ويتعاون الصغار والكبار والرجال والنساء على إنجاح تلك العملية الصعبة، وهم يبتهلون إلى الله بالدعاء والرجاء، ثم بفضل الله ومنِّه تنجح العملية، ويخرج من مكة وفي جنح الظلام قرابة المائة من الرجال والنساء يحملون أطفالهم ومتاعهم وزادهم، وينجيهم الله جميعًا، ولا يتمكن أهل الباطل من اكتشاف أمرهم، أو الإمساك بأي منهم، وعند ميناء على البحر الأحمر يجتمع المسلمون، وقد لهثت وراءهم مكة مؤخرًا، وذلك بعد استتباب أمر المسلمين، ولكن هيهات {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].


      وإنها لمفارقة صعبة، وصدمة مدوية حين يستيقظ كفار قريش على فقد مائة نفس من بينهم، وإنه لفراغ هائل خلفه هؤلاء الصالحون وراءهم، وإن عدد المهاجرين هذا (قُرابة المائة نفس) ليعني أنه ما من بيت في مكة إلا وقد خرج منه ابن أو ابنة أو أخ أو أخت، أو عم أو غيرهم.

      وقد وصل المهاجرون بفضل من الله إلى الحبشة، وقد استقبلهم النجاشي -رحمه الله- خير استقبال، وأحسن وفادتهم، وعاش المسلمون هناك في أمن وبركة ويسر.

      [h=2]
      أزلية الصراع بين الحق والباطل
      [/h]

      حيال نجاح أمر الهجرة هذا، هل تهدأ قريش؟ وهل تقبل بالأمر الواقع؟ وهل تفكر في إنهاء الصراع الطويل الذي كان بينها وبين المؤمنين وقد فصلت بينهما آلاف الأميال؟! أسئلة مهمة كانت قد فرضت نفسه وألقت بظلالها على موقف قريش بعد نجاح هجرة المؤمنين إلى الحبشة.

      ولأنها سنة من سنن الله الثابتة، ولأنها سنة السجال والصراع بين الحق والباطل، والتي حتمًا مآلها إزهاق الباطل، لم تهدأ قريش، ولم ترض بالأمر الواقع، ولم تفكر في إنهاء الصراع بينها وبين المؤمنين، وعز عليها أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يحيكوا له المكائد، وإنه لو كان المؤمنون قد خرجوا جميعهم وتركوا الديار والبلد بكاملها، أيضًا فلن يقف الصراع، ولن تقف الحرب {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].


      ومن ثَمَّ قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة حتى تردهم، حتى ولو كان بينها وبينهم آلاف الأميال، لكنها لم يكن في مقدورها أن تهاجم الحبشة بجيش؛ فقوة الحبشة وبُعد المسافة، إضافة إلى تاريخ العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، كل هذه الأمور وقفت سدًّا منيعًا حال دون حرب عسكرية، إذن فلتكن طريقة أخرى.

      لقد قررت قريش إرسال سفراء يمثلونها للتفاوض مع ملك الحبشة بشأن المهاجرين المسلمين، فأرسلت وفدًا يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها ولا يقبلهم في بلده، ولضمان نجاح هذه المهمة الخبيثة أخذت قريش بكل الأسباب المتاحة في يدها، فعملت على ما يلي:

      أولاً: أرسلت على رأس الوفد رجلين من أمكر رجال قريش وأشدهم دهاءً، هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة (عمه الوليد بن المغيرة) وذلك قبل أن يُسلما، وكان عمرو بن العاص مشهورًا بالمكر والدهاء وحسن التصرف، ويستطيع بذكائه في حسابات قريش أن يمكر بالمسلمين.


      وفوق ذلك فهو صديق شخصي قديم للنجاشي نفسه، إذ كان عمرو بن العاص قبل ذلك مندوبًا لقريش في أمور التجارة والصداقة مع النجاشي، فلا شك أنه سيكون أكثر تأثيرًا في النجاشي من غيره. وفوق هذا وذاك فإن أخاه هشام بن العاص كان من بين المهاجرين إلى الحبشة، والذين ما جاء عمرو إلا من أجل التفاوض بشأنهم، فكان الأمر بالنسبة إلى عمرو لا يعدو إلا أن يكون قضية شخصية بحتة. وكذلك أيضًا كان الوضع بالنسبة للسفير الآخر عبد الله بن ربيعة؛ إذ كان أخوه عباس بن أبي ربيعة أيضًا من بين المهاجرين.


      ثانيًا: حمّلت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات من الجلود، وهي هدايا كانت تطيب كثيرًا لأهل الحبشة، فجهزوا قافلة ضخمة كنوع من الرشوة لملك الحبشة ولرجال الحكم هناك، وقد كلفتهم الكثير من المال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

    • وفد قريش إلى النجاشي




      وصل وفد قريش إلى الحبشة، وهناك وبشيء من الحنكة والذكاء لم يدخل
      عمرو بن العاص على النجاشي مباشرة، بل ذهب أولاً إلى بطارقته، وإلى رجال الدين والوزراء وكبار القوم، والذين يجلسون عادة في مجلس النجاشي يشيرون عليه بالرأي، ذهب إليهم وقد ملأ أيديهم جميعًا بالهدايا العظيمة، ثم بدأ يطرح عليهم طلبه مرفقًا به حجته الدامغة؛ وذلك بهدف الوقوف معه ضد المسلمين أمام النجاشي.

      وقد نجح عمرو بن العاص في هذه المهمة خير نجاح، وقبلوا منه جميعًا الهدايا، وسمعوا لرأيه واقتنعوا بفكرته، وبذلك يكون قد مهَّد الطريق تمامًا للحوار مع النجاشي.

      خطاب عمرو بن العاص أمام النجاشي



      دخل عمرو بن العاص على النجاشي، وكان لقاءً حارًّا بين الصديقين، وقد أتى بالهدايا العظيمة وأهداها إليه، وقبلها منه النجاشي، وبعد أن اطمأنَّ عمرو بن العاص إلى وجود جميع البطارقة والوزراء معه، بدأ يعرض أمره ومهمته عليه، وكان ينتقي كلماته بدقة شديدة وبحكمة عظيمة، فقال: "أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".


      وكانت هذه سقطة من عمرو بن العاص، وكذبة كذبها على النجاشي؛ فكل المهاجرين كانوا من الأشراف العقلاء وليسوا من الغلمان السفهاء، لكنه أراد أن يحقر من شأن المسلمين اعتقادًا منه أنه من غير المعقول أن يقدم النجاشي كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية.


      وبعد هذا السهم رمى بالسهم الثاني فقال: "فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت".


      وهذا فيه من الذكاء الشديد ما فيه؛ فهو يريد أن يوغر صدر النجاشي على المسلمين الذين لجئوا إلى بلده، فهم قد فارقوا دين قومهم ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فهم لم يراعوا حق الأهل ولا راعوا حق المضيف لهم.


      ثم كان السهم الثالث: "وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه".


      وفي هذا السهم الأخير أكثر من إشارة خفية، لكنها لا تخفى على ذكاء النجاشي.

      أولاً: من وراء كلماته، وفي إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف المعاملات الاقتصادية والهدايا بين أشراف مكة وبين النجاشي يبعث عمرو بن العاص برسالة إلى النجاشي، وهي أنه أُرسل من قبل أشراف مكة ورؤسائها.


      ثانيًا: وفي إشارة واضحة في أن لأشراف قريش وحدهم الحق في المهاجرين وعليهم، أعلمه أن آباء هؤلاء المهاجرين وأعمامهم هم هؤلاء الأشراف (أشراف مكة)، ومن ثَمَّ فإن لهم ما للآباء على الأبناء، والحال إذن كما لو أخطأ ولد في حق أبيه ثم جاء إلى بيتك هاربًا، ثم جاء أبوه بعد ذلك يطلبه، فالطبيعي هو أن تعيد الولد لأبيه، وأقصى ما في الأمر أن توصيه به خيرًا.


      ثالثًا: يشير أيضًا عمرو بن العاص إلى أن النجاشي قد ينخدع في الحكم عليهم؛ بسبب حلاوة منطقهم وطلاقة لسانهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم دهرًا طويلاً، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.


      وهكذا يكون عمرو بن العاص قد تكلم فأحسن الكلام، وأوجز فأحسن الطلب، وقد ضمّن كلامه حججًا وأدلة منطقية وقوية، وهي في الوقت ذاته لا تكاد تخلو من أدب جم وخلق رفيع، والمطلوب فيها واضحٌ وهو ردُّ المسلمين إلى مكة.

      وفي محاولة لإتمام نجاح هذه المهمة ووفق خطة عمرو بن العاص المنهجية، ما إن انتهى من كلامه وقبل أن يتكلم النجاشي حتى أقبل البطارقة قائمين بدورهم أيضًا قائلين: "صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم".




    • [h=2]عدل النجاشي وفقه المرحلة عند المهاجرين
      [/h]

      لأنه ملك لا يظلم عنده أحد، ولعلمه أنه من العدل والإنصاف قبل الحكم في القضية أن تسمع كلا الطرفين المتخاصمين، مهما كانت حجة الطرف الأول قوية، ومهما كانت العلاقة مع الطرف الأول وطيدة، ومهما كانت التبعات لأخذ القرار، كان ردُّ النجاشي على عمرو بن العاص وعلى بطارقته:

      لا والله، لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوَهم فأسألهم مما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

      ثم أرسل النجاشي -رحمه الله- إلى المسلمين ليرى ردهم فيما قاله عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وما إن وصلت الرسالة إلى المسلمين حتى عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وقالوا: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ فكان أن اجتمعوا على أن يقولوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن.


      لا تبديل لكلمات الله، وإن النجاة لفي مثل هذا الثبات، ثم أجمعوا على أن يتكلم منهم رجل واحد باسمهم، ولهذه المهمة العظيمة اختاروا جعفر بن أبي طالب ، ولعل ذلك كان للأسباب التالية:


      1- أنه رئيس الوفد والممثل الرسمي له، ولا شك أنه قد التقى قبل ذلك بالنجاشي، وتحدث معه وأَلِف حواره.


      2- أنه كان خطيبًا مفوهًا، ويتميز ببلاغة وفصاحة عظيمة وطلاقة لسان رائعة.


      3- أنه كان من أشرف أشراف الوفد؛ فهو هاشمي قرشي، وهم بذلك يبطلون قول عمرو بن العاص: "إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".


      هذا، وقد ذهب المسلمون يتقدمهم جعفر بن أبي طالب حيث طُلبوا، وهناك وجدوا النجاشي وقد جلس على كرسيه ومن حوله أساقفته وقد نشروا أناجيلهم، وعلى الناحية الأخرى كان يقف عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد كرها أن يتكلم المسلمون؛ لأنهم يعلمون حلاوة منطقهم.


      افتتح النجاشي الاجتماع المهيب المرتقب بسؤال للمسلمين قد حمل كثير من علامات الاستفهام، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟!

      فكانت المفاجأة بالنسبة لنا أننا اكتشفنا أن المهاجرين لم يعلنوا عن هويتهم، ولم يذكروا شيئًا البتة من قبل عن دينهم عندما دخلوا أرض الحبشة!!

      وكان تفسير هذا الأمر هو أن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة كان الحفاظ على الدين ممثلاً في المهاجرين، فقد أدرك المهاجرون أن قوتهم ضعيفة وقدراتهم محدودة، ولم يريدوا أن يفتحوا على أنفسهم جبهات جديدة، وكذلك أيضًا كانوا يتخوفون من أن أهل الحبشة النصارى قد يعترضون على دينهم، ومن هنا فقد آثروا كتمان أمرهم والمحافظة على سريتهم، وبمعنى أدق: اهتموا بالناحية الأمنية على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة الحرجة من بداية الدعوة، فكان هذا هو فقه المرحلة الذي برع فيه المسلمون، وساعدهم في ذلك أن النجاشي لم يسأل عن أشياء لم تبد له، بل اكتفى باستقبالهم بالمبرر الأوحد الذي ذكروه له، وهو أنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا ولماذا؟ فهذا لم يدخل فيه.

      أما الآن فهناك مشكلة سياسية قد تحدث، وقد يكون كلام عمرو بن العاص صحيحًا ولا بد حينها من السؤال، وبالنسبة للمسلمين أيضًا فقد تغيرت المرحلة؛ حيث هم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلامًا مغايرًا للحقيقة فقد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، فلا بد إذن من ذكر الحقيقة كاملة ولكن بلباقة وكياسة، وهذا ما سنفرد له مقالاً خاصًّا إن شاء الله.



    • [h=1]رسول الله في رحلة الطائف
      [/h]

      فكَّر رسول الله -وللمرة الأولى منذ البعثة- أن يخرج بدعوته خارج مكة، يذهب إلى بلد آخر يدعوهم إلى الإسلام يطلب نصرتهم ومساندتهم. قبل ذلك لم يكن يخرج من مكة؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها ولو بمشقة ولو بصعوبة، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فالداعية لا يترك مكانه إلا إذا استحالت عليه الدعوة فيه، أما غير ذلك فمكانه الأساسي مع من يعيش معهم من الناس.

      من جديد نعيد الكلمة المهمة التي ذكرناها من قبل في أكثر من موضع (فقه المرحلة).

      هذه مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، يعلمنا فيها رسول الله منهجًا يناسبها، إذا أغلقت أبواب الدعوة تمامًا في بلد فلتذهب إلى بلد آخر، المسلم لا يجلس مستكينًا ضعيفًا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لقد منعوا الدعوة.

      أبدًا، المسلم له رسالة واضحة أن يُعَبِّدَ الناس -كل الناس- لله رب العالمين، فإن لم يكن هنا فهو هناك، وإن لم يكن هناك فهو في غيرها وهكذا، أما قبل غلق أبواب الدعوة في البلد فالدعوة فيه أولى، فهو ثغر تقف عليه، والأقربون أولى بالمعروف، والمسئولية نحو أهل البلد أعلى من المسئولية نحو غيرهم.

      فكر رسول الله في أن يخرج ليدعو بلدًا آخر إلى الإسلام ويطلب نصرة أهله وتأييدهم، فماذا اختار ؟

      لقد اختار مدينة الطائف.



    • [h=2]لماذا اختار رسول الله الطائف؟
      [/h]


      لم يكن اختيار الطائف اختيارًا عشوائيًّا، بل كان اختيارًا مدروسًا؛ فرسول الله كان سياسيًّا بارعًا وقائدًا محنكًا، يدرس كل خطوة بدقة شديدة، فالطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بعدة صفات:



      أولاً: تعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، ومركزًا حيويًّا مهمًّا من مراكز الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة في قلوب العرب، حتى إن المشركين كانوا يقولون: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31]. والقريتان هما مكة والطائف.


      ثانيًا: يسكن في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية ولو آمنت لكانت سندًا عظيمًا للدعوة بقوة جيشها وكثرة عددها، خاصة وأن الظاهر لرسول الله في ذلك الوقت أن قريشًا ستظل تحارب الإسلام في المستقبل، وقد بلغ من قوة ثقيف أنها القبيلة الوحيدة التي استعصى على المسلمين دخول بلدها عنوة حتى جاء أهلها -بعد ذلك- مسلمين طوعًا.


      ثالثًا: المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فمكة وإن كان بها البيت الحرام وبها أيضًا الصنم الذي كان يقدسه كثير من العرب وهو هُبُل، فإن الطائف كان بها صنم آخر من أهم أصنام العرب وهو اللات، وكثيرًا ما كان يقسم به العرب على اختلاف قبائلهم. أما صنم العزى فكان في وادي نخلة على مقربة أيضًا من الطائف، فلو ذهب إليهم رسول الله بدعوته، فلعلهم يدخلون فيها طمعًا في سحب البساط من تحت أقدام أهل مكة.



      رابعًا: الطائف قريبة نسبيًّا من مكة، المسافة حوالي مائة كيلو متر، والرسول لا يريد أن يبعد كثيرًا عن مركزه الأول والذي تعيش فيه طائفة كبيرة نسبيًّا من المؤمنين، التعاون والتنسيق بين المركزين سيكون أسهل لو كانت المسافة قريبة، وبالذات في هذا الزمن الذي كانت فيه المواصلات شاقة.


      خامسًا: كان لأغنياء قريش أملاك في الطائف، وخاصة بني هاشم وبني عبد شمس وكذلك بني مخزوم، فلو دخلت الطائف في الإسلام لكان ذلك ضربة اقتصادية موجعة لقريش.



      إذن في الحسابات البشرية كانت الطائف مكانًا مناسبًا للدعوة، ومن ثَمَّ عقد رسول الله العزم على الذهاب إلى هناك، وكان ذلك في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب، أو في الشهر التالي حسب اختلاف الروايات، لا سكون، لا راحة.



    • [h=2]الحذر الأمني في رحلة الطائف
      [/h]

      المسافة بين مكة والطائف كما ذكرنا مائة كيلو متر تقريبًا، والسفر في شوال سنة 10 من النبوة، وهو يوافق أواخر شهر مايو وأوائل شهر يونيو سنة 619 ميلادية، يعني كانت درجة الحرارة آخذة في الارتفاع، وخاصة في هذه المنطقة الصحراوية المشهورة بشدة الحر، ومع ذلك فإن رسول الله قد قرر أن يقطع هذه المسافة ماشيًا على قدميه. ولماذا يمشي على قدميه هذه المسافة الطويلة جدًّا؟ إنه لم يكن يعجزه أن يوفر دابة ينطلق بها إلى هناك، ولكنه لم يرد لفت الأنظار إليه، فمن حنكته الأمنية أنه فعل ذلك، ولو رآه أحد المشركين يركب دابة لشك في سفره إلى مكان ما، ورسول الله ممنوع من السفر، لئلا يقوم بنَشْرَ الدعوة خارج مكة، ومن ثَمَّ آثر رسول الله أن يقطع المائة كيلو متر سيرًا على الأقدام.

      ولذات السبب؛ فإن رسول الله لم يأخذ معه كوكبة من الصحابة لحمايته ولم يأخذ فارسًا من الصحابة ليكون له سندًا، لم يأخذ حمزة بن عبد المطلب أو عمر بن الخطاب أو الزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص، وكذلك لم يأخذ صديقه الأول أبا بكر الصديق ، كل هذا لكي لا يلفت الأنظار إليه إذا رآه أحد المشركين، ولكنه أخذ معه غلامه زيد بن حارثة، وكان قد أعتقه وتبنّاه وأطلق عليه زيد بن محمد، فرؤية زيد مع رسول الله غير مستغربة، وفي الوقت نفسه فزيد يحب رسول الله حبًّا شديدًا، ويستطيع خدمته وحمايته والتضحية من أجله، وقد ظهر ذلك بوضوح بعد زيارة الطائف وما حدث فيها. وزيد بن حارثة لم يكن صغيرًا في هذه الرحلة، كان يبلغ من العمر أربعين عامًا تقريبًا، وقد ظن بعض القارئين للسيرة أنه كان صغيرًا لأنه يطلق عليه غلام، ولكن غلام بمعنى خادم وليس بمعنى غلام صغير.


      إذن أخذ رسول الله بهذه الاحتياطات الأمنية، وتسلل إلى خارج مكة على حين غفلة من أهلها، وانطلق إلى الطائف، مائة كيلو متر سيرًا على الأقدام في الصحراء، وفي شهر مايو أو يونيو. هذا هو الطريق، طريق الدعوة ليس سهلاً ولا ممهدًا، ولكنه في الوقت نفسه فإن أجر الدعوة يساوي هذا المجهود بل يزيد {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].


      كان من الممكن أن يطير رسول الله إلى الطائف بمعجزة، ولكنها التربية، رسول الله يعلمنا طبيعة الطريق، يضع أقدامنا على سبيل الرشد، يبصرنا بسنن الله في التغيير، ليست هناك مصادفات ولا مفاجآت، الذي يفقه سنن الله في أرضه وفي خلقه يرى المستقبل بعين اليقين، كيف لا؟ وقد وضع أقدامه على طريق رسول الله .



    • رائع جدا متابعين لك .. :)
      كلما نقرأ نحتاج إلى المزيد :)
      جزاك الله خيرا ..
      جميلة هي الحياة حين ترضى بما قسم الله لك ودائماً تردد الحمدلله ..
    • [h=2]الرسول في الطائف
      [/h]

      ذهب رسول الله إلى الطائف ووقف على أعتابها يفكر، إلى من يذهب هناك؟ ومن يدعو؟

      الأمر الآن ليس دعوة فقط، بل دعوة وطلب للنصرة، فالموقف مع قريش أصبح حرجًا للغاية، ولأنه سيطلب النصرة فلا بد أن يذهب إلى سادة ذلك المكان، فإن الضعفاء لن يجيروه من قريش، وهي موازنات مهمة يعقدها الداعية الناجح، ليس هذا تقليلاً من دور الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية واضحة جدًّا وخطيرة للغاية، ولا بد أن يدرك رسول الله مع من يتحدث. ثم إن الرسول ليس من الطائف وليست له إجارة هناك، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسولُ الله من دعوة كبير ولا صغير ولا عزيز ولا ذليل، وهو ما أسمِّيه بـ (فقه الواقع).

      ولذلك فكر رسول الله في أن يذهب إلى قيادة الطائف مباشرة، ولكن قيادة الطائف قيادة مزدوجة ليست لقبيلة واحدة بل لقبيلتين، قبيلة بني مالك وهي القبيلة الأصلية في الطائف والمتمركزة فيها منذ زمن، ولكنها منذ قديم شعرت بالضعف في مواجهة القبائل الضخمة المحيطة بالطائف مثل قريش وهوازن وبني عامر وغيرها، وعلمت أن أطماع الناس في الطائف كبيرة لخصوبة أرضها، فقررت أن تحالف قبيلة أخرى وتسكن معها في الطائف ويتقاسما قيادة الطائف، فتحالفت مع قبيلة أخرى هي قبيلة بني عمرو بن عمير؛ ولذا فقيادة الطائف بين قبيلتي بني مالك وبني عمرو. ثم إن الأيام مرت وثبت أن القبيلتين ضعيفتان نسبيًّا، فقررتا أن يتحالفا تحالفًا سياسيًّا مع بعض القبائل المحيطة بالطائف، فتحالفت قبيلة بني مالك مع قبيلة هوازن، وتحالفت قبيلة بني عمرو مع قريش، هذا التحالف لم يكن قائمًا على الحب والتعاون ولكنه كان يقوم على اتقاء الشر والخوف من إغارة إحدى هذه القبائل على الطائف، وكان رسول الله يدرك كل هذه الأبعاد جيدًا.

      والآن نقف وقفة مع رسول الله نحلل معه الوضع الحرج، لو ذهب رسول الله إلى بني مالك فإنهم لن يقطعوا رأيًا إلا بعد الرجوع إلى هوازن، وهوازن تعتبر كتابًا مغلقًا بالنسبة لرسول الله فالدعوة لم تصل إليها بعدُ، وليس بين أبنائها مسلم وفي الغالب سيرفضون الدعوة، لأنه أيضًا من مبادئ الدعوة أن علية القوم -غالبًا- ما يرفضونها في بادئ الأمر؛ خوفًا على مصالحهم وسيادتهم.

      أما إذا ذهب إلى بني عمرو التي تحالف قريشًا فإن الوضع مختلف، التحالف الذي يقوم بين بني عمرو وبني قريش يقوم على الخوف من قريش، فإذا وجدت قبيلة بني عمرو فرصة لإحداث انقسام في قريش فقد تأمن جانبها إلى الأبد، هذا رجل من ورائه بنو هاشم وبنو المطلب، ولا شك أن له أتباعًا في بقية بطون قريش، فلو آزرت بنو عمرو رسول الله انقسمت قريش بين مؤيد ومعارض، وهذا سيضعف شوكتها وتكون فرصة بني عمرو للتخلص من تهديد قريش. هكذا فكر رسول الله ، ومن ثَمَّ عمد إلى سادة قبيلة بني عمرو، ولم يذهب إلى سادة قبيلة بني مالك المتحالفة مع هوازن.


      وإنني أعجب من هؤلاء الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة، من أين جاءوا بهذا الكلام؟! فهذا رسول الله يمارس السياسة في أعظم صورها، إلا إذا كانوا يقصدون أن السياسة -عندهم- لا تصح إلا بالغدر والكذب والنفاق والتجمل الكاذب.



    • روعه الرائعه كتب:

      رائع جدا متابعين لك .. :)
      كلما نقرأ نحتاج إلى المزيد :)
      جزاك الله خيرا ..


      متابعة طيبة اختي الكريمة

      الرحلة متواااصلة وهنالك المزيد من المعلوماااات
      تحياااتي لشخصج


    • [h=2]رسول الله يدعو بني عمرو إلى الإسلام
      [/h]

      اتجه رسول الله إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير وعرفهم بنفسه، وبدأ يدعوهم بدعاية الإسلام ويعرفهم بدين الله ، ثم يطلب منهم النصرة له وللإسلام وللمؤمنين بمكة. كان الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، وكانوا -كما ذكرنا- سادة من سادات الطائف وأوضاعهم مستقرة إلى حد كبير، فجاء هذا العرض من رسول الله ليطلب منهم أن يغيروا دينهم ويتركوا عبادة اللات إلى عبادة الله ، ليس هذا فقط بل إن دخولهم في هذا الدين هو بمنزلة إعلان الحرب على قريش. ومن الواضح أن هذا القرار الذي يطلبه رسول الله يحتاج إلى رجل حكيم، جريء، ثاقب النظر، عميق الفكر، ولكن يبدو أن هذه الصفات كانت بعيدة كل البعد عن أولاد عمرو بن عمير، فإنهم لما سمعوا هذا العرض من رسول الله ما لبثوا أن جزعوا وفزعوا وبدءوا يتكلمون بكلام هو أشبه ما يكون بالهذيان، لا يمتّ للحكمة بصلة من قريب ولا بعيد.


      [h=2]موقف سادة الطائف من دعوة الرسول[/h]

      قال عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (أي سيمزق) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

      قلة شديدة أو انعدام في الأدب، واعتراض على اختيار الله لرسول الله .

      أما مسعود فقال: أما وجد الله أحدًا غيرك.

      وأما الثالث حبيب فقد قال -وهو يحاول أن يصطنع الذكاء مع شدة غبائه- قال: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.

      وهكذا عميت أبصار رجال الطائف عن الدعوة الواضحة النقية، وفشلت المفاوضات سريعًا، وتلقى رسول الله ضربة محزنة جديدة، لكن رسول الله لم تفقده الضربة دقة التفكير ولا رجاحة العقل، فقد أسرع وقال لهم: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني" (يعني يظل هذا الموضوع بيني وبينكم).


      وهذا حِسٌّ أمني راقٍ جدًّا من رسول الله ، يأخذ بكل الأسباب، ولو شاء الله لأخذ بأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم، ولكن رسول الله يرسم لنا الطريق بدقة، لقد طلب من قادة ثقيف أن يكتموا هذه المفاوضات التي تمت، ما دام ذلك لن يضرهم في شيء. ومن الواضح أن رسول الله يحذر من أن يصل الخبر إلى قريش؛ لأنه لو وصل الخبر لقريش فسيُتَّهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة.

      وفوق ذلك فإن الكفار سيستغلون الفرصة في إعلامهم المضاد لإبراز فشل رسول الله في دعوة ثقيف، وهو دليل في رأيهم على ضعف الرسالة، ورسول الله لأجل كل ذلك تمنى أن يكتم أولاد عمرو بن عمير أمره، لكن هؤلاء السادة كانوا فوق خفة عقولهم فاقدين للمروءة، فما لبثوا أن أغروا به سفهاءهم وغلمانهم يسبونه ويصيحون به. لكن رسول الله لم ييئس، بل مكث في الطائف عشرة أيام كاملة بعد هذا اللقاء، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، ولكن رفضوا جميعًا.

      [h=2]إيذاء رسول الله في الطائف وخروجه منها[/h]

      حتى إذا جاء اليوم العاشر قالوا له اخرج من بلادنا، وأرسلوا خلفه عبيدهم وسفهاءهم، فصفوا أنفسهم صفين خارج الطائف وجعلوه يمر من بين الصفين وهم يقذفونه بالحجارة ويقذفونه بأسوأ الكلام والسباب، حتى سالت دماؤه الشريفة على كعبيه وتلون النعل بالدم، وكان زيد بن حارثة يبذل كل طاقته لتلقي الحجارة في جسده، بل في رأسه حتى لا تصيب رسول الله ، حتى شج رأسه t، ورسول الله يسرع الخطا بين الصفين حتى انتهى منه، ويمم عائدًا إلى مكة، لكنهم لم يتركوه بل ظلوا يتعقبونه بالحجارة والسباب مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا من الطائف، وهو لا يدري ما يفعل، ولسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، حتى وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، ثم دخل فيها وهنا وقف السفهاء والعبيد وعادوا أدراجهم إلى الطائف.

      ولهفي عليك يا حبيبي يا رسول الله!! أبعد كل هذا العناد والكد والتعب والمشقة يرغب أناس من أمتك عن سنتك؟! أبعد كل هذه المكابدة يفرط فريق من أمتك في شرعك؟!

      أبدًا ما كان وصول الشرع هينًا، إن الكثير من الناس لا يقدّر الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله وزيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة وغيرهم، ترى ماذا سيكون رد فعل رسول الله لو علم أن فردًا من أمته تهاون في حق هذا الدين الذي حُمل إليه بعرق ودم وروح؟


      روى الإمام مسلم... قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".


      عندما ندرس هذه التضحيات الضخمة نفهم حقًّا هذا العقاب الأليم البشع لأولئك الذين فرطوا في منهج نبيهم، وأولئك الذين أحدثوا في الإسلام ما ليس فيه.