رفع مستوى الأخوة

كان أيضًا من مظاهر الإيجابية في فترة مكة تنمية مشاعر الأخوة في الله بين المؤمنين على اختلاف مستوياتهم.
أخوة لا تُبْنى إلا على عقيدة، لا فرق بين غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا قبيلة وأخرى، لا فرق بين عربي وأعجمي، فالكل مسلمون والكل مؤمنون.
وإن زرع الأخوة في هذه القلوب المتنافرة لهو أمر شاق، لو أُنفقت فيه أموال الأرض ما كان أن يتم إلا أن يشاء الله، يقول تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
ونتيجة لهذه الأخوة الصادقة أصبح كل مؤمن يخاف على أخيه أكثر مما يخاف على نفسه، وإنها لتعد قوة ضخمة في جيش المؤمنين، قوة قد تمكث الأمم قرونًا من الأزمان لا تستطيع أن تزرعها في قلوب أجنادها.
وهذه القوة (قوة الأخوة) والتي تم بناؤها في هذه الفترة المكية بمجهود عظيم وتربية مستمرة هي التي دفعت رجلاً مثل الصديق لأن ينفق أمواله ميمنة وميسرة لكي يعتق إخوانه المستضعفين من المؤمنين من رقهم؛ إذ لم يعد للمال قيمة في عينه حينما قارنه بنعمة الأخوة، فتراه وكأنه ينقذ نفسه هو، فكان يشتري الضعفاء الأرقاء -رجالاً ونساءً- لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.
وهو الأمر الذي جعل أباه أبا قحافة، الذي لم يكن على مثل هذه التربية، يتعجب من إنفاق ابنه لأمواله الخاصة في عتق أنفسٍ ضعاف لا تربطهم به صلة ولا نسب، فقال له ناصحًا: يا بُنيَّ، أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟
وفي يقين قال أبو بكر : يا أبتِ، إنما أريد بذلك وجه الله . فأنزل الله قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17- 21].
وإن قوة الأخوة هذه التي بنيت في مكة ظلت مع المؤمنين في كل فترات حياتهم بعد ذلك، فظلت معهم في المدينة، وظلت معهم بعد ذلك بعد وفاة الرسول ، وظلت معهم بعد التمكين، وظلت معهم بعد كثرة الأموال، وظلت معهم رغم اختلاف العناصر والقبائل، ظلت معهم لأن الأساس كان قويًّا، ولأن الأساس قد بُني في فترة الاستضعاف في مكة، فتلك إذن وظيفة مهمة وثقيلة في ذات الوقت، وعلى المؤمنين أن يعملوا على استعادتها على الدوام.
الدفاع عن النفس

مظهر آخر من مظاهر الإيجابية ظهر أحيانًا في فترة الاستضعاف وهو الدفاع عن النفس. وقد يبدو في الظاهر أن هذا الدفاع مخالف لقاعدة الكف عن القتال، إلا أن الحقيقة أنه لم يكن ثمة تعارض على الإطلاق، وهذه بعض الحوادث التي حدثت في هذه الفترة بمكة، والتي تفسر لنا كيف كان المؤمنون يدافعون عن أنفسهم أحيانًا ودون مخالفة للمبدأ العام.
فقد رأى رجل سعد بن أبي وقاص يصلي ذات يوم في الصحراء، فجعل يسخر منه ومن صلاته، فما كان من سعد إلا أن حمل قطعة عظم كانت بجواره وقذفه بها، فأريق دم الرجل، وكان ذلك أول دم أريق في الإسلام.
وهذا الذي كان من سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه كان من بني زهرة، وله منعة وقوة في شخصه، فكان أن رد وبصورة فردية، بمعنى أن هذا الأمر لم يتطور إلى ثورة عامة في مكة، حيث لم يذهب سعد ويجمع المسلمين أو حتى يجمع قبيلته، فكان موقفًا عابرًا، اعتمد فيه على قوته وعلى منعته فانتقم لنفسه.
وفي هذا الموقف لم ينكر عليه رسول الله ؛ وذلك لأنه لم يكن هناك أثر سلبي على عموم المسلمين، بل على العكس من ذلك فقد كان لذلك الحدث أثر إيجابي عليهم؛ إذ إن المسلمين -ولا شك- أضحوا سعداء حينما شاهدوا صورة من صور الانتصار، التي أشفت بعضًا مما في صدورهم، وأذهبت بعضًا من غيظ قلوبهم.
وهكذا فإنه إذا كان لداعية منعة واستغلها بصورة فردية لرفع الظلم أو رد كيد، فإن هذا يفيد في هذه المرحلة.
ومثل موقف سعد بن أبي وقاص كان موقف الصديق ، وذلك حينما اجتمع أشراف قريش يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه سلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.
فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك. ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، وكان قد تملك الشر منهم، وباتوا على أبواب جريمة كبيرة.
وهنا تدخل الصديق يدافع عن رسول الله ، ويصدّ الناس عنه وهو يبكي من شدة تأثره ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!
ولا شك أن تدخل الصديق هنا كان من الأهمية بمكان، ولا يتعارض مع طبيعة المرحلة؛ فالرسول رأس الأمة، والقائد الذي لا يعوض، ولا بد أن يفتديه أبو بكر بنفسه، فتحرك لذلك.
إلا أن الملاحظ أن تحرك أبي بكر كان تحركًا فرديًّا، فهو لم يسعَ إلى تحفيز المسلمين ولم يجمعهم، وإنما كان تحركًا فرديًّا لكنه كان مدروسًا.
فكان أبو بكر رجلاً ذا مكانة في قريش، وكان تحركه قد يغير من الوضع ومن الموقف، وهو بالفعل قد غيَّر وأفاد، وانتهى الموقف دون تطور، وأنقذ رسول الله .
وهذا الموقف يجعلنا نعرج على موقف آخر كان قد تعرض له رسول الله في غياب الصديق وفي حضور عبد الله بن مسعود ، الذي ليست له منعة وقوة، والذي لن يأبه له أحد، فكان تحركه هنا لن يفيد، بل كان من الممكن أن يقتل وفي نفس الوقت سيظل الموقف كما هو، فكانت الحكمة إذن تقتضي ألاّ يتدخل.
يقول عبد الله بن مسعود كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "إِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ".
وهنا تتبدى الحسرة في كلام ابن مسعود ؛ إذ لو كان تقدمه لحماية الرسول سيفيد لما تردد، ولكن بغير منعة سيصبح التقدم مخالفة؛ لأنه كشف لأوراق المسلمين وإشعال فتنة في مكة، وكل ذلك دون نتيجة ملموسة، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود وآثر ألاّ يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته هذا يعني رضاه.
قال عبد الله بن مسعود: "فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ". وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
ومن هنا فإن المسلمين وإن كانوا مأمورين بالكف عن القتال في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، غير أنهم كانوا يتمتعون بإيجابية عالية في إطار الإمكانات المتاحة والحدود المسموح بها في هذه الفترة، والتي تمثلت في:
- إيجابية الارتقاء بالمستوى الإيماني.
- إيجابية الارتقاء بمستوى الأخوة.
- إيجابية الدفاع عن النفس أو عن الغير في ظروف معينة.
- أضف إلى ذلك أيضًا إيجابية الدعوة؛ فإن الدعوة في هذه الظروف لم تعرف التوقف، وقد استمر عدد المسلمين في الارتفاع، وقد عمل المسلمون جميعًا في هذا المجال كل بحسب طاقته.
بل إن الدعوة خرجت من نطاق مكة إلى خارجها، وسيأتي يوم يستحيل فيه استئصال المؤمنين؛ وذلك لكثرتهم وتوزعهم على أماكن كثيرة وقبائل متعددة.
كل هذه كانت مظاهر للإيجابية، ولا يستقيم أبدًا للمؤمن العاقل الفاهم الواعي أن يشكو الفتور أو الكسل أو ضعف الهمة، حتى في أشد فترات الاستضعاف.
كان أيضًا من مظاهر الإيجابية في فترة مكة تنمية مشاعر الأخوة في الله بين المؤمنين على اختلاف مستوياتهم.
أخوة لا تُبْنى إلا على عقيدة، لا فرق بين غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا قبيلة وأخرى، لا فرق بين عربي وأعجمي، فالكل مسلمون والكل مؤمنون.
وإن زرع الأخوة في هذه القلوب المتنافرة لهو أمر شاق، لو أُنفقت فيه أموال الأرض ما كان أن يتم إلا أن يشاء الله، يقول تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
ونتيجة لهذه الأخوة الصادقة أصبح كل مؤمن يخاف على أخيه أكثر مما يخاف على نفسه، وإنها لتعد قوة ضخمة في جيش المؤمنين، قوة قد تمكث الأمم قرونًا من الأزمان لا تستطيع أن تزرعها في قلوب أجنادها.
وهذه القوة (قوة الأخوة) والتي تم بناؤها في هذه الفترة المكية بمجهود عظيم وتربية مستمرة هي التي دفعت رجلاً مثل الصديق لأن ينفق أمواله ميمنة وميسرة لكي يعتق إخوانه المستضعفين من المؤمنين من رقهم؛ إذ لم يعد للمال قيمة في عينه حينما قارنه بنعمة الأخوة، فتراه وكأنه ينقذ نفسه هو، فكان يشتري الضعفاء الأرقاء -رجالاً ونساءً- لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.
وهو الأمر الذي جعل أباه أبا قحافة، الذي لم يكن على مثل هذه التربية، يتعجب من إنفاق ابنه لأمواله الخاصة في عتق أنفسٍ ضعاف لا تربطهم به صلة ولا نسب، فقال له ناصحًا: يا بُنيَّ، أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟
وفي يقين قال أبو بكر : يا أبتِ، إنما أريد بذلك وجه الله . فأنزل الله قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17- 21].
وإن قوة الأخوة هذه التي بنيت في مكة ظلت مع المؤمنين في كل فترات حياتهم بعد ذلك، فظلت معهم في المدينة، وظلت معهم بعد ذلك بعد وفاة الرسول ، وظلت معهم بعد التمكين، وظلت معهم بعد كثرة الأموال، وظلت معهم رغم اختلاف العناصر والقبائل، ظلت معهم لأن الأساس كان قويًّا، ولأن الأساس قد بُني في فترة الاستضعاف في مكة، فتلك إذن وظيفة مهمة وثقيلة في ذات الوقت، وعلى المؤمنين أن يعملوا على استعادتها على الدوام.
الدفاع عن النفس
مظهر آخر من مظاهر الإيجابية ظهر أحيانًا في فترة الاستضعاف وهو الدفاع عن النفس. وقد يبدو في الظاهر أن هذا الدفاع مخالف لقاعدة الكف عن القتال، إلا أن الحقيقة أنه لم يكن ثمة تعارض على الإطلاق، وهذه بعض الحوادث التي حدثت في هذه الفترة بمكة، والتي تفسر لنا كيف كان المؤمنون يدافعون عن أنفسهم أحيانًا ودون مخالفة للمبدأ العام.
فقد رأى رجل سعد بن أبي وقاص يصلي ذات يوم في الصحراء، فجعل يسخر منه ومن صلاته، فما كان من سعد إلا أن حمل قطعة عظم كانت بجواره وقذفه بها، فأريق دم الرجل، وكان ذلك أول دم أريق في الإسلام.
وهذا الذي كان من سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه كان من بني زهرة، وله منعة وقوة في شخصه، فكان أن رد وبصورة فردية، بمعنى أن هذا الأمر لم يتطور إلى ثورة عامة في مكة، حيث لم يذهب سعد ويجمع المسلمين أو حتى يجمع قبيلته، فكان موقفًا عابرًا، اعتمد فيه على قوته وعلى منعته فانتقم لنفسه.
وفي هذا الموقف لم ينكر عليه رسول الله ؛ وذلك لأنه لم يكن هناك أثر سلبي على عموم المسلمين، بل على العكس من ذلك فقد كان لذلك الحدث أثر إيجابي عليهم؛ إذ إن المسلمين -ولا شك- أضحوا سعداء حينما شاهدوا صورة من صور الانتصار، التي أشفت بعضًا مما في صدورهم، وأذهبت بعضًا من غيظ قلوبهم.
وهكذا فإنه إذا كان لداعية منعة واستغلها بصورة فردية لرفع الظلم أو رد كيد، فإن هذا يفيد في هذه المرحلة.
ومثل موقف سعد بن أبي وقاص كان موقف الصديق ، وذلك حينما اجتمع أشراف قريش يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه سلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.
فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك. ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، وكان قد تملك الشر منهم، وباتوا على أبواب جريمة كبيرة.
وهنا تدخل الصديق يدافع عن رسول الله ، ويصدّ الناس عنه وهو يبكي من شدة تأثره ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!
ولا شك أن تدخل الصديق هنا كان من الأهمية بمكان، ولا يتعارض مع طبيعة المرحلة؛ فالرسول رأس الأمة، والقائد الذي لا يعوض، ولا بد أن يفتديه أبو بكر بنفسه، فتحرك لذلك.
إلا أن الملاحظ أن تحرك أبي بكر كان تحركًا فرديًّا، فهو لم يسعَ إلى تحفيز المسلمين ولم يجمعهم، وإنما كان تحركًا فرديًّا لكنه كان مدروسًا.
فكان أبو بكر رجلاً ذا مكانة في قريش، وكان تحركه قد يغير من الوضع ومن الموقف، وهو بالفعل قد غيَّر وأفاد، وانتهى الموقف دون تطور، وأنقذ رسول الله .
وهذا الموقف يجعلنا نعرج على موقف آخر كان قد تعرض له رسول الله في غياب الصديق وفي حضور عبد الله بن مسعود ، الذي ليست له منعة وقوة، والذي لن يأبه له أحد، فكان تحركه هنا لن يفيد، بل كان من الممكن أن يقتل وفي نفس الوقت سيظل الموقف كما هو، فكانت الحكمة إذن تقتضي ألاّ يتدخل.
يقول عبد الله بن مسعود كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "إِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ".
وهنا تتبدى الحسرة في كلام ابن مسعود ؛ إذ لو كان تقدمه لحماية الرسول سيفيد لما تردد، ولكن بغير منعة سيصبح التقدم مخالفة؛ لأنه كشف لأوراق المسلمين وإشعال فتنة في مكة، وكل ذلك دون نتيجة ملموسة، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود وآثر ألاّ يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته هذا يعني رضاه.
قال عبد الله بن مسعود: "فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ". وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
ومن هنا فإن المسلمين وإن كانوا مأمورين بالكف عن القتال في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، غير أنهم كانوا يتمتعون بإيجابية عالية في إطار الإمكانات المتاحة والحدود المسموح بها في هذه الفترة، والتي تمثلت في:
- إيجابية الارتقاء بالمستوى الإيماني.
- إيجابية الارتقاء بمستوى الأخوة.
- إيجابية الدفاع عن النفس أو عن الغير في ظروف معينة.
- أضف إلى ذلك أيضًا إيجابية الدعوة؛ فإن الدعوة في هذه الظروف لم تعرف التوقف، وقد استمر عدد المسلمين في الارتفاع، وقد عمل المسلمون جميعًا في هذا المجال كل بحسب طاقته.
بل إن الدعوة خرجت من نطاق مكة إلى خارجها، وسيأتي يوم يستحيل فيه استئصال المؤمنين؛ وذلك لكثرتهم وتوزعهم على أماكن كثيرة وقبائل متعددة.
كل هذه كانت مظاهر للإيجابية، ولا يستقيم أبدًا للمؤمن العاقل الفاهم الواعي أن يشكو الفتور أو الكسل أو ضعف الهمة، حتى في أشد فترات الاستضعاف.
