مع الانبياء ... تفاصيل جميع الانبياء بطريقة رائعة

    • خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي


      خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي






      في ثبات وثقة عالية تقدم جعفر بن أبي طالب وألقى خطابًا جليلاً مهيبًا، إن دل على شيء فإنما هو الحق وقد أجراه الله على لسانه. وفي خطابه قَسّم جعفر بن أبي طالب كلماته إلى مقاطع عدة، يحمل كل مقطع منها معنى معين، ويصل به إلى هدف خاص.

      المقطع الأول


      جعفر يقبح صور الجاهلية

      "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف".


      فقد بدأ جعفر بن أبي طالب بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وهو بهذا يرسل إشارة واضحة أيضًا تتضمن أن هذين الرسولين (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) ما زالا على هذه الصورة الخبيثة وتلك الأخلاق الفاسدة.


      ونلاحظ أيضًا أن كل مساوئ الجاهلية التي صورها جعفر لا تبعد كثيرًا عن صفة الظلم؛ فكان هناك إما ظلم مع النفس وذلك بعبادة الأصنام {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، أو ظلم مع الرحم بقطع الأرحام، أو ظلم مع الجار بالإساءة إليه، أو ظلم مع الضعيف بأكل حقه.


      ولنتخيل مثل هذه الصور من الظلم وهي تعرض على ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، فكان تصدير جعفر بن أبي طالب بذكر مساوئ الجاهلية -ولا شك- قد ترك أثرًا عظيمًا في قلب النجاشي، بل في قلب أساقفته، فكان هذا المقطع من كلام جعفر سهمًا قد أُطلق في مقتل لقريش ووفدها.

    • [h=3]المقطع الثاني
      [/h]
      قال جعفر:
      "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه".
      وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلاً أفَّاكًا كذّابًا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق أنسابنا، وقد جاء بالحق الواضح.

      وإزاء هذه النعوت لم يستطع عمرو بن العاص ولا عبد الله بن أبي ربيعة أن يردّا بكلمة واحدة؛ فقد كان رسول الله فوق كل شبهة، هذا إضافةً إلى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، فما أكثر الرسل التي تحدثت عنها التوراة والإنجيل.

      [h=3]المقطع الثالث
      [/h] [h=3]جعفر يمجد من صور الإسلام[/h]

      وهذا المقطع في غاية في الروعة، فبعد أن عرض لصورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، التي جاء بها هذا الرجل الصادق الأمين ، فقال جعفر بن أبي طالب:

      "فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام". تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وهي راوية القصة-: "فعدَّد عليه أمورَ الإسلام".



      وفي ذلك التصوير لم يكذب جعفر ولم يتجمل، وإنما هي الحقيقة، فالباطل بطبيعته قبيح مقيت كريه، والإسلام بطبيعته حسن جميل محبوب، فقط عليك أن تعرض الصورة بوضوح، وستختار الفطرة السليمة دين ربها.


      [h=3]المقطع الرابع
      [/h] [h=3]جعفر يكيد من الكافرين[/h] وهو غاية في الذكاء والتوفيق، قال جعفر: "فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا".



      ثم أتبع ذلك فقال: "فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث".



      وهنا يبرز جعفر بن أبي طالب الدور القبيح للكافرين، وكان منهم آنذاك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ولا شك أن موقفهما أصبح ضعيفًا جدًّا، ولا ننسى هنا أن صور التعذيب والابتلاء تستهوي قلوب النصارى كثيرًا؛ فهي تذكرهم بالحواريين الذين عُذِّبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب، بل تذكرهم بصورة المسيح .


      وهكذا سيطر جعفر تمامًا على مشاعر النجاشي، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حوله، وقد ختم بيانه هذا بمقطع سياسي حكيم قال فيه: "فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك".



      وهنا -وفي صدقٍ تام وفي غير نفاق ولا كذب- يرفع جعفر من شأن النجاشي، فيذكر أفضليته على من سواه في مثل مكانه، ويرفع من قيمة العدل عنده، وهو بذلك يكسب قلبه، فيلين جانبه وتهدأ نفسه؛ فلا يتسرع بحكم، ولا يجور في قضاء.

      انتهى البيان المختصر من سفير المسلمين وقائد المهاجرين جعفر بن أبي طالب ، وكانت النتيجة هي خمسة سهام قوية في صدور الكافرين، وسكون -إلى حد كبير- في جوارح الأساقفة الذين كانوا يتربصون بالمسلمين بعد أخذهم هدايا عمرو من قبل.



    • [h=2]جعفر يقرأ أمام النجاشي سورة مريم
      [/h]

      أمام خطاب وبيان جعفر وقد بدا عليه وكأنه بدأ يقتنع بكلامه ويهتم بأمر هذا الدين الجديد، سأله النجاشي قائلاً: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

      قال جعفر: نعم.



      قال النجاشي: اقرأه عليَّ.


      وفي الآيات التي سيقرؤها على النجاشي فكر جعفر، ثم هداه الله إلى اختيار موفَّق، فبرغم كثرة السور التي نزلت في مكة، إلا أنه اختار صدر سورة مريم.


      اختار السورة التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم- اختار السورة ذات السياق العذب اللطيف، تلك التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم، فتنشرح صدورهم لما جاء من عند الرحمن الرحيم، فقرأ جعفر:

      {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 1- 22].



      لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا عمرو حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال:

      "إن هذا والذي جاء به موسى (وفي رواية: عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة". وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة، وصدق رسول الله وصِدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: "انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا".



      وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.


    • مــآ شــآء الله .. ومــآزلت تكمــل دروب آلخير ..
      وتهمس لنــآ بروحــآنيــآت جميلةةةة لهــآ في آلقلب آثر ...

      وفقك الله لمــآ تحب وترضــى ..
      . . . لاشيء يتغير, الأحداث باردة وغرف القلب باردة و العالم كومة صقيع...,, . . .
    • [h=1]مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين بالحبشة
      [/h][h=2]الباطل لا يمل
      [/h]


      بعد هذه الهزيمة المنكرة التي رأيناها في المقال السابق لم تنتهِ المعركة بعدُ، وكما ذكرنا فإنَّ الحرب بين الحق والباطل حرب أبدية، ومهما كان من أمر فإن
      عمرو بن العاص لم يستسلم، وقد قرر استئناف الهجوم من جديد؛ وذلك في محاولة منه لسحب البساط من تحت أقدام الوفد الإسلامي، أو على أقل تقدير يحفظ ماء وجهه.

      في أول الأمر كان يريد من ملك الحبشة أن يعيدهم إلى مكة، إلا أنه الآن وبعد الهزيمة المُرَّة والضربة القاصمة له كداهية العرب في ذلك الوقت ممن هو في مثل سن أبنائه (عمرو بن العاص كان يبلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، وكان جعفر يبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة)، فكر في جولة انتقامية شرسة تدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، ولم يكن هذا الإقدام من المهام التي كان عليه القيام بها من قِبل قريش، ولكن الضربة التي تلقاها جعلته يتصرف بهذه الطريقة المنفردة.



      [h=2]مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين أمام النجاشي[/h]

      قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، وقد تمكّن الشر منه: "والله لأنبِّئَنه (النجاشي) غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم".


      وهنا يريد عمرو بن العاص أن يدفع النجاشي إلى قتلهم لا أن يردهم إلى مكة، وهذه مرحلة أبعد من الشر، وعمرو هذا هو الذي تحول لما أسلم بعد ذلك إلى قائد مسلم محنك، يحافظ على كل نقطة من دماء المسلمين، ويصل بالإسلام إلى بقاع كثيرة من بقاع الأرض، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.



      وقد أرعبت هذه اللهجة من قبل عمرو بن العاص عبد الله بن أبي ربيعة رفيقه في السفارة، وقد ردَّ عليه متخوفًا وملطفًا: "لا تفعلْ؛ فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا".


      لكن عمرو بن العاص وقد جُرح جرحًا كبيرًا أصر على رأيه، وما صرح به لعبد الله بن أبي ربيعة، وقال: "والله لأخبرنه (النجاشي) أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ".


      وإن مثل هذا الخبر ليعد أمرًا عظيمًا في الحبشة، فقد كان أهل الحبشة يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكانوا يعتقدون أن المسيح هو إله تجسد في جسد بشر -تعالى الله عما يصفون- وهو وإن دل على شيء فإنما يعكس دهاء عمرو بن العاص، ومدى اطلاعه؛ إذ كان يعلم رأي المسلمين في عيسى ويعلم رأي أهل الحبشة أيضًا فيه.


      وهنا تكمن الخطورة؛ فإن عمرو بن العاص سيخبر النجاشي أن هؤلاء المسلمين يطعنون مباشرة في إلههم. وبالفعل مضى في تنفيذ خطته، فذهب من الغد إلى النجاشي وقال له: "أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه".


      لا يستطيع النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، فقد يكون صحيحًا. ومن ناحية أخرى فالأساقفة وكبار رجال الدولة لن يعذروا النجاشي إذا أظهر تعاطفًا مع موقف المسلمين دون تمحيص، ومن ثَمَّ فقد أرسل النجاشي إلى المسلمين يسألهم عن قولهم في عيسى بن مريم .


      تقول السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- في وصف حال المسلمين هناك في تلك اللحظة: "ولم ينزل بنا مثله".



      وهي حقًّا مشكلة خطيرة يتعرض لها الوفد الإسلامي وقد تعصف به، فإن رأيه (الوفد الإسلامي) في عيسى بن مريم يتعارض كلية مع رأي أهل الحبشة فيه، وهم (المهاجرون) ضعفاء زائرون لاجئون، وليس هناك مكان آخر في انتظارهم.


      ما كان من المسلمين إلا أن عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ تشاوروا ثم قالوا: "نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن".


      في عُرف السياسيين كان رد فعل المسلمين عجيبًا، ويعدُّ في نظرهم انتحارًا سياسيًّا، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، فالمسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، والسياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل إنه يريد أن يصل إلى النتيجة ولو على حساب الشرع، ولو على حساب الأخلاق، ولو على حساب الفضيلة، فالغاية عندهم تبرِّر الوسيلة.


      كانت الموازنة سهلة بالنسبة للمسلمين، فالرؤية عندهم واضحة، ولا شيء يقدم على العقيدة، ولا شيء يقدم على الحق والصدق، ولا شيء يقدم على الدعوة الصحيحة، ولم يرد المسلمون أن يتسلقوا على وسائل خادعة أو طرق ملتوية أيًّا كانت النتائج.


    • قول المسلمين في عيسى بن مريم




      وبهذه العقيدة دخل جعفر بن أبي طالب على النجاشي ومن معه من الأساقفة، وبصورة مباشرة سأله النجاشي: "ما تقولون في عيسى بن مريم؟"


      وفي ردٍّ موجز وملخص لعقيدة المسلمين في شأن عيسى بن مريم ، رد جعفر بن أبي طالب قائلاً:


      "نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (العذراء هي البكر، والبتول هي المرأة التي لا شهوة لها في الرجال)".


      ومع كونه ردًّا يرفع كثيرًا من عظم شأن وشرف عيسى بن مريم إلا أنه لا يكاد يُخرج عيسى عن كونه عبدًا لله ورسولاً من الرسل الذين أرسلهم الله إلى الناس، فقد وصف جعفر بن أبي طالب عيسى u أولاً أنه عبدٌ لله، ثم أثبت بعدها نبوته؛ وذلك حتى لا يلتبس على الأفهام اعتقاد أنه إله لأنه وُلد بغير أب أو أنه يُحيي الموتى، فقال جعفر في ترتيب جيد: هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.


      ولم ينسَ أيضًا أن يثني على أمِّه السيدة مريم، ويوضح أن عقيدة المسلمين فيها مخالفة لعقيدة اليهود الذين يفترون عليها الافتراءات، ويكيلون إليها الاتهامات البشعة، فلم ينافق جعفر ولم يداهن، وقد ذكر الحق مجردًا، وعرضه بأسلوب لطيف لا إفراط فيه ولا تفريط، لكن الجميع يعلم أن هذا الطرح الذي طرحه جعفر ليس مقبولاً في بلاد الحبشة، تلك التي تعتقد في ألوهية المسيح .


      تُرى ماذا كان ردّ فعلهم؟!


      في موقف مهيب فاجأنا النجاشي وفاجأ فيه أهل الحبشة، بل وفاجأ عمرو بن العاص وصاحبه، بل ولعله أيضًا فاجأ جعفر نفسه، حين ضرب الأرض بيده، وأخذ منها عودًا (عود رفيع وصغير من النبات يكاد لا يرى) ثم قال: "ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود".

      أي أن النجاشي رأى أن الفارق بين كلام جعفر بن أبي طالب في وصف حقيقة المسيح، وبين وصف المسيح نفسه لحقيقته هو فارق ضئيل جدًّا، يكاد لا يذكر، أو يكاد لا يرى، وهذا أيضًا يعني أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح ونبوته. وبالطبع لم يلق مثل هذا الكلام قبولاً لدى البطارقة والأساقفة وكبار رجال الدولة، فكان أن تنافرت البطارقة (أي أصدروا أصواتًا عالية تنمُّ عن الغضب والنفور من إسلام النجاشي)، وكان أن صاح النجاشي فيهم وفي حزم قائلاً: وإن نخرتم والله (يعني هذه هي الحقيقة المجردة برغم اعتراضكم)، ثم قام على الفور بإصدار ثلاثة قرارات غاية في الأهمية.



    • قرارات النجاشي



      القرار الأول



      استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود، وهو قرار خطير لأنه -وكما هو واضح- ليس على هوى كبار الأساقفة، وهذا قد يؤدي إلى فتنة داخلية في الحبشة، وإلى قلاقل قد تزعزع مُلْكَ النجاشي نفسه، وقد حدث هذا بالفعل، وقامت عليه ثورة نتيجة هذا القرار، لكن النجاشي -رحمه الله- كان من الشجاعة والعدل بحيث إنه أصدر هذا القرار دون اعتبار لعواقبه الوخيمة على ملكه.


      القرار الثاني

      قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات، والنجاشي رجل صالح، ومكة بلد تؤذي المؤمنين، فلا معنى إذن لإبقاء العلاقة قائمة بين البلدين، وقد عبر النجاشي عن ذلك بوضوح حيث قال: "ردوا عليهما -على عمرو وصاحبه- هداياهما؛ فلا حاجة لنا به".


      وهكذا أغلق النجاشي باب المفاوضات كُلِّيَّة مع المشركين من أهل مكة، حتى إن أم سلمة -رضي الله عنها- نفسها تصف هذا الموقف فتقول: فخرجا (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به.


      القرار الثالث

      وهو أخطر من القراريْن السابقيْن، وكان قرارًا سريًّا، لم يجهر به النجاشي لأحد، وهو قرار الإسلام، أخطر قرار في حياة إنسان.


      لقد أيقن النجاشي يقينًا دفعه إلى أخذ قرار شجاع بترك النصرانية والتحول عنها إلى الإسلام، تحول عنها وهو على رأس دولة نصرانية لا زالت متمسكة بنصرانيتها، لكنه كان رجلاً عادلاً، وعدله يمنعه من أن يضيع حق الله في أن يعبد ولا يشرك به، وعدله يمنعه من أن يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعدله يمنعه من أن يظلم نفسه ويضيع حقها في أن تؤمن بالله وتهتدي إلى الصراط المستقيم، لكن النجاشي لم يعلن إسلامه وآثر أن يظل محتفظًا بإيمانه في صدره، مظهرًا أمام الناس ديانته القديمة، النصرانية.

    • [h=2]النجاشي يخفي إسلامه
      [/h]

      ولكن لماذا هذا التخفي وهو في هذه المكانة؟! هل جزع النجاشي أو خاف على ملكه أو على نفسه؟! ولماذا أعلن جعفر بن أبي طالب أمر الدعوة دون مواربة ولا مداهنة، بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟!

      وحيال هذا الوضع، فإن الموقفين مختلفان، فقد كان لجعفر بن أبي طالب وظيفة دعوية، وللنجاشي وظيفة أخرى مختلفة عنه، وكان من وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرِّف الإسلام كما هو؛ حيث كل كلمة من كلماته ستحسب على الإسلام، فلم يكن هناك مجال للتورية أو الإخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته؛ فالموازنة كانت محسوبة، أما النجاشي فلم يكن محسوبًا بعد على الإسلام والمسلمين، فكان الأمر هنا يقاس من وجهة نظر أخرى، هل الأفضل للإسلام والمسلمين أن يظهر النجاشي إسلامه أو أن يخفي إسلامه؟!


      وكانت الإجابة أنه لو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني من مكانه، وليست هذه هي المعضلة، إنما المعضلة ماذا يحدث لو تم ذلك؟ والإجابة أيضًا -ولا شك- كان سينتهي دور المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين إلى حين قيام دولة لهم في مكان آخر، أما إن كتم النجاشي إيمانه فإنه سيحتفظ بمكانه غالبًا، وفي هذا ما فيه من توفير أقصى حماية للمؤمنين هناك.


      إذن كانت الوظيفة الدعوية لجعفر تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، في حين كانت تقتضي الوظيفة الدعوية للنجاشي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له.


      وما كان من أمر فقد عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، وذلك منذ العام الخامس من البعثة منذ بداية الهجرة الأولى إلى الحبشة، وحتى العام السابع من الهجرة النبوية، أي قرابة خمس عشرة سنة، ما قصر فيها النجاشي في حقهم مرة، وقد عبرت عن ذلك أم سلمة -رضي الله عنها- فقالت: "وأقمنا عند النجاشي بخير دارٍ مع خير جار".



    • جهود تشكر عليه ..
      اصرارك لتكملت الموضوع هو بحد ذاته شي كبير ..
      حبك لتطلع سيرة الانبياء ..
      متابعه لهذا الصرح الرائع بالتوفيق
      ☆☆☆الحمدلله ☆☆☆
    • [h=1]قصة إسلام أسد الله حمزة بن عبد المطلب
      [/h]


      في أثناء هجرة الحبشة أو بتعبير أدق: بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان قد حدث في مكة أمر جلل، كان بمنزلة حجر زاوية تَغيّر بعده مسار الدعوة تمامًا، واختلفت بسببه استراتيجية المؤمنين في جهادهم ضد أهل الباطل في مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا.
      هذا الحدث كان إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم إسلام عمر بن الخطاب بعده بثلاثة أيام، حدث ضخم، كان له رعد وبرق، وصدى مدوٍّ، ووقع مجلجل، فقد أسلما -رضي الله عنهما- في أواخر السنة السادسة من البعثة، وفي شهر ذي الحجة على الأرجح، وكانت قصة إسلامهما غاية في العجب، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].



      لقد أسلم كلا البطلين في أحوال لا يتوقع أحد من المسلمين أن يدخل الإيمان في قلب أيٍّ منهما.

      أسلم أولاً حمزة بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الشريف، وكان فارس قريش، وكان من أكثر الناس عزة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة.


    • [h=2]أبو جهل يتطاول على رسول الله
      [/h]

      كعادته خرج حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله إلى الصيد، وفي مكة وفي ذات هذا اليوم مر أبو جهل على رسول الله وهو عند الصفا وحيدًا، فما كان من أبي جهل إلا أن تطاول على رسول الله بلسانه وسبه سبًّا مقذعًا، ورسول الله صامت لا يجيبه أو يرد عليه سبابه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، لكن أبا جهل لم يزده حلم رسول الله إلا اغترارًا وجهلاً، فما كان منه إلا أن حمل حجرًا وقذف به رأس رسول الله الشريفة، فشجَّه حتى نزف منه الدم -بأبي هو وأمي - بعدها انصرف أبو جهل -لعنه الله- إلى نادي قريش عند الكعبة، مفاخرًا يحكي ما فعل، وما تم بينه وبين رسول الله .


      [h=2]مكر الله وعينه التي لا تنام[/h]

      كان لعبد الله بن جدعان أَمَة (وكانا كافريْن)، وكانت تلك الأمة قد رأت وسمعت ذلك الذي حدث بين رسول الله وبين أبي جهل لعنه الله، وبعد انتهاء الحدث جاء حمزة عم رسول الله من صيده، وبترتيب إلهي وقفت الجارية تقص ما حدث لحمزة، الجارية كافرة، ومولاها مثلها أيضًا، والذي تحكي له حمزة -أيضًا- كافر، لكن {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثر: 31]. قالت الجارية:



      "يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام؟ وجده هاهنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد لم يكلمه".


      كان حمزة هو الوحيد الذي يدافع عنه من بين أعمامه، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ إنه من أشد المحاربين له، لا أحد منهم يتذكر أخاه عبد الله والد محمد ، فهل إذا كان حيًّا كان سيحدث مثل هذا الموقف؟! وأين بنو هاشم وبنو عبد مناف؟ وهل يصل الموقف لأن يَضرب أبو جهل أشرف شرفاء بني هاشم وأشرفهم على الإطلاق؟! أوَ يصل الوضع إلى هذا الحد ونحن نشاهده بأعيننا؟!

      الظلم الشديد الذي تفاقم ووصل إلى هذه الدرجة كان قد حرك هذه العواطف وتلك المشاعر والأفكار في قلب حمزة وعقله، مشاعر الحب لمحمد ، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمدًا، وأيضًا مشاعر القبلية الهاشمية الشريفة، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم بني مخزوم، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم.

      بعد سماع كلام الجارية تلك لم يجد حمزة نفسه إلا متجهًا نحو فعل غريب، ومدفوعًا وبقوة عجيبة تجاه عمل لم يفكر ولم يخطر ببال أحد أبدًا أن يقدم عليه، بل لم يفكر هو نفسه في أن يفعله، لقد انطلق حمزة -وهو الذي ما زال على دين قومه- إلى أبي جهل، حيث يجلس بين أصحابه وأقرانه وأفراد قبيلته في البيت الحرام، وقد نظر إليه ثم أقبل نحوه لا يقوى أحد على الوقوف أمامه، وأمامه تمامًا كانت نهاية خطواته، ثم ودون أدنى ارتياب أو تفكير رفع قوسه وقد هوى به على رأس أبي جهل في ضربة شديدة مؤلمة، شجت على أثرها رأسه وأسالت الدماء منها، لقد كان قصاصًا عادلاً، ضربة بضربة، ودماء بدماء، لكن فوق ذلك فإن الإهانة كانت غاية في الشدة لأبي جهل؛ حيث كانت هذه الضربة أمام أفراد قبيلته وعشيرته، بينما كان الذي حدث مع رسول الله بعيدًا عن أعين الناس.

      لقد كان مثل هذا الرد في عرف الناس كافيًا لأن يُشفي الغليل ويريح الصدر ويسكن القلب، لكن حمزة ما زال ثائرًا، لم يُشف غليله بعدُ، ولم يُرح صدره ولم يسكن قلبه ولا سكنت جوارحه، أراد حمزة أن يكيد لأبي جهل بكل ما يستطيع، أراد أن يلقي في قلبه حسرة تدغدغ جوانبه وتشل أركانه، فكر حمزة، ما أشد ما يغيظ أبا جهل؟ وفي نفسه علم أنه الدين الجديد، إنه الإسلام، وعلى الفور ودون سابق تفكير أو تَرَوٍّ قال حمزة: "أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرُد عليَّ ذلك إن استطعت".



      انطلقت هذه العبارة من فم حمزة فوقعت كالقذيفة على قلب أبي جهل، لم يستطع بعدها أن يحرك ساكنًا، ألهته عن التفكير في الانتقام، وقد تضاءل حجمه حتى كاد أن يختفي وهو كبير الكافرين، حينها قام رجال من بني مخزوم يريدون أن ينتصروا لأبي جهل، لكنه خيفة منعهم ذلك، بل وهدأ ثائرتهم وقال: "دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا".


      لكن، ما الذي حدث من حمزة؟! أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟! أبهذه السهولة يقول وفي لحظة واحدة الكلمة التي لطالما رفض أن يقولها سنوات وسنوات؟!


      سنوات ست كان يسمع حمزة عن الإسلام، سنوات ست لم تنقل حمزة من حال الكفر إلى حال الإيمان، بينما نقله هذا الحادث غير المقصود في عرف الناس، لقد دخل حمزة دين الإسلام رغمًا عن إرادته، لم يتروَّ في التفكير كعادته، خرجت الكلمة من فمه فما عرف كيف يستردها.



    • [h=2]إسلام حمزة وسنن الله
      [/h]

      يظن البعض أن حمزة قد أسلم مصادفة، لكن الحقيقة أن إسلامه ليس بالمصادفة، إنما هي سنة من سنن الله ، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله أعقبه نصر من الله ، ولا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصرًا للدعوة، وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ما لفت نظر حمزة، وما استطاع أن يحرك أشياء كثيرة جدًّا ما تحركت منذ سنوات ست، فهو تدبير رب العالمين، فكما يخلق من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا، يخلق من وسط الظلم عدلاً ونورًا، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا، ولو كان أبو جهل يعلم أن مثل هذا سيحدث ما فكر ولو مرة واحدة في سب أو ضرب رسول الله ، لكنه تدبير رب العالمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].


      فهي رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة، ولعلها أحلك لحظات الليل سوادًا التي يأتي بعدها ضياء الفجر، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يولد النصر للإسلام والمسلمين.



    • صدق النفس وتحقيق الإيمان






      بعد كلمته الكيدية السابقة لأبي جهل، وكرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يرجع في كلمته، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها حقًّا، عاد حمزة إلى بيته وهو في صراع حميم مع نفسه، ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟!
      ولأن فطرته سوية وسليمة لجأ إلى الله ، فقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بالله، وأنه خالق ورازق وقوي وقادر، يؤمنون بذلك كله لكنهم كانوا لا يحكّمونه في أمورهم، ويشركون به بعبادتهم الأصنام يتقربون بها إليه زُلْفَى، لجأ حمزة إلى الله بما يشبه صلاة الاستخارة قائلاً: "اللهم ما صنعتُ إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلاَّ فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا".


      ولأن الله يريد به خيرًا هداه لأن يذهب إلى رسول الله خير طبيب ليعرض عليه أمره وما أهمه، وعنده قال حمزة: "يابن أخي، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو، أرشد أم هو غيٌّ شديد؟ فحدثني حديثًا؛ فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني".

      وهنا أقبل عليه رسول الله وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، فذكّره رسول الله ما كان يذكّره إياه، ووعظه ما كان يعظه به، وخوفه ما كان منه يخوفه، وبشره ما كان به يبشره، اللغة هي اللغة، والحديث هو الحديث، لكن الوعاء الذي يستقبل الفيض قد اختلف وتغير، وإنها للحظة هداية يختارها الله بحكمة بالغة. سمع حمزة الكلمات التي طالما كان يسمعها كثيرًا، لكن هنا انبسطت أساريره، وانشرح صدره، وآمن من ساعته بصدق، وقال لرسول الله وبيقين صادق من قلبه:

      "أشهد أنك الصادق، فأظهر يابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول".


      وسبحان الله! هكذا وفي لحظة واحدة أصبحت الدنيا كل الدنيا لا تساوي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام، ومن بعدها أصبح حمزة أسد الله.


      انتقل بعدها حمزة ومن فوره من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش فقط لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للطعام والنوم، إلى رجل قد أصبح كل همه أن يُعبّد الناس لرب العالمين، وأن يدافع عن دين الله وعن رسول الله وأن يُظهر الإسلام ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخريطة في فترة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيِّدًا للشهداء في الجنة، فقد أصبح حمزة سيدًا لكل الشهداء على مر التاريخ وإلى يوم القيامة، وقد خلد ذكره في الدنيا وخلد ذكره في الآخرة، وبحق لو نريد أن نعرف قيمة الإسلام، فلننظر إلى حمزة قبل الإسلام، ولننظر إليه بعد الإسلام.


      فهذا هو الإسلام الذي صنع حمزة، وصنع أيضًا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم على مر التاريخ. إذا كنا حقًّا نحتاج إلى رجال مثل حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه، ويجب أن نعيش الإسلام كما عاشه حمزة ، وعاشه كذلك كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

    • [h=1]قصة إسلام عمر بن الخطاب
      [/h]

      بعد ثلاثة أيام فقط من إسلام حمزة بن عبد المطلب آمن رجل آخر، آمن عظيم آخر، وبإيمان هذا المؤمن الجديد سيغير الله من وجه الأرض تمامًا، سيغير من حركة التاريخ، ذلك الرجل الذي سيزلزل عروش ملوك الأرض في زمانه، كسرى وقيصر وغيرهم، هذا المؤمن الجديد هو: عمر بن الخطاب، عمر الفاروق .
      فمنذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر أيام حياته كان فاروقًا، وإن قصة إسلامه لأعجب من قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فقد كان حمزة خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان سلبيًّا بالنسبة لرسول الله وبالنسبة للمؤمنين، فهو ليس معهم، وفي الوقت ذاته ليس عليهم.


      [h=2]تاريخ عمر مع المسلمين[/h]

      أما عمر بن الخطاب فكان شيئًا آخر، فتاريخه مع المؤمنين كان من الصعوبة والقسوة بمكان، كان تاريخه حافلاً بالقسوة والعنف الشديدين، ومثل حمزة فقد كان عمر رجلاً مغمورًا في التاريخ، رجل مثل بقية رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له مكانة خاصة في نادي قريش، وكانت سفارة قريش موكولة إليه، وكان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن ما هي قبيلة عديّ أو ما هي مكة بالنسبة إلى ما يجاورها من تكتلات وقوى عظمى؟


      ما هي مكة بالنسبة إلى فارس والروم ومصر والصين والهند، إنها لا تعدو أن تكون مجموعة من القبائل البدوية البسيطة، التي تعيش في وسط الصحراء العربية على الرعي والتجارة وبيع الأصنام، وهذه مكة قبل الإسلام، فكان عمر مثل آلاف أو ملايين الرجال الذين مروا في التاريخ، وقد انطوت صفحاتهم، واندثر ذكرهم بمجرد وفاتهم.




    • [h=2]قسوة وغلظة.. ولكن
      [/h]

      إلى جانب سلطته وقوته وبأسه كان عمر أيضًا غليظ الطباع، قاسي القلب، شديدًا على الإسلام والمسلمين، فقد كان يعذِّب جارية له علم بإسلامها من أول النهار حتى آخره، ثم يتركها نهاية الأمر ويقول: "والله ما تركتك إلا ملالةً".



      ورغم هذه القسوة وتلك الغلظة إلا أن عمر كان يخفي وراءها رقة عَزَّ أن تجد مثلها. تحكي عن هذا زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وذلك حينما رآها عمر وهي تعد نفسها للهجرة الأولى إلى الحبشة، فقال لها كلمة شعرت من خلالها برقة عذبة في داخله، وأحست بقلبها أنه من الممكن أن يسلم عمر، وذلك أنه قال لها: صحبكم الله.


      لم تتوان زوجة عامر بن ربيعة في أن تخبر زوجها بما رأت من عمر، فرد عليها بقوله: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم. ولأن الانطباعات الأولى ما زالت محفورة في نفسه، رد عليها زوجها وفي يأس كامل بقوله: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب. وإذا كانت الأمور بخواتيمها، فقد كانت نظرة المرأة أدق من نظرة الرجل.


      [h=2]صراع حاد بين جوانح عمر
      [/h]

      وإزاء الأحداث والمستجدات الأخيرة، والتي ظهرت على ساحة مكة كان يعيش عمر بن الخطاب صراعًا نفسيًّا حادًّا، فهو بين أن يكون زعيمًا قائدًا في مكة، وبين أن يكون تابعًا في هذا الدين الجديد، يحدثه قلبه بأن هؤلاء الناس قد يكونون على صواب، وأن هؤلاء الناس ثباتهم عجيب جدًّا فيما يتعرضون له، وهم يقرءون كلامًا غريبًا لم نسمعه من قبل، هذا إضافةً إلى أن (رئيسهم) الرسول ليس عليه من الشبهات شيء، فهو الصادق الأمين.



      ويحدثه عقله بأنه سفير قريش، وقائد من قوادها، والإسلام سيضيّع كل هذا، فذلك الدين قسّم مكة إلى نصفين، نصف يؤمن به ونصف يحاربه، ومنذ ست سنوات ونحن منه في متاعب ومشكلات، ومناظرات ومحاورات.

      صراع شديد في نفس عمر، قلبه في طريق، وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء في مكة كثيرون، يزينون له المنكر.

      [h=2]عمر يقرر قتل رسول الله
      [/h]

      في لحظة عصيبة من هذا الصراع الداخلي انتصر عقله في النهاية، وبعدها شعر بكراهية شديدة لرسول الله الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، والذي لم يكن معتادًا عليه، ولأن من طبعه الحسم وعدم التردد، فقد قرر أن ينتهي من كل ما يؤرقه، وأراد أن يخلص نفسه ويخلص مكة كلها ممن أحدث فيها هذه البدع وتلك المشكلات، فقرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، قرر أن يقتل رسول الله .


      وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار -أيضًا- ما حدث قبل يومين من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يد عم رسول الله حمزة والذي أصبح على دين محمد، وكانت حرارة هذا الدافع نابعة من أن أبا جهل خال عمر بن الخطاب، رأى عمر أنه قد أصيب في كرامته تمامًا كما أصيب أبو جهل، ورد الاعتبار في هذه البيئة عادة ما يكون بالسيف.


      هنا قرر ابن الخطاب قتل رسول الله ، وقد جاء خاطر هذا القرار في ذهنه في لحظة، وكانت محاولة التنفيذ مباشرة في اللحظة التالية، رغم أنه لم يعرف مكان رسول الله ؛ فلم يكن من المشركين أحد يعرف دار الأرقم بن أبي الأرقم.


      خرج عمر بن الخطاب من بيته متوشحًا سيفه قاصدًا رسول الله يبحث عنه لقتله، وفي الطريق لقيه نُعَيم بن عبد الله وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، وكان أيضًا من قبيلة عمر، من بني عدي، وكان من السهل على نعيم أن يقرأ الشر في قسمات وملامح وجه عمر، فأوقفه نعيم وقال له: أين تريد يا عمر؟


      ولأنه صريح لا يكذب ولا ينافق ولا يُداهن، لعدم حاجته إلى مثل هذه الصفات، ومن ناحية أخرى فهو لا يعرف نبأ إسلام نعيم، قال عمر في غاية الصرامة والجدية: أريد محمدًا، هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها؛ فأقتله.


      ما كان من نعيم حين سمع مقالة عمر إلا أن أصابه الرعب والفزع، فقد رأى الخطر العظيم المحدق برسول الله وليس هناك وقت لتنبيهه.



    • من مأمنه يُؤْتى الحَذِر




      إزاء ما وجد نعيم من عمر، لم يتمالك نفسه في أن يكشف له عن سر خطير؛ قاصدًا أن يلهيه به عن هذا الإقدام وذاك التفكير، فأماط اللثام عن إسلام أخته وزوج أخته معًا، كشف له عن إيمان فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها أخت عمر، وعن إيمان زوجها سعيد بن زيد ، كان من الممكن أن يقتلهما عمر، لكن في المقابل يستطيع نعيم أن يبلغ الرسول ليأخذ حذره، ولو كان أخبره بإسلام أحد آخر فلن يهتم عمر، أما إذا أخبره بإسلام أخته، فهذا شيء كبير جدًّا وطعن جديد في كرامة عمر، هنا قال نعيم مهددًا:


      والله لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟!

      ثم ألقى بقنبلته المدوية، فقال: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟

      وفي فزعٍ، قال عمر: أي أهل بيتي؟!

      فألقى نعيم ما في جعبته قائلاً: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما.

      الله يهدي من يشاء



      جنَّ جنون عمر، وقد نسي ما كان يفكر فيه، وأسرع من توّه إلى عقر داره وبيت أخته الذي اخترقه محمد لا يلوي على أحد.


      في تلك الأثناء كان خباب بن الأرت يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن الكريم، فقد كان رسول الله يقسم المسلمين إلى مجموعات، كل مجموعة تتدارس القرآن فيما بينها، ثم يجتمعون بعد ذلك في لقاء جامع معه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وقد كان خباب يقوم بدور المعلم لسعيد وزوجته.


      وصل عمر إلى بيت أخته، وقبل دخوله سمع همهمة وأصواتًا غريبة، وبعنفٍ أخذ يطرق الباب وينادي بصوته الجهوريّ أن افتحوا.


      أدرك من بالداخل أن عمر بالباب، فأسرع خباب -وكان من الموالي- بالاختفاء في غرفة داخلية، وقد قال: "لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن ينجو خباب".


      وفتح سعيد الباب، ودخل عمر وهو يحترق من الغضب، لا يسيطر على نفسه والكلمات تتطاير من فمه، والشرر يقذف من عينيه، ودون استئذان يسأل: ما هذه الهمهمة (الصوت الخفي غير المفهوم) التي سمعت؟

      ردَّا عليه: ما سمعتَ شيئًا.

      قال عمر: بلى، والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه.


      ثم ألقى بنفسه على سعيد يبطش به، هنا تدخلت الزوجة الوفية فاطمة -رضي الله عنها- تدافع عن زوجها، فوقفت بينه وبين عمر تدفع عمر عنه، وفي لحظة غضب عارمة التفت عمر إلى أخته، ولم يدرك نفسه إلا وهو يضربها ضربة مؤلمة على وجهها، تفجرت على إثرها الدماء من وجهها.

      وإزاء ما حدث وفي تحدٍّ واضح، وقف سعيد بن زيد يتحدى عمر ويقول: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.


      وإن تعجب فعجب موقف أخته فاطمة المرأة الضعيفة، وقد وقفت في تحدٍّ صارخ وأمسكت بوجه أخيها عمر، وهي تقول له: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر.

      ذهل عمر، ما هذا الذي يحدث؟! هل هذه هي أخته؟ ما الذي جرّأها إلى هذه الدرجة؟!

      وعلى شدة بأسه وقوة شكيمته شعر عمر بأنه ضعيف وصغير، لا يستطيع أن يقف أمام هذه المرأة، وفي الوقت ذاته شعر وكأنها أصبحت جبلاً أشمًّا يقف أمامه، لقد تغيرت الدنيا وهو لا يدري.

      ورغم ذلك وفي تعبير عن رقة عظيمة في قلبه تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال عمر: فاستحييت حين رأيت الدماء.

      وإذا كان الحياء كله خير، وإذا كان الحياء لا يأتي إلا بخير، فإن الرجل الذي ليس به خير هو الذي لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه ووقفت أمامه وتحدته، وبالأخص في هذه البيئة القبلية الجاهلية، تلك التي كانت تفقد فيها المرأة كثيرًا من حقوقها.

      وفي تنازل كبير للغاية، يقول عمر: فجلست، ثم قلت: أروني هذا الكتاب. في نظرِهِ أن هذا مطلبٌ عادي.

      وكانت اللطمة والضربة الثانية الموجعة التي لم يكن يتوقعها على الإطلاق، حيث قالت له أخته فاطمة: يا أخي، إنك نجسٌ على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.

      وعلى عكس ما كان يتوقعه بَشَر قام عمر وفي هدوء عجيب، قام ليغتسل.

      لا شك أن هناك شيئًا غريبًا يحدث، شيئًا لا يمكن تفسيره إلا عن طريق قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].

      وهنا قد شاء الله الهداية لعمر، وشاء الله الخير له وللمسلمين بل ولأهل الأرض جميعًا، قام عمر وسط هذه الأجواء ليغتسل في بيت أخته ليصبح طاهرًا فيقرأ الصحيفة.


      بعد اغتساله أعطته فاطمة -رضي الله عنها- الصحيفة يقرؤها، وبلسانه وعقله وقلبه قرأ عمر: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال مُظهِرًا خيرًا عميمًا: أسماء طيبة طاهرة.


      ثم قرأ: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1- 8].



      تزلزل عمر، وقد وجد نفسه خاشعًا متصدعًا من خشية الله، وفي لحظة قد خالط الإيمان فيها قلبه قال عمر: فعظمت في صدري، فقلت: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله!


      فكان شأن عمر الساعة قد تبدّل، وكان هذا هو عمر، أسلم بمعنى الكلمة.

      وكانت هذه من أعظم لحظات البشرية على الإطلاق، لحظة تحول فيها رجل يسجد لصنم ويعذب المؤمنين إلى عملاق من عمالقة الإيمان، وإلى فاروق فرق الله به بين الحق والباطل، وإلى رجل يراقب الله في كل حركة وكل سكون، وكل كلمة وكل همسة، ثماني آيات فقط، صنعت الأسطورة الإسلامية العجيبة عمر.

      وحين سمع عمر وهو يقول: ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! خرج خباب من مخبئه وقال: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللَّهُمَّ أَيِّدْ الإِسْلاَمَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"، فاللهَ اللهَ يا عمر.


      عند ذلك قال عمر مُقِرًّا ومعترفًا برسالة محمد : فأين رسول الله؟


      قال خباب: إنه في دار الأرقم.

      أخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق من جديد إلى رسول الله ، ولكنه انطلق في هذه المرة بقلب مؤمن، وأمام دار الأرقم ضرب عمر الباب على رسول الله وصحابته، فقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فوجد عمر، فرجع فزعًا إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف.


      كان في بيت الأرقم آنذاك أربعون صحابيًّا مع رسول الله ، ورغم هذا العدد فقد قام يدافع عن الجميع ويتصدر هذا الموقف الخطير حمزة بن عبد المطلب ، الذي لم يخالط الإيمان قلبه إلا منذ ثلاثة أيام فقط، قام حمزة، فقال في صلابة: "فَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ".


      فقال رسول الله : "ائْذَنُوا لَهُ".



      ففتح لعمر فدخل إلى الدار المباركة، دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم أدخلوه في حجرة، وقام إليه رسول الله فدخل عليه، واقترب منه، ثم أخذ رسول الله بمجمع ردائه، ثم جذبه نحوه جذبة شديدة وقال له في قوة: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعة".



      عندئذٍ ردَّ عمر بصوت منخفض: يا رسول الله، جئت لأُومِنَ بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله.

      الله أكبر! انتصار هائل وكبير للدعوة، خاصة بعد دخول حمزة في دين الله .


      الفرحة في قلب الرسول لا توصف، وكان أول رد فعل له أن كبر الله : الله أكبر! الله أكبر الذي صنع هذه المعجزة.


      عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله أن عمر قد أعلن إسلامه، فدخلوا عليه يهنئونه ويباركونه جميعًا، وأصبح العدو القديم صديقًا ورفيقًا.



    • عمر.. فاروق منذ البداية




      وكما ولد حمزة عملاقًا، فإن عمر أيضًا ولد عملاقًا y، ولد عمر فقيهًا، حازمًا، واضحًا صريحًا، مضحيًّا، بعد إسلامه مباشرة كانت أول كلمة قالها: يا رسول الله، ألسنا (استخدم صيغة الجمع) على الحق؟

      قال: "بلى".

      قال عمر: ففيمَ الاختفاء؟!

      منذ أن أعلن إسلامه وقد حسب نفسه واحدًا منهم، وقد أخذ يقترح عليهم الاقتراحات، ويفكر كيف يخدم هذا الدين، وما هو الأنفع والأصلح للدعوة، وكان هذا هو عمر.

      ولقد كان رسول الله يرتب حساباته بدقة، وكان الاختفاء لأسباب، وهنا وقد تغير الوضع، وبعد أن كان للاختفاء مزايا، أصبح للإعلان مزايا؛ فأعاد الرسول الله حساباته ثانية من جديد، وذلك بعد إيمان حمزة وعمر رضي الله عنهما، رجلان فقط من المسلمين غيَّرا من مسار الدعوة الإسلامية بكاملها في هذه الفترة الحرجة.


      ووافق رسول الله على الإعلان، وسيبدأ يُعلن الإسلام في مكة، وسيظهر المسلمون في مكة، وتقضى الشعائر أمام كل الناس في مكة وفي وضح النهار، وكانت هذه دعوة كبيرة جدًّا لله وللرسول وللمسلمين، أخذ المسلمون القرار من حينها، وفي نفس اللحظة خرج المسلمون في صفين، عمر على أحدهما، ولم يكن آمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر وكان قد آمن منذ ثلاثة أيام فقط. ومن دار الأرقم إلى المسجد الحرام، حيث أكبر تجمع لقريش، سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية المؤمنة.


      ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهم يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة، يقول عمر: فسماني رسول الله الفاروق يومئذٍ.



    • [h=2]عمر يزف خبر إسلامه لأبي جهل
      [/h]

      في شوق ولهفة عارمة لأن يعلم ألد أعداء الإسلام خبر إسلامه، نظر عمر بن الخطاب في المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل، حينها قرر أن يذهب إليه في بيته ويخبره بنفسه عن أمر إسلامه.

      يقول عمر: فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إليّ وقال: مرحبًا وأهلاً يابن أختي، ما جاء بك؟!


      وفي تحدٍّ واضح، قال عمر: جئتُ لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به.


      قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.



      فرح عمر فرحًا شديدًا؛ كونه غاظ أبا جهل، ذلك الذي كان صاحبه منذ قليل، لكن الإسلام نقله نقلة هائلة.

      لكن عمر ما زال يريد أن يُعلم خبر إسلامه الجميع، فذهب إلى جميل بن معمر الجمحي الذي كان أنقل قريش للحديث، لا يسمع حديثًا إلا حدث الناس جميعًا به، ذهب عمر وقال له: يا جميل، لقد أسلمت. وبأعلى صوته نادى جميل: إن ابن الخطاب قد صبأ. فردَّ عليه عمر: كذبت، ولكني قد أسلمت.


      وعرفت مكة كلها بإسلام عمر، وكان هذا عين ما أراده، بعدها اجتمع القوم من أطراف مكة، وقد أقبلوا على عمر بن الخطاب وأخذوا يقاتلونه ويقاتلهم، وبعد تعب شديد جلس عمر على الأرض وقال:

      افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. وسبحان الله! كان هذا هو عدد المسلمين يوم بدر.

      [h=2]قوة وعزة.. ولكن[/h]

      كأن الله يريد أن يعلم عمرَ طريق الدعوة من أول يوم ولد فيه حين أسلم، فكان أن ضُرب عمر وأُهين، وكذلك كان حال كل من حمل همّ الدعوة إلى الله تعالى.. "أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".



      ومع أن عمر ضُرب من أول يوم إلا أن هذا كان رد فعل استثنائي نتيجة المفاجأة بإسلامه، وكان إسلام حمزة وإسلام عمر بعد ذلك دفعًا كبيرًا للدعوة الإسلامية، فقد كانت مكة تهاب عمر وتخشاه، يؤكد هذا كلام صهيب الرومي حين يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعِي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.



      ويقول أيضًا عبد الله بن مسعود : "ما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر".


      ومع أن حال المسلمين كان قد تحسن، وأصبح المسلمون يُظهرون عبادتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول لم يعلن الحرب على قريش، لم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، كانت الأصنام ما زالت منتشرة في مكة، بل في الكعبة، وما زالت رايات العاهرات الحمر مرفوعة، وما زالت الخمور تسقى، وما زال المشركون يعبدون إلهًا غير الله، إلا أنه ما زال القتال لم يُفرض بعد على المسلمين، وإن في هذا لرسالة واضحة لجمعٍ من الشباب ممن يتحمسون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق القوة والعنف وحمل السلاح، معتقدين أنهم في زمن تمكين وسيادة، ومتجاهلين أن الرسول نفسه لم يقم بمثل هذا في فترة مكة. إن الجرأة من شباب المسلمين على المشركين في ذلك الوقت لا تُعدّ شجاعة، ولا تعد جهادًا، وإنما تعد تهورًا وتسرعًا وجهلاً بفقه المرحلة.


      لقد ثقلت كفة المسلمين كثيرًا بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ولكن اتخذ ذلك بحساب، وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، فقد تكون الظروف مشابهة لظروف مكة، وفوق ذلك قد تكون بغير حمزة وبغير عمر، ومع ذلك قد يحدث منهم تهوُّر واندفاع، وإنها لرسالة: قد تخسر الدعوات كثيرًا من حماسة في غير موضعها، تمامًا كما تخسر من رَوِيَّة في غير مكانها.



    • [h=1]موقف عتبة بن ربيعة مع رسول الله
      [/h][h=2]قريش تستأنف المفاوضات مع الرسول
      [/h]

      كانت أحداث ضخمة جدًّا قد حدثت في مكة، تغييرات محورية في مسار الدعوة، أسلم حمزة ثم أسلم عمر رضي الله عنهما، تغيرت موازين القوى في مكة تغيرًا ملحوظًا، ولم يكن ذلك يخفى على مشركي قريش وعلى زعمائها، فها هم الأحرار الأشداء وقد باتوا يسلمون، وها هي الدعوة الإسلامية وقد باتت تتسلل إلى داخل بيوتاتهم.


      وإزاء تلك الأحداث وتلك التطورات الخطيرة، دعا المشركون إلى اجتماع عاجل على مستوى قادة وزعماء مكة؛ وذلك لمواجهة الأزمة الجديدة، والمشكلة الخطيرة التي باتت تهددهم. وفي هذا الاجتماع تقدم عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وأحد حكماء قريش باقتراح، فعرض يقول:



      يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟



      وكان هذا تنازلاً جِدّ خطير من زعماء قريش، وهو وإن دل على شيء فإنما يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا العرض كان على غير هوى الكثيرين إلا أنهم وافقوا مضطرين، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.


      [h=2]قصة عتبة بن ربيعة مع رسول الله
      [/h]

      وفي المسجد الحرام حيث كان رسول الله يجلس بمفرده ذهب عتبة، وجلس معه وبدأ حواره، ولأنه كان ذكيًّا فقد بدأ عتبة بن ربيعة الكلام وقد رتبه ونظمه، ونوّع فيه بين الإغراء والتهديد، وبين مخاطبة العقل ومناجاة القلب. ولا غرو فهو كما يقولون كان من الحكماء، ابتدأ عتبة كلامه يرفع من قدر رسول الله بقصد إحراجه نفسيًّا قائلاً:



      يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السِّطَة -أي المنزلة- في العشيرة والمكان في النسب.



      ثم أتبع ذلك بالتلويح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلاً: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.



      يريد وبمنتهى الوضوح أنك متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهّان ومن يخدم الأصنام، أنت قد أقدمت على هذا العمل، وقد تسبب عنه لقومك كذا وكذا وكذا، وقد يكون ما أقدمت عليه هذا مجرد خطأ غير مقصود، ومن ثَمَّ -ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت.



      بهذه الطريقة الثعبانية يريد عتبة أن يخبر رسول الله أن هذه الاقتراحات التي سنطرحها عليك ليست مجرد اقتراحات مغرية فقط، بل إن مجرد رفض هذه الاقتراحات معناه توجيه وإثبات التهم الخطيرة عليك، والتي عقابها أنت تعلمه ولن أذكره لك.



      حرب نفسية شديدة، وإن كانت مغلفة بابتسامة واحترام كبير، وكان رسول الله يتفهم مثل هذا الأسلوب جيدًا، وكان يعلم أن هذه مساومة على الدين، لكنه كان في غاية الأدب مع عتبة المشرك الكافر، فقال له في سعة صدر وفي رقة قلب مدللاً له ومناديًا إياه بكنيته وبأحب الأسماء إليه:



      "قل يا أبا الوليد".



      يريد رسول الله أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويريد أن يعطيه فرصة للحديث حتى يعطيه بعد ذلك بدوره فرصة للسماع، قال عتبة يعرض لأمور غاية في الإغراء لأهل الدنيا:


      [h=3]العرض الأول:[/h] يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.



      [h=3]العرض الثاني:[/h] وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك.



      [h=3]العرض الثالث:[/h] وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا.


      [h=3]العرض الرابع:[/h] وهو عرض غير مؤدب -لكنه حاول أن يخرجه في صورة مؤدبة- قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.



      وهذا العرض الأخير فيه من التلميح من أن الذي لا يقبل العروض السابقة، فإنه -ولا شك- في عرف قريش مجنون.



      وكانت هذه عروض أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله ، وكان عتبة يقدم هذه العروض وهو يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها.



      وإن هذا التنازل الكبير لا بد أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو: السكوت عن الحق، ترك أمر الدعوة، عدم الخوض إلا فيما يرضي الزعماء والأسياد في مكة أو في غير مكة.



      وهي -لا شك- عروض لشراء الضمائر والذمم، ولا شك أن من يقبل بمثلها فإن عليه أولاً أن ينحي الضمير جانبًا. ومن هنا فإن التنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها -عادةً- تنازلاً صغيرًا، ولأن الرسول لم يكن ليخفى عليه مثل هذا، فكان لا يمكن أن يتنازل.



      كان رسول الله سياسيًّا بارعًا محنكًا، يحاور ويفاوض، لكن وفق ضوابط شرعية قد سنَّها وحددها، فما قبله فهو الحد الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبل أو يتخطاه أي داعية بعد ذلك.



      ومع أن الرسول كان يعلم منذ أول كلمة تفوه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات لا قيمة لها، ومنذ أول حديث له (لعتبة) وهو عازم تمامًا على رفض كل العروض الدنيوية المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كل ذلك إلا أنه -وسبحان الله- لم يقاطع عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه وفي هدوءٍ تام وعدم انفعال قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟".



      أجابه عتبة: نعم.



      وهنا قال له رسول الله : "فاسمعْ مني".



      قال عتبة: أفعل.

      وكان هذا هو الذي يريده ، ولم يكن عتبة ليستطيع أن يرفض السماع بعد كل هذا الأدب العظيم من رسول الله، فكان مضطرًّا لأن يسمع حتى وإن كان على غير مراده، وفي محاولة جادة لتطويع الهدف بدأ رسول الله في الحديث، فلم يتكلم بكلامه هو، إنما تكلم بكلام الله، تكلم بالقرآن، فقرأ قول الله تعالى:



      بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت: 1- 7].


      كلمات معجزة عجيبة تتنزل عليه كما الصاعقة، تكشف كل ما بداخله، وهو يزداد خوفًا ولا يستطيع القيام.



      قرأ رسول الله قول الله : {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصِّلت: 8- 12].



      ثم يرتفع التحذير والتهديد فيبلغ أقصاه حين يقرأ رسول الله : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصِّلت: 13].



      وهنا لم يتمالك عتبة نفسه عن عدم السماع، وقد أخذ به الرعب والهلع كل مأخذ، وكاد قلبه ينخلع، وشعر وكأن صاعقة ستنزل عليه في لحظة أو في لحظات، وفي حالة نسي فيها أمر عدائه، ونسي أمر المفاوضات، بل نسي مكانته وهيبته، قام فزعًا وقد وضع يده على فم الرسول وهو يقول: أنشدك الله والرحم، أنشدك الله والرحم.

      ومن فوره قام عتبة يجرُّ ثوبه يتبعثر فيه مهرولاً إلى قومه، لا ينظر خلفه، عيناه زائغتان، أنفاسه متقطعة، حتى دخل على زعماء قريش.



      لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجمع ما حدث، لقد كان وجهه ينطق بشيء، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.



      وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟!



      وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجربته، بدأ يتحدث وكأنه أحد الدعاة للإسلام فقال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.



      وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.



      فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.


    • [h=2]فشل المفاوضات وانقسام مكة
      [/h]

      كان الذي حدث بين عتبة بن ربيعة ورسول الله نهاية الأمر إيذانًا بفشل المفاوضات بين المشركين وبين رسول الله ، كان المشركون يسعون إلى حل سلمي في رأيهم، لكن رسول الله يعلمنا أن الحل السلمي ليس معناه التنازل، بل إن السلام لا يكون إلا بحفظ الحقوق، وأول حق يجب أن يُحفظ هو حق الله ، فلا يجوز لمفاوض ولا معاهد أن يبني عهده وميثاقه على مخالفة لحق الله .

      وهكذا فشلت المفاوضات، وتوقع كل المراقبين للأحداث أن تحدث أزمة كبيرة في مكة بعد هذا الانهيار للمباحثات بين الطرفين، وكان أبو طالب عم رسول الله يراقب الموقف، وقد أدرك أن قريشًا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما حدث، فخشي أبو طالب أن يثور زعيم أو سفيه من زعماء أو سفهاء قريش فينطلق إلى رسول الله ويقتله، ففكر فيما يفعل كي يحمي من يحبه أكثر من أولاده، وهو محمد ، وفي هذا الموقف أخذ أبو طالب قرارًا حاسمًا، لقد قام بدعوة بني عبد مناف بشقيها (بني هاشم وبني المطلب، والمطلب هو عم عبد المطلب جد الرسول ) ثم طلب منهم أن يجتمعوا جميعًا لحماية ابنهم محمد ، وأجاب جميع القوم، مسلمهم وكافرهم، حمية وقبلية، وطاعة لكبيرهم أبي طالب.


      وبهذه الصورة بات من المؤكد أن مكة أصبحت على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقية قريش حتمية لا مناص منها، وإذا كان أبو طالب يخشى ما قد يقدم عليه زعماء مكة، فكذلك كان زعماء مكة يخشون المسلمين، ولا يدرون ماذا يفعلون، فقد أسلم حمزة ، وقد كان من فرسان قريش الأشداء، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان السفير الرسمي لمكة، ومن الخطورة بمكان أن يكون في صف الرسول ، ثم ها هي المفاوضات السلمية بينهم وبين رسول الله قد باءت بالفشل، وزاد الطين بلة أن اتحد بنو عبد مناف مسلمهم وكافرهم كي يحموا الرسول .


      ثم هم في الوقت ذاته لا يستطيعون أن يقتلوا الرسول ، ولا يستطيعون حرب بني عبد مناف بكاملها، فماذا يصنعون؟!

      ومن جديد عقدوا اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، خرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون.

      فيا تُرى ما هذا القانون، الذي اجتمعت عليه عصبة الكفر ضد المسلمين؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



    • [h=1]المقاطعة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب
      [/h]

      [ATTACH=CONFIG]84485[/ATTACH]

      اجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، بعدما رأوا من اجتماع بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله ، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون، كان هذا القانون هو "المقاطعة"، تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين.

      واجتمع الكفار يعملون على صياغة القانون الجديد، القانون الذي يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم مكة السابقة، ولا يهم أن يتغير الدستور؛ طالما أن ذلك لمصلحتهم الخاصة، وطالما أنه من عند أنفسهم، وفي الوقت ذاته هو في أيديهم، لكننا في شهر ذي الحجة وهو من الأشهر الحرم، أيضًا لا ضير.

      لكننا -أيضًا- في مكة البلد الحرام، لا ضير أيضًا، المصالح تتقدم على الأعراف والقوانين، فليس هناك مبدأ يُحترم، ولا قانون يُعظّم، ولا عهد يبجل، فماذا صاغوا في هذا القانون؟!


      الصور
      • 11695_image002.jpg

        11.99 kB, 250×188, تمت مشاهدة الصورة 76 مرة
    • [h=2]بنود المقاطعة
      [/h]

      أبرموا فيه أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ما يلي:

      أن لا يناكحوهم -لا يزوّجونهم- ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله لهم للقتل.

      هكذا في غاية الوضوح: السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة.

      وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله ؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة.

      [h=2]المعاناة والألم.. وصور الباطل تتكرر[/h]

      ومن حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية، فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.

      وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، وللأسف أيضًا فإنها في كل مرة كانت تتكرر مع المسلمين فقط.


      [h=2]المقاطعة والحصار الاقتصادي بين التاريخ والواقع[/h]

      فهي وإن كانت قد حدثت في شعب أبي طالب، فقد تكررت بعد ذلك بقرون في العراق وفي ليبيا وفي السودان وفي أفغانستان وفي الصومال وفي إيران وفي لبنان وفي فلسطين، وما حصار غزة منا ببعيد! الكثير من المسلمين يحاصرون في شتى بقاع الأرض كما كان العهد، وكما كان الاتفاق بين أهل الباطل.

      ومع هؤلاء المحاصرين فإنا نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم؛ وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا، إنهم يصمدون ويضحون من أجل العقيدة، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار؟!

      هؤلاء الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف.

      وفي تفسير واضح لهذا العمل الرجولي والبطولي فقد كانت الحمية هي الدافع والمحرك الرئيسي له، حمية الجاهلية، ولكنها في النهاية حمية، حمية الكرامة حين يهان رجل من القبيلة، حمية لصلة الدم والقرابة، حمية العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة محمد على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم، حميّة واقعية يدفع فيها الرجل بنفسه وأولاده وهو راضٍ، حمية بالفعل وليست بالخطب والمقالات والشعارات، ويا ليت هذه الحمية تعود، بعد أن ماتت الذمم، وإخواننا يموتون جوعا!!.


    • [h=2]هشام بن عمرو ومشاعر الفطرة السليمة
      [/h]

      مرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.



      وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء حاك في صدره، وشعر بشيء من الغصة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟! وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟!



      وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر، ولأنه كان وحيدًا، وقبيلته لم تكن بالحجم الذي يخول لها أن تمده وتناصره، فقد عمد إلى أن يجد لنفسه معينًا -ولو من خارج قبيلته- ليساعده على نقض الصحيفة وإلغاء العهد الذي كان قد قطعه زعماء قريش على أنفسهم بقطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب.



      وفي نهاية الأمر فقد اهتدى هشام بن عمرو إلى أن يستعين بقبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأنها كانت من أكبر القبائل القرشية، كما أنها كانت قد اعتادت أن تعارض قبيلة بني هاشم، وأن تنافسها، فقد رأى أنه إذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار على بني هاشم؛ فإن بقية القبائل -بلا شك- سترضى بفك هذا الحصار أيضًا، وإذا كان هشام بن عمرو قد وجد ضالته في قبيلة بني مخزوم، فإنه لم يجدها بعد فيمن يذهب إليه من بني مخزوم، فمَنْ مِنْ بني مخزوم يَقْوَى على أن يقف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ويعارض بذلك أبا جهل نفسه زعيم القبيلة، الذي كان من أشد المتحمسين لأمر القطيعة؟!



      الأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه (أم زهير) من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، بل إن أم زهير هي أخت أبي طالب نفسه، أي أنها عمة رسول الله ، وبذلك يكون هشام بن عمرو قد لعب على وترين حساسين، هما الدوافع الفطرية من جهة، والدوافع العصبية وروابط الدم من جهة أخرى، مما يكون له كبير الأثر في نفس زهير بن أبي أمية المخزومي.



      [h=2]هشام بن عمرو.. وجهد لا يعرف اليأس ولا الملل
      [/h]

      ذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له:



      يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟! ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فيقول:



      أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل)، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا.



      وهنا قال زهير: ويحك! ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.



      وعلى الفور كان أن فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له: قد وجدت رجلاً، فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا.

      ولأن الموقف جِدُّ عسير، فقد رد زهير بقوله: أبغنا رجلاً ثالثًا.



      لم ييئس هشام بن عمرو، وقد ترك زهيرًا وذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرًا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد.

      قال هشام: قد وجدت ثانيًا.

      قال: من هو؟

      قال: أنا.

      قال المطعم: أبغنا ثالثًا.

      وهنا فَاجَأَهُ أيضًا هشام وقال: قد فعلت.

      قال: ومن هو؟

      قال: زهير بن أبي أمية.

      ولأن المهمة -ولا شك- صعبة، قال المطعم: أبغنا رابعًا.



      لم يدخل اليأس قلب هشام بن عمرو، ومن فوره ذهب يبحث عن رابع حتى وجده في شخص أبي البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم.



      فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟



      قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا.



      وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله: أبغنا خامسًا.



      إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة.



      أسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس، فذهب إلى زمعة بن الأسود (من بني أسد).



      فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟



      قال: نعم. ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي.



      اجتمع الخمسة رجال، وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، القرار الذي قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي، وقد يؤدي إلى نصرة دين لا يقتنعون به، يفعلون كل ذلك لشيء كان قد تحرك في صدورهم جميعًا، إنه حمية النخوة، النخوة المتمثلة في أن تجد إنسانًا -أي إنسان- مؤمنًا كان أو كافرًا، أن تراه يعذب، أن تراه يظلم، أن تراه يجوع أو يعطش، ثم تقول بملء فيك: لا، إنها النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله ، وهي نفسها (النخوة) التي لم نرها من مسلمين كثيرين، قد رأوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل لآلاف وملايين من المسلمين، في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها، ثم لم يتحرّك لهم ساكن.



      كيف أن هشام بن عمرو الكافر ومن معه من الكفار لم يهدأ لهم بال والمسلمون يعذَّبون؟! وكيف أن الكثير من المسلمين اليوم يأكلون وينامون ويتمتعون، وليس في أذهانهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أماكن كثيرة في العالم؟!



      أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟!



      أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية محققة؟!



      أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كأخلاق الكافرين؟!



      إننا نحتاج إلى وقفة مع النفس!



      اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.



      ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.



      هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال: كذبت، والله لا تشق.



      فقام زمعة بن الأسود وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.



      ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به.



      ومن بعده أيضًا قام المطعم بن عديّ وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك (يقصد أبا جهل)، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.



      وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة.



      وقد حدث كل هذا في دقائق معدودة، ووجد أبو جهل نفسه محاصرًا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرًا ولا مصادفة، فقال: هذا أمر قُضِي بليل.



      [h=2]وكانت معيّة الله[/h] أصبح الموقف متأزمًا، فإذا كان رقم الخمسة رجال كبيرًا، فإن على الناحية الأخرى أبا جهل، وهو زعيم مكة، ومعه كثير جدًّا من زعمائها، ومن هنا فقد لاح في الأفق بوادر أزمة ضخمة في مكة، لكن الله أراد أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله إلى نبيه أن الأرضة (دودة الأرض) قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله . وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله عمه أبا طالب، فما كان منه (أبي طالب) إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث وقال:



      إن ابن أخي قال كيت وكيت، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.



      قال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب.



      وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله : "باسمك اللهم"، ظلت آية واضحة.



      هنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.



      [h=2]إسلام هشام بن عمرو
      [/h]

      من دأب هشام بن عمرو مع كونه كافرًا، فإن المرء ليتعجب، فلم يضع الله مجهوده سدى، ولم يُذهب عمله هباء، فقد فك الحصار، وأزيلت الصحيفة، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعب أبي طالب تغمرهم الفرحة، وما ضاع حق وراءه مطالب.



      وقد أسلم بعد ذلك هشام بن عمرو، أسلم بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذا الحدث، وأسلم أيضًا زهير بن أبي أمية، أما بقية الخمسة فقد ماتوا على الكفر.



      ولحكمة كان يعلمها فإن الله شاء أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى مدة ثلاث سنوات، ولو شاء سبحانه لحدث مثل هذا الاجتماع من الرجال الخمسة أو من غيرهم بعد شهر واحد أو شهرين من بداية الحصار، لكن لا؛ فقد كان هذا التأخير مقصودًا، لقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة وأعمق إيمانًا وأقوى تمسكًا بدينهم وعقيدتهم، لقد وقع الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون فيه، فإنه لا بد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، فقد قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].



      لا بد أن يُصهر المؤمنون في نار الابتلاء للتنقية وللتربية وللتزكية؛ للتنقية من الكاذبين والمنافقين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية لتطهير النفوس من الذنوب والخطايا.



      ومن هنا كان هناك الحصار، ومن قبله كانت الهجرة إلى الحبشة، ومن قبله كان الإيذاء والتعذيب، وكل هذه مراحل تربوية غاية في الأهمية، حيث صنعت جيلاً من الصحابة يستطيع أن يواجه الأهوال دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة، أو يهتز له قلب أو عقل أو جارحة.. {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].



    • [B]وعليكم السلام
      اخي جأت متأخره ولكن وجدت في بداية طرحك اشكاليه اتمنى ان توضحها لي شاكرة لك حسن طرحك
      هل ادم يعرف محمد صلى الله عليه وسلم؟
      وكيف انك ذكرت
      عندما
      هناك دعا آدم ربّه مستغفراً: اللهم بحق [/B]
      [B]محمد [/B][B]وآله والأطهار، أقلني عثرتي، واغفر لي زلتي، وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها.
      شاكرة لك الطرح المميز ..
      الله يعطيك الف عافيه
      [/B]
      |a

    • 1+1=2 فهمتها كتب:

      [B]وعليكم السلام
      اخي جأت متأخره ولكن وجدت في بداية طرحك اشكاليه اتمنى ان توضحها لي شاكرة لك حسن طرحك
      هل ادم يعرف محمد صلى الله عليه وسلم؟
      وكيف انك ذكرت
      عندما
      هناك دعا آدم ربّه مستغفراً: اللهم بحق [/B]
      [B]محمد [/B][B]وآله والأطهار، أقلني عثرتي، واغفر لي زلتي، وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها.
      شاكرة لك الطرح المميز ..
      الله يعطيك الف عافيه
      [/B]
      |a



      مرحبتين اخية
      شاكر لج استفسااارج هذا ،، وما ان دل سيدل على حرصج لهذا الموضوع
      اخيتي هنا ليست مشكلة ..
      اسم محمد مكتوب على باب الجنة (( لا اله الا الله ، محمد رسول الله ))
      وعندما خلق الله السموات والارض علمت الملائكة وكل خلق السماء بمجيء شخص اسمه أحمد ..
      وآدم عليه السلام علم الأسماء كلهااا بأمر من الله تعالى ..

      لذا لا أشكالية في ذلك ..

      تحياااتي الخالصة لشخصج .
      ودمتي بخير
    • [h=1]وفد قريش لأبي طالب قبل وفاته
      [/h][h=2]مرض أبي طالب
      [/h]


      بدأ العام العاشر من البعثة بمرض الشيخ الكبير أبي طالب، الرجل كان قد جاوز الثمانين من عمره، وقد أمضى ثلاث سنوات محاصرًا مع قومه في الشِّعب في مشقة بالغة من أكلٍ لورق الشجر والجلود، مع الحذر والترقب والقلق، كل ذلك أرهق الشيخ الكبير، وازداد عليه المرض وبدأ الناس في مكة يقولون إن هذا هو مرض الموت.

      [h=2]
      وفد قريش لأبي طالب قبل وفاته[/h]

      اجتمع زعماء الكفر من جديد -البرلمان المكي- وتشاوروا فيما بينهم وقالوا: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه - أي رسول الله - شيء فتعيرنا به العرب، ويقولوا: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.


      أي أن قريشًا تخاف أن تقوم بإيذاء رسول الله بعد وفاة أبي طالب، فتعيرها العرب بأنها استغلت موته لإيذاء ابن أخيه، ولم تكن تقدر على ذلك في حياته، وهذه بقية حياء في زعماء الجاهلية، فقده كثير من أهل الباطل بعدهم.


      فكرت قريش ماذا تفعل؟ ثم قرروا أن يذهبوا إلى أبي طالب ليقدموا له تنازلاً جديدًا غير التنازلات السابقة التي عرضها عتبة على رسول الله ، في محاولة للالتقاء في نصف الطريق مع رسول الله .


      كوّن زعماء قريش وفدًا مهيبًا مكوَّنًا من معظم رجال الحكومة في مكة، كان الوفد مكونًا من خمسة وعشرين رجلاً، كان منهم: أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم، فدخلوا جميعًا على أبي طالب وهو على فراشه فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه، فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.


      عرض مغرٍ من زعماء مكة، سيصبح لرسول الله جماعته الإسلامية في مكة ويصبح لأهل الكفر جماعتهم الكافرة هناك، ويعيش هؤلاء وهؤلاء دون أن يتعرض أحد لدين غيره، سيرفع أهل مكة الأذى عن رسول الله وأصحابه، سيتيحون لهم حرية العبادة، لكن في مقابل أن لا يتكلم رسول الله في معتقدات أهل مكة، أن لا يُسَفّه آلهة قريش، أن لا ينكر عندهم منكرًا ولا يأمر عندهم بمعروف، أن لا ينصح أحدًا بتطبيق أحكام الله على عباد الله، أن لا يتكلم في السياسة، ولا في الحكم ولا في المعاملات ولا في غيرها، فقط يصلون كما يريدون أن يصلوا، ويعتقدون فيما يريدون أن يعتقدوا فيه، ويفصلون بعد ذلك دينهم عن دنيا مكة، فهي إذن علمانية، وما أشبه اليوم بالبارحة!!


      في الوضع الضعيف الذي كانت فيه الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت، وقد خرجوا منذ شهور قليلة جدًّا -أقل من ستة أشهر- من الحصار الاقتصادي المريع الذي مر بهم، وفي ضوء السيطرة العسكرية لزعماء قريش على مكة والزيادة العددية لقوات أمنهم، ومع الأخذ في الاعتبار أن نصف الطاقة الإسلامية مهاجرة على بُعد مئات الأميال في الحبشة، في ضوء كل هذه الاعتبارات فإن هذا العرض يعتبر في نظر الكثيرين فرصة، ولو فرصة مرحلية.


      لكن في المقابل لو أقرَّ رسول الله بتنازل أو بأمر ما فإنه سيصبح ملزمًا به، فإن استمر على إقراره خسرت الدعوة بعد ذلك الكثير، وإن خالف إقراره كان خائنًا لعهده منكرًا لمواثيقه، وهذا ليس من شيم الصالحين.


      إذن الداعية الذي ينظر إلى الأفق البعيد لا يجب أن يقدم تنازلاً في عقيدته أو في دينه أو في شرعه لن يستطيع بعد ذلك أن يستعيده، بل عليه أن يصبر ويثبت وإن كان ظاهرًا أمام العين أن الخسائر كبيرة، وهذا فارق ضخم بين ساسة الدنيا وساسة الآخرة، ساسة الدنيا يسيل لعابهم لأي مكسب أو نصر أو خطوة أمامية، وساسة الآخرة يقيسون الأمور بميزان السماء لا بميزان الأرض، وهذا يعطي لهم ثباتًا على المبدأ ووضوحًا في الرؤية.


    • [h=2]ماذا حدث عند أبي طالب؟
      [/h]

      إن أبا طالب يريد أن يطمئن على ابن أخيه محمد قبل أن يموت، وهو لا يأمن أهل قريش فأراد أن يوفق بين الطرفين، فأرسل إلى رسول الله فجاءه فقال: يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا، وبالذي عرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر ووقف مكة للأذى على أن تقف الدعوة.

      قال له رسول الله : "يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟"


      قال أبو طالب: وإلامَ تدعوهم؟


      قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم". ورسول الله يقول هذا الكلام والمشركون يستمعون، فتسمرت أقدامهم ودقت قلوبهم وسال لعابهم، ما هذا؟ كلمة واحدة تدين لنا بها العرب ونملك بها العجم، إن أهل قريش ما حلموا يومًا بوحدة العرب تحت قيادة واحدة، ما توقعوا يومًا أن يكون أحدهم ملكًا على العرب جميعًا، وفوق ذلك يملكون العجم!!


      إن هذا فوق التخيل وفوق الأحلام، لقد كانت أقصى أحلام أحدهم أن يقف ذليلاً أمام كسرى أو قيصر، فقط يقول: دخلت إيوان كسرى أو وقفت أمام عرش قيصر. وفي قصة هرقل مع أبي سفيان كما سيأتي في أحداث المدينة المنورة خير دليل على ذلك، فقد كان الزعيم القرشي العزيز الشريف، يقف ذليلاً جدًّا أمام قيصر يستجوبه بدقة عن رسول الله وقد أوقف قيصر أبا سفيان أمامه ووضع خلفه مجموعة أخرى من رجال قريش ليكونوا شهداء على أبي سفيان إذا كذب، وفي هذا إهانة كبيرة جدًّا لزعيم بني أمية، ولكن كانوا يقولون: أين نحن من هؤلاء؟


      أما الآن فهم يستمعون من رسول الله إلى أمر عجيب، أنهم سيقولون كلمة واحدة تدين لهم العرب ويملكون بها العجم، الفرس والروم وغيرهم، وهم ما جربوا على رسول الله كذبًا من قبل، فماذا يفعلون؟


      لم يتردد أبو جهل كثيرًا، وتشوق لمعرفة هذه الكلمة فقال كلمة عجيبة، قال بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها.


      قال رسول الله في ثبات: "تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه".


      فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب.


      ثم إن بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا.


      مساكين هؤلاء الكفار، مساكين هؤلاء الذين عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، مساكين هؤلاء الذين أغلقت عقولهم وقلوبهم فلم تذق طعم الإيمان، يتعبون ويسهرون ويكيدون ويدبرون ويحزنون ويتألمون ثم ماذا تكون النتيجة لهذا التعب والسهر الكد والعرق والحياة الضنك؟!


      {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].


      مثل تلك المعيشة التي كان يعيشها هؤلاء التعساء في اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات وتدبيرات وترتيبات وحذر وترقب وهلع، لا تطمئن قلوبهم، ولا تهدأ جوارحهم، لا يستطيعون نومًا هادئًا، ولو نام أحدهم بات حوله من يحرسه، ثم هو مع ذلك غير مطمئن ولا آمن، ما أبلغ الوصف الذي وصفه رب العالمين لهذه الطائفة من البشر التي جعلت همَّها وقفَ الدعوة إلى الله {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، وفوق ذلك {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124- 127].


      رفض الكافرون كلمة لا إله إلا الله، وأنزل الله في حقهم سورة ( ص) {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 1- 7].


      ولا شك أن الصحابة كانوا يعيشون مع سورة ص بطريقة غير الذي يقرأ بها الآيات وهو لا يعيش معناها، فارق ضخم بين الذي يقرأ القرآن للبركة والحسنات فقط، وبين الذي يقرؤه ليتخذه منهاجًا ودليلاً وإمامًا ومرشدًا. لا شكَّ أن الصحابة قد أدركوا -وهم مدركون- من قبل القيمة الحقيقية لهذه الكلمة البسيطة في حروفها العميقة في معانيها وآثارها، كلمة لا إله إلا الله.


      روى الترمذي وحسنه وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ".


      والصحابة قالوا الكلمة بصدق ويقين، قالوا لا إله إلا الله، وخلعوا من حياتهم كل ما ينافي هذه الكلمة، قالوها بألسنتهم وقلوبهم وعقولهم وجوارحهم، قالوها بالحروف وقالوها بالأفعال، فدانت لهم العرب وملكوا بها العجم، وصدق رسول الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].


      كلمة واحدة تعطونها تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم. هذه الكلمة عندما قالها الصحابة جمعوا العرب جميعًا تحت راية واحدة، ثم تجاوزوا العرب إلى غيرهم، سقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهم من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، وفتحت بقاع لا تحصى ولا تعد بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، بلا إله إلا الله.


      هذا ليس خاصًّا بالصحابة فقط، هذا الفتح والنصر والتمكين لكل من قال لا إله إلا الله بصدق وعمل بها، والذي لم يجعل منهجه (لا إله إلا الله) كان مصيره أن يُسحب بعد ذلك في قليب بدر، ذلة في الدنيا وذلة في الآخرة.


      نتيجة هذا الموقف الذي حدث بين زعماء قريش وبين رسول الله ، حدث ما يمكن أن يسمَّى بقطع العَلاقات، ووقف المفاوضات، وتجمّد الموقف نسبيًّا في مكة.