مع الانبياء ... تفاصيل جميع الانبياء بطريقة رائعة

    • [h=1]عام الحزن - وفاة أبي طالب بن عبد المطلب
      [/h]

      حدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في وقت محدود، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتوقيت هاتين المصيبتين صعب جدًّا، فالدعوة الآن في فترة من أحرج فتراتها، ولكن تلك هي حكمة الله ، وسنحاول معًا -إن شاء الله- بعد طرح ما حدث في هاتين المصيبتين أن نستنبط طرفًا من حكمة الله في هذا الأمر.

      المصيبتان كانتا وفاة عم رسول الله أبي طالب السند الاجتماعي المهم لرسول الله ، ووفاة السيدة الفاضلة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة رسول الله والسند العاطفي والقلبي المهم جدًّا لرسول الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

      اختلف المؤرخون في تحديد أي المصيبتين حدث أولاً، منهم من قال قد تقدم موت أبي طالب لأنه حدث بعد الخروج من الشعب بستة أشهر، أي أنه حدث في رجب من السنة العاشرة، ثم وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- لأنه اشتهر أنه حدث في رمضان من السنة العاشرة للنبوة. ومنهم من قدم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وجعل موت أبي طالب في شوال بعد السيدة خديجة بخمسة وثلاثين يومًا في بعض الروايات.

      والمسألة فيها تفصيل وبحوث وإن كانت لا تهم كثيرًا؛ لأن المصيبتين حدثتا في وقت قريب جدًّا من بعضها البعض، وكانت آثارهما مشتركة.


      والموت مصيبة كما سماه الله في كتابه حيث قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]. ولكن إن كان الموت بصفة عامة مصيبة فموت السيدة خديجة وأبي طالب كان مصيبة كبيرة جدًّا، وخاصة لقربهما من بعضهما البعض، مما جعل رسول الله -وهو الذي اشتهر بالتفاؤل والتخفيف عن أصحابه- يطلق على هذا العام الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة وهو العام العاشر من النبوة، يطلق عليه عام الحزن.


    • [h=2]وفاة أبي طالب
      [/h]

      مَن كان أكثر من يدافع عن رسول الله ويساعد المسلمين؟ إنه أبو طالب؛ لذا يجب أن يختفي أبو طالب من مسرح الأحداث كي لا يظن أحد أن الدعوة قائمة عليه، وليعلم الجميع أن الدعوة مستمرة؛ لأنها دعوة الله .

      أما موت أبي طالب فكان مأساويًّا إلى أبعد درجة، لا لأنه مات فقط، ولا لأنه كان ناصرًا للدعوة حاميًا لرسول الله ، دافعًا لكيد أهل قريش من الكافرين، جامعًا لبني هاشم وبني المطلب حول رسول الله ، مؤيدًا لرسول الله باللسان والسنان، مات كافرًا، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه.

      لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل. رسول الله يعلم الحق بكامله وبكل أبعاده، يعلم أنه سيأتي يوم يحاسب فيه أبو طالب على أعماله، فإن كان مشركًا لم تنفعه أعماله، وإن آمن بدلت سيئاته حسنات، وهو قادم على الموت لا رجعة بعده، وهي إما نار أبدًا، وإما جنة أبدًا، فرسول الله يدخل عليه وقلبه يتفطر ألمًا عليه، أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب يخلد في النار؟ كان رسول الله يحب عمه حبًّا جمًّا، وكان يسابق الزمن ليذهب إليه قبل أن يموت يدعوه إلى الإسلام للمرة الأخيرة، ودخل عليه فعلاً قبل أن يموت وتنفس الصعداء لما وجده ما زال حيًّا، ولكن وجد بجواره فرعون هذه الأمة، يزوره في مرضه الأخير، لا للاطمئنان على صحته ولكن للاطمئنان على وفاته كافرًا بإله محمد ، فلو آمن أبو طالب حتى قبل موته بلحظات فإن هذا سيكون ضربة قاصمة للكفر بمكة، وقد تؤمن قبيلة بني هاشم وبني المطلب إما اقتناعًا برأي أبي طالب وإما حمية له؛ ولذلك فأبو جهل يقف على رأس أبي طالب، يبذل مجهودًا ووقتًا وعرقًا من أجل الصد عن سبيل الله.

      [h=2]
      رسول الله مع عمه قبل الموت

      [/h]

      دخل رسول الله على عمه أبي طالب، فقال -كما جاء في صحيح البخاري-: "أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟


      يذكره بالتقاليد الموروثة وبديانة الأب، وكم أهلكت التقاليد من البشر، وأبو طالب يقف حائرًا بين الداعيتين، داعية الخير وأعظم الخلق وأبلغ البشر رسول الله ، وداعية الشر فرعون هذه الأمة وإمام الضلال أبي جهل لعنه الله.

      فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

      أي عبادة الأصنام، لا حول ولا قوة إلا بالله! غصة شديدة في حلق رسول الله ؛ فهو يرى مدى الجهد والنصب الذي تعرض له أبو طالب من أجله ولحمايته وإعطائه حرية التبليغ.


      فَقَالَ النَّبِيُّ : "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ". فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. لا حول ولا قوة إلا بالله!!


      وأصبح أبو طالب من أصحاب الجحيم، خلود ولا موت وأين؟ في الجحيم.

      روى البخاري عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ : مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ (في جزء قليل، فُسِّر في حديث آخر بأن النار تصل إلى كعبيه فقط، ولكن يغلي دماغه من هذه النار، نسأل الله العافية)، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ".


      وطبعًا رسول الله شفع له لا لقرابته ولكن لعمله، بدليل أنه لم يشفع لأبي لهب مثلاً وهو أيضًا عمه.


      ونحمد الله على نعمة الإسلام، وهي نعمة لا يقدرها ولا يشعر بها كثير من الناس الذين يرددون كلمة التوحيد دون فهم.



    • [h=2]بعد وفاة أبي طالب
      [/h]

      كان موت أبي طالب سببًا في تغير الموقف في مكة تغيرًا كبيرًا، فقد كان لأبي طالب مكانة كبيرة في مكة خاصة وأنه كان على دينهم، فقد تجرأ الكفار على رسول الله تجرُّؤًا غير مسبوق، حتى إن رسول الله قال: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ".


      فمع أن الرسول قد تعرض قبل ذلك لإيذاء من أهل مكة في حياة أبي طالب إلا أنه اعتبره وكأنه لم يكن، بالقياس لما حدث بعد وفاة أبي طالب.

      اعترض سفيه من سفهاء قريش طريق رسول الله فنثر على رأسه التراب، فدخل بيته والتراب على رأسه الشريف، فقامت إليه إحدى بناته، وجعلت تغسل التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها: "لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ".


      بل حدث ما هو أشد، فكما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وفي رواية أنه عقبة بن أبي معيط)، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ (ولاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود ، عبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة ولن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن رسول الله لقتل، وسيصبح تقدمه مخالفة واضحة؛ لأنهم مأمورون بالتكتم وتجنب إثارة الفتن أو الحرب، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود في أن لا يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته يعني رضاه على تصرف ابن مسعود ) وَالنَّبِيُّ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ -وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا- ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضَّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. (وفي رواية أخرى أنه عمارة بن الوليد)، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.


      ولا يخفى علينا مدى الألم الذي كان يشعر به رسول الله عند هذه الحادثة، فمع كل ما حدث له وللمؤمنين في السنوات العشر السابقة إلا أنه للمرة الأولى يقف ويدعو على قريش، ثم هو يسمي أسماء بذاتها قد تأكد عنده أنهم لا أمل في إيمانهم، فدعا عليهم بالهَلَكَة، ودعوة الأنبياء مقبولة ومجابة، وهذا أمر لا يتكرر في حياة رسول الله كثيرًا، حتى في موقف الطائف رفض رسول الله أن يدعو على أهل الطائف بالهلكة، مع شدة إيذائهم له، ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنه لم يدعهم للإسلام إلا لمدة عشرة أيام فقط هي التي قضاها في الطائف بينما ظل يدعو في مكة عشر سنوات، وقد ثَبَتَ هؤلاء الكفار على كفرهم ولم تردعهم الآيات المتتالية، وحتى بعد هذا الدعاء من رسول الله والذي كان بمنزلة إعلان الحرب عليهم، وغلق باب الدعوة لهؤلاء فإنهم لم يرتدعوا وصدق فيهم قول الله : {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].



    • برنامج مع الأنبياء ،،،
      طرح لطالما تعلمت منه الكثير من حياة أنبيائنا صلوات الله عليهم أجمعين ،،،

      من هنا إستقيت الكثير والكثير من القصص والمواعظ والعبر وقصص تعلمناها في الصغر ولكن هنا جددتها لنا في الذاكرة وأصبحنا نستشعر ونتمنى مصاحبة حياة الأنبياء الطاهرة،،،
      جزاك الله خير جزاء وجزيت الجنة ونعيمها اخي ،،،،
      ‏​‏​الاستغفار قصہ طويلہ بدايتها الدنيا و نهايتها الجنہ استغفراللّه العظيم الذي لاإله إلا هو الحي القيوم واتوب اليہ ..
    • شكرا لكم اخواااني على هذه المتااابعة المستمرة للموضوع
      فهو بحد ثاااته تشجيع لي ..

      اشكركم من الصميم .
      تحياااتي
    • [h=1]عام الحزن - وفاة السيدة خديجة
      [/h]

      تزامنت مع مصيبة
      وفاة أبي طالب عم رسول الله مصيبة أخرى هي أشد وأعظم (أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ).

      لقد تعرض رسول الله لكل صنوف الابتلاءات من فقد الأم والأب والجد والعم، تعرض للتكذيب والإيذاء، تعرض للإخراج من بلده ومحاولات قتله، تعرض للحروب والجهاد، تعرض للإساءة إليه من المنافقين، وحتى من بعض المسلمين، والآن يأتي ابتلاء آخر جديد، لقد ماتت السيدة العظيمة الكريمة الجليلة الشريفة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- زوجة رسول الله ، وخديجة -رضي الله عنها- كانت نعمة من نعم الله على رسول الله ، كانت خير متاع الدنيا له، كانت السكن والراحة، كانت المودة والرحمة، كانت الصدر الحنون، كانت الرأي الحكيم، كانت صورة رائعة للمرأة الصالحة، كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- بحقٍّ فخرًا لكل امرأة.


      حياة امتدت مع رسول الله خمسة وعشرين عامًا متصلة، ربع قرن كامل، لم تنقل كتب السيرة خلافًا واحدًا حدث بينها وبين رسول الله ، لم تنقل كتب السيرة غضبًا ولا هجرًا، لم تنقل طلبًا من السيدة خديجة لنفسها، لقد عاشت لرسول الله ، عاشت تؤازره في أحرج أوقاته، تعينه على إبلاغ رسالته، تهُوِّن عليه الصراع الذي دار بينه وبين كفار مكة، تواسيه بمالها ونفسها، تجاهد معه بحق كما لم يجاهد كثير من الرجال.

      [h=2]مكانة السيدة خديجة عند رسول الله[/h]

      يتحدث عنها رسول الله في حب عميق، فيقول كما جاء في مسند الإمام أحمد برواية السيدة عائشة رضي الله عنها، قَالَ: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ".


      ثم بعد كل هذا الارتباط الوثيق، أَذِنَ الله بالرحيل، ماتت خديجة رضي الله عنها.


      موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، الرجل مسكين، مسكين فعلاً بغير زوجته، فإن كانت العشرة بينهما طويلة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالكم لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض! مصيبة كبيرة، كبيرة.

      روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". قَالَ أبو عيسى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.


      وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ. قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ". رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ.



    • السيدة خديجة -رضي الله عنها- قيمة كبيرة جدًّا في الميزان الإسلامي، من الصعب علينا أن نتخيل قدرها.


      روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ -أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ- فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا (الله!! تخيَّل أن الله أرسل جبريل ليبلغ رسول الله أن الله في عليائه يُقْرِئ السيدة خديجة السلام) وَمِنِّي، (ليس هذا فقط بل يكمل جبريل ويقول) وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (أي من لؤلؤ مجوف أو ذهب منظوم بالجوهر) لاَ صَخَبَ (أي لا صوت مرتفع) فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ (أي لا تعب)".


      درجة عالية جدًّا من درجات السمو!!

      هذه السيدة، بهذا القدر، وبهذه القيمة، وبهذه المكانة، فارقت رسول الله ، وفي وقت هو من أحرج أوقات الدعوة على الإطلاق.

      ولهفِي عليك يا رسول الله ، كيف تحمّل قلبك الرقيق الحنون العطوف كل هذه المصائب، وقد بلغت الخمسين من العمر، ووهن العظم، وكثرت الهموم، وصَعُبَ الطريق، وأظلمت مكة.

      - السيدة خديجة (رضي الله عنها) ماتت.


      - أبو طالب عم رسول الله الذي كان يحوطه ويمنعه مات، وليس هذا فقط بل مات مشركًا، وهذه مصيبة في حد ذاتها.


      - كاشف كفار مكة ومجرموها رسول الله بالأذى والتجريح.


      - الأصحاب في مكة مستضعفون.


      - بقية الأصحاب، فوق الثمانين منهم، على بُعد مئات الأميال في الحبشة.


      - هموم وأحزان بعضها فوق بعض، وأصبح العام بحق عام الحزن.


      في هذا الجو المظلم الكئيب، ماذا يفعل رسول الله ؟


      لقد أغلقت تقريبًا أبواب الدعوة في مكة وتجمد الموقف، ولم يعد هناك كبير أمل في إسلام رجل من أهل مكة في هذه الظروف، أيأتي زمان وتقف الدعوة؟!

      أبدًا، إن دعوة الله لا يمكن أن تقف، قد تختلف الوسيلة، قد يختلف المكان، ولكنها أبدًا لا تقف. ورسول الله لا يتحمل توقف الدعوة؛ فهي بالنسبة إليه كالماء والهواء حتى إن الله عاتبه في شدة حزنه على عدم استجابة الناس {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].



    • [h=2]رسول الله يشكو إلى الله
      [/h]

      بعد ما لاقى رسول الله ما لاقى من أهل الطائف من الحجارة والسباب، وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، دخل رسول الله إلى الحائط، وهو مثقل بالهموم والأحزان والجراح، فأسرع إلى ظل شجرة وجلس تحتها وأسند ظهره إلى الشجرة ومد يده إلى السماء، وانهمرت عبراته وهو يدعو بدعاء ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم والحزن والهم والغم الذي شمل كل كيان رسول الله ، وقد أغلقت أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، باب الرحمن، قال رسول الله :

      "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ".


      قد يؤخر الله استجابة الناس للداعية لحكمة لا يعلمها إلا هو ، ولكن أحيانًا يكون الداعية مخطئًا في أمر من الأمور فيغضب الله عليه، فيمنع الناس من الاستجابة له، ورسول الله في هذا الدعاء يذكر أنه طالما أن الله ليس بغاضب عليه فهو سيتحمل كل هذه الآلام والمصائب والأحزان (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي)، هذه الجملة -يا إخواني- هي منهج الحياة (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي). والله لو طبَّق المسلمون هذه الجملة فقط في حياتهم، لفازوا بخير الدنيا والآخرة.


      وبينما رسول الله جالس في الحائط إذ ظهر فجأة أصحاب الحائط، من هم؟

      إنهما عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، كافرا مكة المشهوران، وكانت لهما أملاك بالطائف، فعتبة هو أبو الوليد الذي أجرى المفاوضات يومًا ما مع رسول الله في أواخر السنة السادسة من النبوة، وشيبة أخوه، وهما من الذين دعا رسول الله -يوم أن وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره- فقال: اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وعليك بشيبة بن ربيعة. ومع هذا العداء المستحكم والصراع القديم إلا أن الحالة التي وصل إليها رسول الله من الألم والتعب والحزن، جعلت القلوب الكافرة ترق وتحن، أشفق الكافران على رسول الله فأخذا عنقودًا من العنب ووضعاه في طبق، وأرسلا به غلامهما إلى رسول الله ، كان هذا الغلام نصرانيًّا وكان اسمه عَدَّاس.


    • [h=2]إسلام عدَّاس وَمْضَةٌ في الظلمة
      [/h]

      كان رسول الله و
      زيد بن حارثة قد بلغ بهما الجوع والعطش مبلغًا عظيمًا، فكان طبق العنب بمنزلة الإنقاذ لهما، فوضع عداس الطبق أمامهما فمد رسول الله يده إلى الطبق وقال: "بِاسْمِ اللَّهِ"، ثم أكل. لم ينس التسمية حتى في هذه الظروف، وقد كانت هذه التسمية البسيطة سببًا في خير كثير، تعجب عداس من هذه الكلمة، فهو لم يسمعها في الطائف مطلقًا، فقال: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فرد رسول الله عليه بسؤالين، يتعرف بهما على الغلام، قال له رسول الله :


      "مِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟"



      ما هذا؟ رسول الله لا يضيع فرصة أبدًا للدعوة إلى الله ، الدعوة تسري في أوصاله وفي دمائه وفي دقات قلبه وفي نفسه، حتى في هذه الظروف الحالكة وقد رفض دعوته الأسياد والأشراف، لا يستقل هذا العبد الصغير فيجرب معه الدعوة.

      قال الغلام: أنا نصراني، من أهل نِينَوَى.

      فقال رسول الله : "مٍنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟".


      دهش الغلام كيف عرف هذا الرجل يونس بن متى؟!

      قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟

      قال رسول الله : "ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ".



      هنا أدرك الغلام الصغير ما لم يدركه حكماء ثقيف، أو قل: سفهاؤها، أدرك أن هذا الرجل فعلاً رسول، فآمن لساعته، وأكبَّ على رأس رسول الله وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، وكأن الله أبى إلا أن يثلج صدر رسول الله بمؤمن، وعلى بعد خمسة كيلو مترات من البلد المقصود، نعم هو عبد في نظر الناس ولكنه بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعًا ومثلهم معهم.

      عتبة وشيبة ابنا ربيعة يرقبان الموقف، ولم يكن يحتاج إلى ذكاء كثير لاستنباط ما حدث، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما عاد عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. لكن القلوب القاسية لم تفقه، فقالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. وكذبوا.

      أصبح الموقف الآن في غاية الحرج، الطائف رفضت الدعوة هذا الرفض القبيح، ولا شك أن الخبر قد طار إلى مكة، ولا شك أيضًا أن مكة كانت قد اكتشفت تسلل رسول الله منها دون علمها، إذن مكة ستصبح موصدة الأبواب أمام رسول الله ، وستكون محاولة الدخول إليها في غاية الخطورة، فماذا يفعل ؟

      انشغل رسول الله بالتفكير في هذا الأمر، الأقدام تسير في اتجاه مكة، لكن العقل مشغول غاية الانشغال، يقول يصف هذا الموقف، كما جاء في البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:



      "فَانْطَلَقْتُ -أي من الطائف- وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ". وهي المسماة بقرن المنازل، مهمومًا حزينًا، وكأنه في إغماءة أو في نوم ثم أفاق في قرن الثعالب، أتدرون كم تبعد قرن الثعالب عن الطائف؟ تبعد خمسة وثلاثين كيلو مترًا، سار رسول الله كل هذه المسافة وهو في شبه إغماء من شدة الهم والتفكير.





    • [h=2]حرص رسول الله على هداية قومه
      [/h]

      ثم حدث أمر عجيب هناك في قرن الثعالب، كما جاء في رواية البخاري يقول رسول الله : "فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ (مقامات عالية جدًّا، وتخيل مدى انشراح الصدر لرسول الله في هذه اللحظة، وتخيل مدى الشعور بتفاهة المشركين والمكذبين، فهؤلاء الذين يظنون أنفسهم سادة، كيف يقارنون بالجبال وكيف يقارنون بأعظم الملائكة جبريل ) فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ (والأخشبان هما جبلا مكة: أبو قبيس وقيقعان). فَقَالَ النَّبِيُّ : "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".


      [h=2]وقفة مع هذا الحدث الكبير
      [/h]

      أولاً: وضح في هذا الموقف الدرجة الرفيعة المرموقة التي عليها رسول الله فلعلها المرة الأولى في تاريخ الأنبياء التي يحدث فيها مثل هذا الموقف، فيخير نبي في أن يهلك الله قومه أو يستبقيهم، فقد كان يأتي القرار بالهلكة ويؤمر النبي بمغادرة البلد فقط، لكن هنا الوضع مختلف جدًّا. وفي إرسال ملك الجبال إشارة واضحة أن الله لن يعتب على نبيه أن يختار إهلاك الناس، بل إنه يشجعه على ذلك بإرسال ملك الجبال نفسه، وكان من الممكن أن يرسل جبريل فقط يعرض عليه الأمر، فلو وافق الرسول جاء ملك الجبال ليهلك البلدة.



      ثانيًا: يتبدى في هذا الموقف بوضوح الفارق الضخم المهول بين السياسي الداعية وبين السياسي من أهل الدنيا، سياسيو الدنيا لا ينظرون إلا للمصلحة المادية، سواء لهم أو لبلادهم، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل هو أن يُسلم الناس لرب العالمين، لو حدث تمكين لرسول الله وقد أهلكت طائفة كبيرة من البشر فإن ذلك لا يسره، لأنهم أهلكوا على شركهم، إنما هو يريد لهم الخير، والخير في الإيمان، فلا مانع من أن يعطوا فرصة أخرى، ولو على حساب إيذاء الرسول نفسه، وهذا مثل الأب الذي يفشل ابنه في امتحان فيغضب لفشله، فيأتي أحدهم يريد أن يهدئ الأب فيقترح عليه أن يقتل ولده، فماذا سيكون رد فعل الأب؟ أيرضى؟ محال، وكذلك كان رسول الله أو أشد، عاطفة رسول الله نحو الذين يدعوهم كانت مثل عاطفة الأب نحو ابنه أو أكثر، وصدق الله العظيم الذي قال في حق نبيه : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].



      ما أحوج الدعاة أن يراجعوا نظرتهم إلى الناس! وما أحوجهم أن يعاملوهم معاملة الطبيب الذي يعالج مريضه لا الجلاد الذي يعاقب المذنبين!

      ثالثًا: يتبدى أيضًا في هذا الموقف شخصية رسول الله الهادئة التي تزن الأمور جيدًا، فمع كل ما مر به من ألم وهم وحزن بدأ من موت أبي طالب وموت خديجة رضي الله عنها، ثم خروجه إلى الطائف ورفض أهل الطائف للدعوة وقذفه بالحجارة والسباب والشتائم، مع كل هذا إلا أنه لم يكن انفعاليًّا في قراره، لم يتسرع ولم يتعجل، وكانت إجابته في منتهى الهدوء، وكأنه في أفضل أحواله وظروفه. الداعية الانفعالي كثيرًا ما يدفع بدعوته نحو المهالك، كثيرًا ما يأخذ قرارات قد يندم هو شخصيًّا عليها بعد ذلك، تحكيم العقل على العاطفة من سمات الداعية الحكيم الذي يزن الأمور جيدًا، وهذا ما شاهدناه من رسول الله في هذا الموقف.



      رابعًا: مرت الأيام والسنون ودخلت مكة ثم الطائف في الإسلام، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة بعد أن ضاعت منهم سنوات طويلة في الشرك، وولد لهم أولاد عبدوا الله ولم يشركوا به شيئًا، وحدثت مأساة الردة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله ، وارتدت جزيرة العرب بكاملها، ولم يثبت على الإيمان إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، وهذه المدن هي مكة والطائف وطبعًا المدينة المنورة، وتحقق أمل رسول الله في أن يخرج الله من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، بل يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض؛ فمن صُلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وهذا نصر كبير للدعوة وإن كان قد حدث بعد وفاة الرسول .



      [h=2]الجن يستمعون القرآن فيسلمون
      [/h]

      بعد هذا الموقف العظيم يكمل رسول الله طريقه في اتجاه مكة، وعندما يصل إلى منطقة تسمى وادي نخلة على بعد حوالي 43 كيلو مترًا من مكة يمكث هناك ليستريح، وراحة رسول الله ليست في النوم ولكن في الصلاة (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)، فيقف بين يدي ربه يناجيه في خشوع، يقرأ آيات من كتاب الله يهون بها على نفسه ويشد بها من أزره.

      المكان فيما يبدو للناس ليس فيه أحد، فوادي نخلة مكان منعزل بين مكة والطائف ورسول الله يقف وحيدًا ليس معه من أحد إلا زيد بن حارثة ، لكن سبحان الله أبى الله إلا أن يعز الدعوة بنصر جديد، فقد كان الجن يمرون بهذا المكان فسمعوا كلام الله على لسان رسوله الكريم ، فوقع الكلام في قلوبهم فـآمنوا!


      إنهم الجن، نَعَم الجن.

      فإن كان البشر قد كَذّبوا، فإن الجن قد آمنوا، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر، والجن كانوا يعلمون بنبوة الأنبياء السابقين، وكانوا يتوقعون نبيًّا يأتي في هذا الزمان، ومن الواضح أنها المرة الأولى منذ أول البعثة التي يسمع فيها الجن هذه الآيات فوقعت في قلوبهم فآمنوا من فورهم، بل وذهبوا دعاة إلى قومهم يأخذون بأيديهم إلى طريق الله .

      حكى الله في كتابه فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29- 32].



      لم يشعر الرسول بوجود الجن عند سماعهم للقرآن، ولكن عرف بعد ذلك عندما نزلت الآيات تصف الموقف، وهي إشارة لطيفة للدعاة أنه لا تدري لعل طائفة من الجن تستمع إلى كلمة الحق منك، فتؤمن بينما يكذب البشر، وتكون هذه الطائفة من الجن في ميزان حسناتك يوم القيامة. ثم إن هناك إشارة لطيفة أخرى وهي أن الداعية يجب أن يستشعر أنه ليس بمفرده في هذا الطريق، فالخلق جميعًا يعبدون الله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. ولا يشذ عن هذه المنظومة الجميلة إلا طوائف من الكافرين من الإنس والجن، لكن أنت لست وحدك على الطريق، معك أمم من الجن، معك الملائكة جميعًا، معك الشمس والقمر والنجوم، معك الدواب والهوام والحيتان، منظومة كاملة رائعة لا يشعر معها المؤمن بالوحدة أبدًا، وإن كان فريدًا في وسط البشر.



      {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].



      [h=2]اليقين في فرج الله
      [/h]

      بعد أن انتهى رسول الله من صلاته قرر الرحيل من جديد إلى مكة، وهنا استوقفه زيد بن حارثة وقال: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟! يخشى زيد على رسول الله من أن تقتله قريش، لكن استمع إلى إجابة الحبيب ، قال: "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُ دِينِهِ وَمُظْهِرُ نَبِيِّهِ".



      الله! ثقة، يقين، اطمئنان، سكينة، تمامًا كما قال موسى عندما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]. ثقة في نصر الله ، هو لا يدري كيف سيُنصر ولكنه متأكد من النصر، موسى لم يكن يدري ساعتها أن الله سيشق له البحر، وكذلك الرسول لم يكن يدري كيف سينصره ربه ، ولكن كان على يقين من هذا الأمر.



      أكمل رسول الله المسير حتى اقترب جدًّا من مكة وجلس يدبر أمره. نعم، الله سينصره، لكن لا بد له من الأخذ بالأسباب، كيف يدخل مكة وهو مطلوب الرأس ولا سيما بعد تكذيب الطائف له، لا شك أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وغيرهما قد نقلوا إلى قريش عزم رسول الله على الاستنصار بالقبائل الأخرى ضد قريش، فماذا يفعل؟



    • شكـرررراً لك أخي ’’ فخر السلطنة ’’
      مجهـــود واااااضح مُثمــــرٌ جداً ..

      اللهـــمّ لا تدع له ذنباً إلّا غفرته .. و لا همّاً
      إلّا فرجته .. و لا عيباً إلّا سترته .. و لا حاجةً من
      حوائـــــــــــــــــــج الدُنيـــــــاااا و الآخرة إلّا قضيتهااا.

      .. بااااااااارك الله فيك وجزاك الخير العميم ..
      ننشـــأ و فــي اعتقادنــا أنّ [السعادة] فـــي .. الأخـــذ .. ثُمّ نكتشف أنّهــا في العطــاااااء !! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيقــــظ شُعوركَ بِـالمحبّــةِ إنْ غَفَـــــــــا <<<<<< >>>>>> لـولا الشُعورُ، النّاسُ صارُوا كـالدُمَى "إيليا أبو ماضي"
    • انا والحزن كتب:

      ما شاء الله عليك فخر
      مجهود رائع ومفيد
      جزيت خيراً
      /
      \
      متابعين لسيرة خير البشرية
      ،،
      ودمتم


      شكرا مشرفتي .. مرورك اسعدني كثيرا
      تحياااتي لكِ ومتااابعة طيبه

    • صدق قلب كتب:

      شكـرررراً لك أخي ’’ فخر السلطنة ’’
      مجهـــود واااااضح مُثمــــرٌ جداً ..

      اللهـــمّ لا تدع له ذنباً إلّا غفرته .. و لا همّاً
      إلّا فرجته .. و لا عيباً إلّا سترته .. و لا حاجةً من
      حوائـــــــــــــــــــج الدُنيـــــــاااا و الآخرة إلّا قضيتهااا.

      .. بااااااااارك الله فيك وجزاك الخير العميم ..


      بعض الاعضاااء يجبروننا على احترااامهم ،،
      اخيتي الكريمة اسعد الله ايااامك بالخيرااات والمسرااات
      جزيتي خيرا ان شاااء الله ..
      //
      \\
      واقول لك
      " اهلا وسهلا بكِ بيننا"
      واتمنى ان ارى قلمك ينير هذه الاقساااام بالرقي والعلم المثري .

      تحياااتي الخالصة .

    • [h=2]رسول الله يستفيد من قانون الإجارة في مكة
      [/h]

      لم يكن أمام رسول الله بدٌّ من دخول مكة مرة أخرى، خاصة بعد ما لقيه من سفهاء الطائف، ومع أنه كان مطلوب الرأس من قبل الأجهزة الأمنية المكية، إلا أن رسول الله كان واقعيًّا لأبعد درجة، لقد قرر أن يدخل في إجارة رجل من أهل مكة، وقانون الإجارة قانون محترم في مكة، نعم، يقوم على تطبيقه مشركون، لكن رسول الله يستفيد من قوانين المجتمع المشرك طالما لا تتعارض مع شرع الله ، وطالما لا يقدم تنازلاً من دينه أو عقيدته في نظير الاستفادة من هذا القانون، درس في غاية الأهمية.

      لقد قرر رسول الله أن يدخل مكة في إجارة مشرك، ولم تأخذه الأنفة أن يتعامل مع مشرك ويدخل في حمايته، لقد كان واقعيًّا لأبعد الحدود، لو أن رسول الله دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمنزلة إعلان الحرب في مكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، ولا بد من ضبط النفس حتى يأتي أمر الله. وفي الوقت نفسه هو لا يجد في بني هاشم -على عظمها- من يجيره؛ فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب، وأبو لهب من أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل أن يقوم بحماية رسول الله ليبلغ رسالة هو كاره لها، ولن يستطيع أحد من رجال بني هاشم أن يتعدى على أبي لهب في هذا الأمر.


      لذلك لم يتردد رسول الله في أن يراسل رجالاً من المشركين يطلب إجارتهم له، فراسل في البداية الأخنس بن شريق فلم يكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف (أي ليس أصيلاً في مكة) والحليف لا يجير، فراسل سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المتوقع منه أن يقبل الإجارة وكان رجلاً عاقلاً، ولكن سبحان الله! تخلى سهيل عن عقله ومروءته وقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. وطبعًا رسول الله يعلم أن هذه القوانين ليست حتمية، وإنه من الممكن أن يجير الحليف، ومن الممكن أن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلاَّ لما أرسل إليهما، ولكن على كل حال كانت تلك اعتذارات مؤدبة من قادة مكة.

      ثم فكر رسول الله في رجل آخر، وهذا التفكير والطريقة التي استخدمها رسول الله في مراسلته تدل على عمق الفكر السياسي عند رسول الله ، وعلى وعيه الكامل بالجذور التاريخية للمنطقة، وعلى حكمته الدبلوماسية في التعامل مع كافة الظروف والأطراف.


      [h=2]المطعم بن عدي يجير رسول الله
      [/h]

      لقد راسل رسول الله المطعم بن عدي وهو من زعماء مكة الكبار، وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وراسله عن طريق رجل من خزاعة لم تذكر الروايات اسمه، ولا يعنينا اسمه في شيء، بل تعنينا قبيلته (خزاعة)، لماذا راسل رسول الله المطعم بن عدي؟ ولماذا اختار رجلاً من خزاعة وهي قبيلة غريبة على مكة؟



      إن لهذا الأمر جذورًا في غاية الأهمية، وحتى نفقه البعد العميق في فكر رسول الله تعالَوْا نقلّب قليلاً في صفحات التاريخ.



      [h=2]تاريخ العرب العدنانية والقحطانية
      [/h]

      أصل العرب يعود إلى فرعين رئيسيين: عدنان وقحطان وهما من ذرية إسماعيل u، أما عدنان فقد سكن نسله في الحجاز ومكة وما حولها، وأما قحطان فقد سكن نسله في اليمن، ثم مع مرور الوقت تفرقت الذرية في كل أطراف الجزيرة العربية لكن ظل العرب يدركون الأصول العدنانية والقحطانية لكل قبيلة، فمثلاً من أشهر القبائل العدنانية قبيلة قريش وهي قبيلة رسول الله ، ومن أشهر القبائل القحطانية قبائل الأوس والخزرج في المدينة (كانوا في اليمن وهاجروا إلى المدينة) وقبائل خزاعة، إذن قبيلة خزاعة وقبائل الأوس والخزرج من فرع مختلف عن فرع قريش.



      وفي تاريخ مكة أنه كانت هناك فترة سيطرت فيها قبيلة خزاعة على البيت الحرام، وكانت لها إدارته والهيمنة على مكة، ثم جاء قصي بن كلاب وهو من أجداد رسول الله (أي من العدنانيين) وحارب خزاعة وطردها من مكة وسيطر هو على البيت الحرام مع إنه كان متزوجًا بنت زعيم خزاعة، المهم أنه قد حدث صراع قديم بين خزاعة وبين قريش، وطردت خزاعة من مكة، ضع هذه النقطة في الذاكرة.



      ومر الوقت والقرشيون يسيطرون على البيت الحرام ويعيشون في مكة.



      ثم مرت الأيام وحدث في وقت من الأوقات صراع بين رجلين من رجال قريش، بين عبد المطلب جد رسول الله وبين نوفل جد المطعم بن عدي، ووقفت قريش إلى جانب نوفل، فماذا فعل عبد المطلب؟ لقد كان هناك علاقة مصاهرة بين أجداد عبد المطلب وبين قبيلة الخزرج القحطانية والتي تسكن الآن المدينة، فأرسل إليها عبد المطلب يطلب نجدتها فجاءوا بعددهم وأسلحتهم فهابتهم قريش ورضخ نوفل لما أراد عبد المطلب. قبيلة خزاعة كانت تراقب الموقف من بعيد، فلما وجدت عبد المطلب يعادي قريشًا وقد نصر بالخزرج جاءت وعرضت على عبد المطلب أن تحالفه وذكرته بأن جد عبد المطلب كان متزوجًا من بنت زعيم خزاعة، أي ذكرته بعلاقة المصاهرة، وطبعًا خزاعة فعلت ذلك نكاية في قريش لجذور العداء القديم بين الطرفين فقبل عبد المطلب بحلف خزاعة، ومن ثَمَّ أصبح عبد المطلب زعيمًا في قريش مؤيدًا بحلف الخزرج وحلف خزاعة وهذا أعطاه قوة كبيرة في مكة، وفي الوقت نفسه فإن نوفل شعر بالضعف أمام هذا الحزب الكبير.



      إذن هناك في مكة جذور تاريخية لعلاقة مضطربة بين عبد المطلب وحلفائه من خزاعة والخزرج وبين نوفل، ورسول الله من نسل عبد المطلب، والمطعم بن عدي من نسل نوفل.



      إذن إرسال رسول الله للمطعم بن عدي يطلب منه الإجارة وإرساله بذلك مع رجل من خزاعة هو تذكير من رسول الله للمطعم بن عديّ بالأصول التاريخية للمنطقة، فكأنه يقول له: يا مطعم، إنني أطلب جوارك الآن، وأستثير فيك المروءة، وهي موجودة فيه على كل حال؛ لأنه من الذين شاركوا في نقض الصحيفة قبل ذلك، ولكن في الوقت نفسه فأنا لا أقف وحيدًا خارج مكة، ولا أطلب منك هذا الأمر استعطافًا، فإنك إن أبيت أن تجيرني كان البديل خزاعة وقبائل الخزرج، سأفعل مثلما فعل عبد المطلب قبل ذلك. وهكذا يستخدم رسول الله موازين القوى في الجزيرة العربية استخدامًا جيدًا حكيمًا.



      هذه الجذور التاريخية تفسر انحياز خزاعة لرسول الله بعد صلح الحديبية ضد قريش مع أنها لم تكن آمنت ولكن نكاية في قريش.



      وهكذا لما وصلت الرسالة إلى المطعم بن عدي عن طريق الرجل الخزاعي دارت كل هذه الأمور في ذهن الرجل الحكيم المطعم بن عدي، وفوق حكمته فإنه كان صاحب مروءة، لأنه في بعض الأحيان تغطي الخسة والنذالة على عقل الرجل فلا يرى الأمور على حقيقتها، ويأخذه الكبر والعناد في أمور قد تؤدي إلى إهلاكه وضياعه.



      وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت؛ فإني قد أجرت محمدًا. وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله وزيد بن حارثة وأحاطت به لحمايته، ودخل في وسطها رسول الله ، وسارت به حتى وصل إلى البيت الحرام فصلى هناك ركعتين، وقام المطعم بن عدي، فخطب في الناس فقال: يا معشر قريش، إني أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم. ثم سارت الكتيبة المسلحة تحمي رسول الله حتى أدخلته بيته.



      موقف عجيب حقًّا، فرسول الله تعامل في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، كان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، ولكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، ولكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، ما زالت هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، ولكن ما الضرر في استخدامها إن لم تكن مشروطة بتنازل أو بتفريط؟



      لقد دخل رسول الله مكة مرفوع الرأس وحوله الأسلحة من كل مكان بدلاً من أن يدخلها متسللاً منهزمًا، وفي الوقت نفسه فهو يدخل، وهو يعلن أنه ما زال على نفس الطريق، وما هي إلا أيام وسيخرج من بيته لاستقبال وفود الحجيج يدعوهم إلى دين الله، كما كان يدعوهم في حياة أبي طالب.



      ومع أن قبول المطعم بن عدي لإجارة الرسول كانت لها هذه الجذور التي ضغطت على المطعم بن عدي إلا أن رسول الله ظل حافظًا للجميل، فبعد غزوة بدر وأسر سبعين من المشركين وكان المطعم قد مات قبل بدر، قال رسول الله كما روى البخاري: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".



      وبالطبع قبلت قريش بإجارة المطعم بن عدي لألد أعدائها الآن، ليس احترامًا للمطعم بن عدي فقط ولكن خوفًا من سيوف خزاعة وأسلحة الخزرج، ويبقى الدرس المهم الأصيل (لا بد للحق من قوة تحميه).



      لكن رسول الله وهو الرجل البعيد النظر الواسع الحكمة الذي حنكته التجارب وخبر أمور البلاد والعباد، يعلم أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فلن تصبر قريش طويلاً على هذا الأمر، وستمارس ضغطًا قد لا يقوى المطعم على دفعه. كما أن المطعم رجل كافر له طاقة محدودة، وقد لا يضحي بروحه وماله ومركزه ووضعه نظير حماية رجل لا يؤمن بمبادئه. أضف إلى ذلك أن الموقف في مكة قد أصبح حرجًا، فقد وصلت الدعوة للناس أجمعين واضحة نقية، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وانتقال الكافرين إلى معسكر الإيمان أصبح نادرًا إن لم يكن معدومًا.



      كل هذا دفع الرسول أن يغير من حواره وطريقته مع القبائل الزائرة لمكة تغييرًا محوريًّا خطيرًا، كان رسول الله يدعو من قبل للإسلام فقط، يدعو الناس أن يتركوا ما يعبدون وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يؤمنوا به كرسول من عند الله، أما الآن، فهو سوف يضيف شيئًا خطيرًا كان قد طلبه للمرة الأولى من أهل الطائف، ولكنهم رفضوه وطردوه، أما هذا الشيء فهو النصرة والاستضافة في مكان قبيلتهم أيًّا كان هذا المكان.



      فماذا يعني هذا الأمر؟ وكيف تعامل رسول الله مع القبائل المضيفة في مكة؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.




    • باآآرك الله فيك أخوي فخر
      :)ما أعظم رسولناآآ الكريم
      كان وما زال خير رسول انزل على أمته
      [SIZE=-0]
      â—ڈ
      [SIZE=-0][SIZE=-0]سسَ[SIZE=-0]أكَتــَفَيِ بَ [SIZE=-0][SIZE=-0][] الل[SIZE=-0][SIZE=-0]ـَہ[SIZE=-0][SIZE=-0] [] عَنَ آلججَميِعَ .. [SIZE=-0] â—ڈ https://twitter.com/a5ral3n8od_
    • فخر السلطنة كتب:


      بعض الاعضاااء يجبروننا على احترااامهم ،،
      اخيتي الكريمة اسعد الله ايااامك بالخيرااات والمسرااات
      جزيتي خيرا ان شاااء الله ..
      //
      \\
      واقول لك
      " اهلا وسهلا بكِ بيننا"
      واتمنى ان ارى قلمك ينير هذه الاقساااام بالرقي والعلم المثري .

      تحياااتي الخالصة .




      شكرررراً لك أخـي ’’ فخر السلطنة ’’

      ( جمـــــال التعبير دائمـــاً مصدرهُ [ جمــــال الأفكار ] )
      فـ هنيئـــاً لك هذا الرُقــــي الفكري الحميد ..

      جُلّ الشرف لي أن أكون متواجده وسط عقولٍ نرتوي منهااا قيماً فكريّه صااادقه .

      .. بااااااارك الله فيك ..
      ننشـــأ و فــي اعتقادنــا أنّ [السعادة] فـــي .. الأخـــذ .. ثُمّ نكتشف أنّهــا في العطــاااااء !! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيقــــظ شُعوركَ بِـالمحبّــةِ إنْ غَفَـــــــــا <<<<<< >>>>>> لـولا الشُعورُ، النّاسُ صارُوا كـالدُمَى "إيليا أبو ماضي"
    • بنت أبووووها كتب:

      باآآرك الله فيك أخوي فخر
      :)ما أعظم رسولناآآ الكريم
      كان وما زال خير رسول انزل على أمته


      مرورك الدااائم اخيتي فالموضوع يجعله اجمل واجمل
      دمتي ودااامت ايااامج افرااااح وسعادة
      تحياااتي

    • صدق قلب كتب:



      شكرررراً لك أخـي ’’ فخر السلطنة ’’

      ( جمـــــال التعبير دائمـــاً مصدرهُ [ جمــــال الأفكار ] )
      فـ هنيئـــاً لك هذا الرُقــــي الفكري الحميد ..

      جُلّ الشرف لي أن أكون متواجده وسط عقولٍ نرتوي منهااا قيماً فكريّه صااادقه .

      .. بااااااارك الله فيك ..


      صدق القلب يأتي بصفاااء القلب الصاااادق
      وقلمك يدل على انك أسم على مسمى

      اخيتي نحن هنااا طلاب ,انا اولهم ... وطبعا منكم نتعلم ونستفيد
      جزيتي خير الجزااااء وبااارك الله بك وسدد خطااااك .

      تحياااتي

    • [h=1]رسول الله يدعو القبائل للإسلام والنصرة
      [/h]

      [h=2]طريقة جديدة في الدعوة إلى الإسلام
      [/h] كان رسول الله على علم أن هذا الموقف من المطعم بن عدي موقف مؤقت، فلن تصبر قريش طويلاً على هذا الأمر، وستمارس ضغطًا قد لا يقوى المطعم على دفعه. كما أن المطعم رجل كافر له طاقة محدودة، وقد لا يضحي بروحه وماله ومركزه ووضعه نظير حماية رجل لا يؤمن بمبادئه. أضف إلى ذلك أن الموقف في مكة قد أصبح حرجًا، فقد وصلت الدعوة للناس أجمعين واضحة نقية، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وانتقال الكافرين إلى معسكر الإيمان أصبح نادرًا إن لم يكن معدومًا.


      كل هذا دفع رسول الله أن يغير من حواره وطريقته مع القبائل الزائرة لمكة تغييرًا محوريًّا خطيرًا، كان رسول الله يدعو من قبل للإسلام فقط، يدعو الناس أن يتركوا ما يعبدون وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يؤمنوا به كرسول من عند الله، أما الآن، فهو سوف يضيف شيئًا خطيرًا كان قد طلبه للمرة الأولى من أهل الطائف، ولكنهم رفضوه وطردوه، أما هذا الشيء فهو النصرة والاستضافة في مكان قبيلتهم أيًّا كان هذا المكان، وهو بمنزلة إعلان الحرب على أهل مكة، ومكة لا تدري أي القبائل ستوافق على نصرة رسول الله ، وقد تكون القبيلة كبيرة وقوية؛ ولذلك فإن مكة ستحاول أن تتجنب قدر الاستطاعة الدخول في هذه المخاطرة، نعم المطعم بن عدي يحمي الرسول لكن هذا إلى حد معين كما ذكرنا.


    • [h=2]رسول الله يعرض النصرة على القبائل
      [/h]

      كان السبيل الأول أمام أهل مكة هو تكذيب رسول الله قدر المستطاع، وشن حرب إعلامية مضادة على مستوى واسع، وكان أبو لهب وراء رسول الله إذا تحدث مع القبائل يقول لهم: لا تسمعوا منه؛ فإنه كذاب.

      كل هذا دفع الرسول إلى تغيير منهجه في زيارة القبائل القادمة على مكة، فماذا فعل؟



      أولاً: كان رسول الله يأتيهم ليلاً حتى لا يلفت أنظار القرشيين.



      ثانيًا: كان يأتيهم في منازلهم بعيدًا عن الكعبة، فإنه لكثرة القبائل كانت كل قبيلة تقيم مخيمًا خارج مكة لتتسع لكل هؤلاء، فكان لا ينتظر أن يدخلوا إلى البيت الحرام ثم يدعوهم، بل كان يذهب إليهم خارج مكة بعيدًا عن أعين المراقبين.



      ثالثًا: وهذه نقطة في غاية الأهمية، فإنه كان يصطحب معه أبا بكر الصديق ، وأحيانًا علي بن أبي طالب وذلك لإشعار القوم أنه ليس وحيدًا في مكة من ناحية، ومن ناحية أخرى أهم أن أبا بكر الصديق كان يعرف أنساب القبائل، فكان يستطيع أن يدرك القبيلة القوية الشريفة من القبيلة الضعيفة القليلة، وهذا أمر في غاية الأهمية، فإن رسول الله سوف يطلب منهم النصرة، فإن ادّعوا القوة وهم ليسوا بأقوياء بنى رسول الله حساباته على معلومات غير موثقة، فكان رسول الله يسألهم سؤالاً مباشرًا عن عددهم وقوتهم، وأبو بكر يؤكد على ذلك أو ينفيه، فإن وجد منهم رسول الله قوة عرض عليهم الإسلام وطلب منهم النصرة، فرسول الله يصل بدعوته إلى كل إنسان لكنه يقدر الموقف السياسي العصيب الذي يمر به، ويحسب لكل موقف حسابه المناسب.



      وهكذا بدأ رسول الله جولاته من جديد، في نشاط وخفة، وفي حمية وكأن الأمور على خير ما يرام، وما زالت الأحزان تتلو الأحزان، ففي الشهور الثلاثة الماضية مات أبو طالب وماتت خديجة -رضي الله عنها- وآذاه أهل مكة وذهب إلى الطائف فأوذي هناك إيذاءً شديدًا وعاد إلى مكة وحيدًا، ودخلها في إجارة رجل ليس من قبيلته بعد أن حاول محاولتين في رجلين آخرين ولكن المحاولتين فشلتا، ثم أخيرًا في هذا الجو المشحون يستأنف دعوته. والله -يا إخواني- لا عذر لأحد، كلمة الظروف هذه لم تكن موجودة في حياة رسول الله ، كثيرًا ما يعتذر كثير من الناس عن العمل لله أو تفريغ الوقت للدعوة بحجة أن ظروفه لا تسمح، ظروفه مختلفة، ظروفه ليست مناسبة، فانظر وتأمل، كيف كانت ظروف رسول الله وكيف كان يعمل.



      وسبحان الله! في هذا الموسم العصيب لم يستجب أحد من القبائل لدعوة رسول الله ليضيفوا بذلك حزنًا جديدًا إلى أحزان رسول الله ، وكذلك لم يستجب أحد من أهل مكة في العام التالي لهذا العام وهو العام الحادي عشر من البعثة.



      ولم يكن الرسول يسمع عن زائر لمكة إلا دعاه للإسلام، فأسلم على يديه أربعة: سويد بن الصامت من قبيلة الأوس بيثرب وكان شاعرًا، وإياس بن معاذ وكان صغيرًا في السن بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وقد مات الاثنان رضي الله عنهما بعد ذلك بشهور قليلة؛ لذا لا نسمع عنهما.



      أما الاثنان الآخران فكان إسلامهما فتحًا، فقد جاء كل واحد منهما بقبيلته بعد ذلك مسلمة، وهما أبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي، فماذا عن إسلامهما؟



      [h=2]إسلام أبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي
      [/h]

      الأول: أبو ذر الغفاري ، وكانت قبيلته غفار تعمل بقطع الطريق على القوافل والمسافرين، فهم لصوص إذن، ومع ذلك لم ييئس أبو ذر وظل يدعوهم حتى جاء بهم مسلمين إلى النبي في المدينة؛ فقال النبي : "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا". أي ما كان منهم قبل إسلامهم.



      الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسيّ ، وكان سيد قبيلته دوس من قبائل اليمن، وبعد دعوة طويلة آمنت دوس، وجاء الطفيل إلى الرسول في المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، وكل بيت كان يضم عددًا كبيرًا، وليست أسرة صغيرة تساوي حياة أفضل، بل أسرة كبيرة كل أفرادها يعملون وينتجون ويدعون تساوي حياة أعز وأكرم.



      جاء هذان الصحابيان للدولة الإسلامية بأعداد غفيرة، صحيح أنهم جاءوا في المدينة بعد إقامة الدولة، ولكن هذا تدبير الله .



      [h=2]كل القبائل ترفض الإسلام
      [/h]

      مرت الأيام وجاء موسم الحج في العام الحادي عشر من البعثة وخرج رسول الله كعادته، في نشاط، يدعو القبائل، وسبحان الله في هذا الموسم لم تقبل قبيلة واحدة الإسلام، حتى يزيدوا حزن رسول الله أكثر، لكن ماذا عليه أن يفعل؟ ما على الرسول إلا البلاغ.



      وسبحان الله! في هذا الموسم ذهب رسول الله إلى قبائل بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني شيبان، وبني كلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وبني قيس، وبني محارب، وغيرهم، كل هذه القبائل عرض عليها رسول الله الإسلام والنصرة، وعقد معها مباحثات مطولة، وخلاصة هذه المباحثات أن كل هذه القبائل رفضت الدعوة؛ منهم من رفضها بأدب كبني شيبان، ومنها من رد عليه ردًّا قبيحًا كبني حنيفة، المهم أن الكل رفضوا، سبحان الله، طريق الدعوة طريق طويل، هذا أحكم الخلق وأبلغ البشر وأعظم الرسل ينطلق بدعوته بيضاء نقية إلى عقول تفقه اللغة وتقدر الحكمة، ومع ذلك فهم لا يقبلون {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].



      لكن هل فتر الحبيب ؟ أبدًا والله، ما فتر وما قصر وما يئس، في كل يوم دعوة وفي كل لحظة عمل، إنه يعمل لله ، والله حي لا يموت، حماسته للعمل لا ترتبط بكثرة أتباعه، بل حماسته مرتبطة بيقينه في الله، ويقينه في الله لا حدَّ له، فدعوته وحماسته وعمله لا حد لها.




    • السلام عليكم أخي الحبيب
      قال تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }يوسف111
      جزالك الله خيراً فيما كتبت و جعله الله في ميزان حسناتك و جعلك من اللذين قال فيهم سبحانه و تعالى {والعصر (1) إن الانسان لفي خسر (2) إللذين امنو وعملو الصلحت وتواصو بالحق وتواصو بالصبر ( 4 )} سورة العصر . و جعلك من اللذين قال فيهم سبحانه و تعالى{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}.ق

      سأتابع ما تكتب وأنا جليس مواعظك على النت
    • اعتذر لعدم تكملة الموضوع في الاونة الاخيرة بسبب مشاغل الحياة ومتطلباتهاا
      لكننا نعود لتكملته فالقريب العاجل .
      وشكرا لكل متابع لهذا البرنامج
    • [h=2]مباحثات رسول الله مع بني عامر بن صعصعة
      [/h][B][B]

      [/B][/B]
      مع أن كل القبائل التي عرض رسول الله عليها الإسلام رفضت الدعوة، إلا أنني أود أن أقف عند حواره مع قبيلتين فقط من هذه القبائل لما في هذا الحوار من دروس لا تقدر بثمن، أول هذين القبيلتين، قبيلة بني عامر، وهي قبيلة كبيرة قوية عزيزة، وهي من القبائل القليلة في جزيرة العرب التي لم تعرف في تاريخها سبيًا لنسائها، ولا إتاوة تدفع لغيرها، والمباحثات معها في غاية الحساسية، وقد ذهب إليهم رسول الله ومعه صاحبه الصديق وعرض عليها الإسلام، وحسنه في قلوبهم، استمعوا إليه وأنصتوا، ثم تكلم زعيم من زعمائهم يخاطب بقية الزعماء، ويخاطب في نفس الوقت رسول الله ، هذا الزعيم هو بيحرة بن فراس، قال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.


      إذن هو يعلم أن هذه الرسالة سيكون لها شأن كبير، ويرى أنه لو كان حاميًا لها مدافعًا عنها فإنه سيأتي وقت سيسيطر فيه على العرب أجمعين، وهذا وإن كان يدل على بعد نظر هذا الرجل إلا أنه يشير بوضوح أيضًا إلى أنه رجل انتهازي نفعي لن يستجيب إلى هذه الدعوة اقتناعًا بقيمتها، ولكن فقط حبًّا في الرئاسة والزعامة والسيطرة، وهذا خطر عظيم. ثم إنه صرح بهذا الأمر علانية فقال لرسول الله : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

      ها هو يصرح بوضوح أنه يريد الأمر لنفسه وقبيلته بعد ظهور رسول الله ، لكنه يجعل ذلك بعد موت رسول الله ، وهذا قد يعدُّ في نظر السياسيين من أهل الدنيا نصرًا وتمكينًا، فالرجل سوف يدافع عن رسول الله حتى يظهر رسول الله ، وسيترك له الأمر طيلة حياته، ولكنه يساوم على زعامة الأمر بعد وفاة الرسول ، ولو كان رسول الله يبحث عن التمكين لنفسه لكان هذا عرضًا مغريًا جدًّا، لكن رسول الله كان شديد الحساسية لأولئك الذين يطلبون زعامة أو رئاسة، فقال له رسول الله في هدوء عجيب وفي ثقة متناهية: "الأَمْرُ إلى اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". الولاية تكون لمن يستحقها، لا يوسد الأمر في الإسلام لغير أهله، ولا يمكن قبول إسلام بني عامر نظير أن تكون زعيمة ولو بعد عشرات السنين. لقد كان رسول الله يعطي كل شيء نظير إسلام الناس إلا الرئاسة والزعامة؛ لأن القائد للقوم يسير بهم، ويدبر شئونهم، فإن كان في نفسه هوى سار بهم بهواه، وهكذا يَضِلّ ويُضَلّ؛ لذلك كان رسول الله يعطي المال الكثير للناس حتى يتألف قلوبهم، ولو طلبوا مالاً أكثر أعطاهم وأعطاهم وأعطاهم، لكن لو طلبوا ولاية ما أعطاهم ولو كانوا من أعز أصحابه أو أقرب أقربائه.

      [B][B]
      [/B][/B]