"أحيوا سنته"

    • 9) التذلل لله في الركوع :

      أما الركوع لله فهو حالة
      يظهر فيها التذلل لله جل وعلا بانحناء الظهر والجبهة لله سبحانه ،فينبغي لك أخي
      الكريم أن تحسن فيه التفكر في عظمة الله وكبريائه وسلطانه وملكوته،وأن تستحضر فيه
      ذنبك وتقصيرك وعيبك،وتتفكر في قدر الله وجلاله وغناه ،فتظهر حاجتك وفقرك وتذللك لله
      وحده قائلاً:"اللهم لك ركعت ،وبك آمنت ،ولك أسلمت ،خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي
      وعصبي"[رواه مسلم]، ثم عند قيامك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده،ومعناها:سمع الله
      حمد من حمده واستجاب له ،ثم احمد الله بعد ذلك بقولك :"ربنا لك الحمد حمداً طيباً
      مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينها وملء ما شئت من شيء بعد" وتذكر
      أنك مهما حمدت الله على نعمه فإنك لا تؤدي شكرها.قال تعالى:{ وَإِن تَعُدُّواْ
      نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا َّ }[النحل : 18].وهذا التأمل يزيدك إيماناً
      بتقصيرك في جنب الله ويعمق في نفسك معاني الانكسار والذل وطلب الرحمة من الله وكل
      هذه الأشياء محفزات لخشوعك في الصلاة.

    • 10) استحضار القرب من الله في السجود:

      لئن كان
      القيام والركوع والتشهد في الصلاة،من أسباب الخشوع و الاستكانة والتذلل لله ،فإن
      السجود هو أعلى درجات الاستكانة وأظهر حالات الخضوع لله العلي القدير.
      فاعلم أخي الكريم :
      أنك إذا سجدت تكون أقرب إلى الله ،ومتى استحضر قلبك معني القرب من خالق
      ومبدع الكون،متى تصور ذلك كذلك خضع وخشع.وتصور حالك وأنت أقرب إلى ملك عظيم من ملوك
      الدنيا تود الحديث إليه،ألا يصيبك من الارتباك والسكون ما يغير حالك ويخفق
      قلبك،فكيف وأنت أقرب في حالة سجودك إلى الله ذي الملك والملكوت والعز و الجبروت.
      ولله المثل الأعلى .واعلم أن السجود أقرب موضع لإجابة الدعاء،ومغفرة الذنوب ورفع
      الدرجات.قال الله تعالى: {َاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }[العلق : 19]. وقال صلى الله عليه
      وسلم :"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد،فأكثروا الدعاء فيه"[رواه مسلم] وكان
      رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده:"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء
      والعظمة"[رواه أبو داود والنسائي] ويقول أيضاً:"اللهم اغفر لي ذنبي كله ،دقه وجله
      ،وأوله وآخره،وعلانيته وسره"[رواه مسلم] والأدعية الواردة في السجود كثيرة ليس هذا
      محل بسطها.

    • 11) استحضار معاني التشهد:

      وذلك لأن التشهد اشتمل
      على معاني عظيمة جليلة،فإذا تأملت فيها – أخي الكريم – أخذت بمجامع قلبك وألقت عليك
      من ظلال السكينة والرحمة ما يلبسك ثوب الخشوع الاستكانة.إذا أنك في التشهد تلقي
      التحيات لله سبحانه،وهذا – والله – مشهد يستعذبه القلب ويخفق له ،ثم تسلم على رسول
      الله صلى الله عليه وسلم فيرد عليك السلام كما صح ذلك في الحديث ،ثم تستشعر معاني
      الأخوة في المجتمع الإسلامي حينما تسلم على نفسك وعلى عباد اله الصالحين،ثم تستعيذ
      من عذاب النار والقبر ومن فتنة المسيح الدجال وفتنة المحيا والممات ، وكلها تغمر
      القلب بمعاني اللجوء والفرار إلى الله والتقرب إليه بما يحب.
    • أسباب أخرى معينة على الخشوع

      إذا تتبعنا أسباب
      الخشوع بالتفصيل ،فسنجدها هي كل قربة من الله ، إذ أن أصل الخشوع هو خشية الله
      تعالى ،وإليك أخي الكريم بعض الأسباب المعينة على الخشوع:
      12) عدم الالتفات في الصلاة: عن مجاهد قال :كان الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود ،وحدث أن أبا بكر قال كذلك .قال :وكان يقال :ذاك الخشوع في الصلاة[رواه البيهقي في سننه بإسناد صحيح].
      13) التأني في
      الصلاة والطمأنينة فيها:
      قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا تجزئ صلاة
      لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود"[رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه].

      14) اختيار الأماكن المناسبة : لأن الأماكن الني
      يكثر فيها التشويش أو غيره من موانع الخشوع تفقد المصلي صوابه فضلاُ عن خشوعه.

      15) اختيار الملبس المناسب : قال الله تعالى:{ يَا
      بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف : 31] .
      16) الاستعاذة من الشيطان: لم يزل يوسوس للإنسان في صلاته
      فيقول :"اذكر كذا ،لم لم يكن يذكر من قبل ،حتى يضل الرجل ما يدري كم صلى " [البخاري
      ومسلم].
      17) ملازمة التوبة والاستغفار والاجتهاد في قيام
      الليل.
      18) الإكثار من النوافل فإنها أسباب لمحبة الله.
      19) الإخلاص والصدق
      مع الله.

    • الغيبة

      عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من
      يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) .
      قال ابن حجر: الضمان
      بمعنى الوفاء بترك المعصية . . . فالمعنى: من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما
      يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه.
      وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم ،
      قال : فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل.
      قال ابن
      بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه ، فمن وقي
      شرهما وقي أعظم الشر .
      وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن
      العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق)) . وفي
      رواية له: ((يهوي بها في نار جهنم)) .
      قال ابن حجر: ((بالكلمة)): أي الكلام. . .
      . ((ما يتبين فيها)) أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت
      فيها . . .وقال بعض الشراح: المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة.
    • وفي الكلمة التي يزل بها العبد قال ابن عبد البر : هي التي يقولها عند السلطان
      الجائر ، وزاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سبباً لهلاكه ، ونقل عن
      ابن وهب أنها التلفظ بالسوء والفحش.
      وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون تلك الكلمة
      من الخنى والرفث ، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو مجون أو استخفاف بحق
      النبوة.
      قال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان ، فينبغي لمن أراد أن ينطق
      أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق ، فإن ظهرت مصلحة تكلم، وإلا أمسك .
      وفي حديث معاذ
      أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ، قلت: بلى يا نبي
      الله ، فأخذ بلسانه ، قال : كف عليك هذا ، فقلت: يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما
      نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على
      مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) .
      وفي حديث الترمذي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم
      سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ((الفم والفرج)) .
      قال المباركفوري:
      ((ملاك ذلك كله)) : الملاك ما به إحكام الشيء وتقويته . . أي ما تقوم به تلك
      العبادات جميعها.
      ((كف عليك هذا)) : لا تكلم بما لا يعنيك ، فإن من كثر كلامه
      كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه.
    • ((ثكلتك)) هو دعاء عليه بالموت على ظاهره ، ولا يراد وقوعه ، بل هو تأديب وتنبيه من
      الغفلة وتعجيب وتعظيم للأمر.
      ((يكب الناس)) أي يلقيهم ويسقطهم ويصرعهم.
      (على
      وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي.
      ((إلا حصائد ألسنتهم)) لا يكب الناس في
      النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والقذف والشتم والغيبة والنميمة والبهتان
      .
      قال ابن رجب: هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله ، وأن من
      ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه.
      وقال صلى الله عليه وسلم: (( إذا أصبح ابن
      آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن
      استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) .
      قال ابن القيم: قولها: ((إنما نحن بك))
      أي نجاتنا بك ، وهلاكنا بك ، ولهذا قالت ((فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت
      اعوججنا)) .
      قال الغزالي مبينا معنى الحديث: إن نطق اللسان يؤثر في أعضاء
      الإنسان بالتوفيق والخذلان ، فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً ، وأكثرها فساداً
      وعدواناً .
      قال ابن حبان: اللسان إذا صلح تبين ذلك على الأعضاء ، وإذا فسد كذلك
      .
    • 2-الغيبة في
      اللغة والاصطلاح، وصورها:
      الغيبة لغة: من
      الغَيْب "وهو كل ما غاب عنك" , وسميت الغيبة بذلك لغياب المذكور حين ذكره
      الآخرون.
      قال ابن منظور: "الغيبة من الاغتياب... أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء"
      .
      والغيبة في الاصطلاح: قد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أتدرون ما
      الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) .
      ولم يرد في
      كلام النبي صلى الله عليه وسلم تقييده بغَيبة المذكور, لكنه مستفاد من المعني
      اللغوي للكلمة.
      قال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره"

    • صور الغيبة وما
      يدخل فيها :


      ذكر النبي صلى
      الله عليه وسلم بأن الغيبة إنما تقع فيما يكرهه الإنسان ويؤذيه فقال: ((بما
      يكره)).
      قال النووي في الأذكار مفصلاً ذلك: ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في
      بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو
      زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء
      ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز.
      ومن الصور التي تعد أيضاً في الغيبة قال
      النووي: ومنه قولهم عند ذكره : الله يعافينا ، الله يتوب علينا ، نسأل الله السلامة
      ونحو ذلك ، فكل ذلك من الغيبة .
      ومن صور الغيبة ما قد يخرج من المرء على صورة
      التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر قال ابن تيمية: ومنهم من يخرج الغيبة في قالب
      التعجب فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت... ومنهم من يخرج [النية في
      قالب] الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما ثم له.. .

    • الفرق بين الغيبة والبهتان والإفك:

      بّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان,
      ففي الحديث "قيل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته,
      وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) , وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند
      رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم, ولا يَرحل حتى
      يُرحل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتبتموه)) فقالوا: يا رسول الله: إنما
      حدثنا بما فيه قال: ((حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه)) .
      والبهتان إنما يكون في
      الباطل كما قال الله : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد
      احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58].
      والبهت قد يكون غيبة، وقد يكون
      حضوراً ، قال النووي : "وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجه" .
      قال الحسن:
      الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان.
      فأما الغيبة فهو
      أن تقول في أخيك ما هو فيه ، وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه ، وأما البهتان
      فأن تقول فيه ما ليس فيه.
    • حكم الغيبة، وأدلة تحريمها في القرآن والسنة، وأقوال السلف في ذلك:


      الغيبة حرام بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك النووي .
      واختلف
      العلماء في عدها من الكبائر أو الصغائر ، وقد نقل القرطبي الاتفاق على كونها من
      الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة ولم يعتد رحمه الله بخلاف
      بعض أهل العلم ممن قال بأنها من الصغائر .
      والقول بأنها من الكبائر هو قول
      جماهير أهل العلم صاحب كتاب العدة والخلاف في ذلك منقول عن الغزالي .
      وقد فصل
      ابن حجر محاولاً الجمع بين الرأيين فقال: فمن اغتاب ولياً لله أو عالماً ليس كمن
      اغتاب مجهول الحالة مثلاً.
      وقد قالوا: ضابطها ذكر الشخص بما يكره ، وهذا يختلف
      باختلاف ما يقال فيه ، وقد يشتد تأذيه بذلك .
    • أدلة تحريم الغيبة من القرآن الكريم:


      أ‌- قال تعالى: { ولا يغتب
      بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب
      رحيم} [الحجرات:12].
      قال ابن عباس: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم
      الميتة.
      قال القاضي أبو يعلى عن تمثيل الغيبة بأكل الميت: وهذا تأكيد لتحريم
      الغيبة ، لأن أكل لحم المسلم محظور ، ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع ، فينبغي أن
      تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة.
      قوله ((فكرهتموه)) قال الفراء: أي فقد بغِّض
      إليكم . وقال الزجاج: والمعنى كما تكرهون أكل لحم ميتاً ، فكذلك تجنبوا ذكره بالسوء
      غائباً .
      ب‌- قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد
      الإيمان} [الحجرات:11].
      قال ابن عباس في تفسير اللمز: لا يطعن بعضكم على بعض ،
      ونقل مثله عن مجاهد وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان .
      قال ابن كثير {لا تلمزوا
      أنفسكم}: أي لا تلمزوا الناس ، والهماز واللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال الله
      {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].
      فالهمز بالفعل، واللمز بالقول .
      قال
      الشنقيطي: الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً، واللمز باللسان ،
      وتدخل فيه الغيبة .
      ج- {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة:1].
      وقد تقدم معنى الهمز
      واللمز وأن كليهما من الغيبة.
      وقال قتادة في تفسيرها : يأكل لحوم الناس ويطعن
      عليهم.
      وقال الزجاج: الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويغضهم.
      وأما قوله {ويل}
      فقد ذكر له المفسرون معنيان:
      1- أنها كلمة زجر ووعيد بمعنى: الخزي والعذاب
      والهلكة.
      2- أنها واد في جهنم.
      والآية نزلت في المشركين لكنها كما قال المفسرون
      عامة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
      قال السعدي: وهذه الآيات إن كانت
      نزلت في بعض المشركين فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف لأن القرآن نزل لهداية
      الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم .
      د- {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء
      بنميم} [القلم:10-11].
      قال الشوكاني : الهماز: المغتاب للناس .
      قال شيخ
      الإسلام في تفسيرها: {فلا تطع المكذبين} الآيات ، فتضمن أصلين:
      أحدهما: أنه نهاه
      عن طاعة هذين الضربين فكان فيه فوائد.
      منها: أن النهي عن طاعة المرء نهي عن
      التشبه به بالأولى ، فلا يطاع المكذب والحلاف ، ولا يعمل بمثل عملهما . . . فإن
      النهي عن قبول قول من يأمر بالخلق بالناقص أبلغ في الزجر من النهي عن التخلق به. .
      . إلى آخر كلامه رحمه الله .
    • أدلة تحريم الغيبة من السنة:


      أ‌- قال صلى الله عليه
      وسلم : (( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا
      في بلدكم هذا)) .
      قال ابن المنذر: قد حرم النبي الغيبة مودعاً بذلك أمته، وقرن
      تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال ثم زاد تحريم ذلك تأكيداً بإعلامه بأن تحريم ذلك
      كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام .
      قال النووي في شرحه على مسلم: المراد بذلك
      كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك
      .
      ب‌- وعن
      سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من أربى الربى الاستطالة في عرض
      المسلم بغير حق)) .
      وفي رواية لأبي داود : (( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء
      في عرض رجل مسلم بغير حق)) .
      قال أبو الطيب العظيم أبادي في شرحه لأبي داود:
      ((الاستطالة)) أي إطالة اللسان.
      ((في عرض المسلم)) أي احتقاره والترفع عليه
      والوقيعة فيه.
      ((بغير حق)) فيه تنبيه على أن العرض ربما تجوز استباحته في بعض
      الأحوال .
      ج- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من
      صفية أنها قصيرة ، فقال : ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) .
      ((لو
      مزج)) أي لو خلط بها أي على فرض تجسيدها وكونها مائعاً.
      ((لمزجته)) أي غلبته
      وغيرته وأفسدته .
      قال المباركفوري: المعنى أن الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر
      لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته فكيف بأعمال نزرة خلطت بها .
      د- ولما رجم الصحابة
      ماعزاً رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم
      تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلب.
      فسار النبي
      صلى الله عليه وسلم ثم مر بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا ، فكلا من جيفة
      هذا الحمار.
      فقالا: يا نبي الله من يأكل هذا؟ قال: ما نلتماه من عرض أخيكما
      آنفاً أشد من أكل منه)) .
      قال أبو الطيب في شرحه لأبي داود : (( فلما نلتما من
      عرض أخيكما)) قال في القاموس: نال من عرضه سبه.
      (أشد من أكل منه) أي من الحمار
      .
    • من أقوال السلف في ذم الغيبة:


      كان عمرو بن العاص يسير مع أصحابه فمر على بغل ميت قد انتفخ ،
      فقال: والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم مسلم .
      وعن
      عدي بن حاتم : الغيبة مرعى اللئام .
      وعن كعب الأحبار: الغيبة تحبط العمل
      .
      ويقول الحسن البصري: والله للغيبة أسرع في دين المسلم من الأكلة في جسد ابن
      آدم .
      قال سفيان بن عيينة : الغيبة أشد من الدّين ، الدّين يقضى ، والغيبة لا
      تقضى)) .
      وقال سفيان الثوري : إياك والغيبة ، إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك
      .
      وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس
      .
      وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا
      سفلة لا دين له.
    • 4- بواعث الغيبة، وكيفية التخلص منها:


      بواعث الغيبة

      1- ضعف الورع والإيمان يجعل المرء يستطيل
      في أعراض الناس من غير روية ولا تفر جاء في حديث عائشة في قصة الإفك قولها عن زينب
      بنت جحش أنها قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً ، تقول
      عائشةً: (وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع) .
      قال
      الفضل بن عياض: أشد الورع في اللسان . وروى مثله عن ابن المبارك .
      قال الفقيه
      السمرقندي: الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة ، ويكف
      جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام .
      2- موافقة الأقران والجلساء ومجاملتهم
      قال الله على لسان أهل النار {وكنا نخوض مع الخائضين} [المدثر:45].
      قال قتادة في
      تفسير الآية: كلما غوى غاو غوينا معه .
      وفي الحديث : (( ومن التمس رضا الناس
      بسخط الله وكله الله إلى الناس)) .
      وقال تعالى: { فويل يومئذ للمكذبين الذين هم
      في خوض يلعبون} قال ابن كثير : أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل .
      3- الحنق على المسلمين
      وحسدهم والغيظ منهم:
      قال ابن تيمية: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين
      أمرين قبيحين: الغيبة والحسد ، وإذا أثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه
      في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه .
      قال ابن عبد البر:
      والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم . . . وهذا كله بحمل الجهل والحسد
      .
      4- حب
      الدنيا والحرص على السؤود فيها:
      قال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا
      حسد وبغي وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير .
      5- الهزل والمراح:
      قال ابن عبد البر:
      "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى
      الأعراض . . ." .
    • كيفية التخلص من الغيبة:


      1- تقوى الله عز وجل والاستحياء
      منه:
      ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات الوعيد والوعد وما جاء عن النبي صلى الله عليه
      وسلم من أحاديث تحذر من الغيبة ومن كل معصية وشر، ومن ذلك {أم يحسبون أنا لا نسمع
      سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف:80].
      وقد قال صلى الله عليه
      وسلم: ((استحيوا من الله عز وجل حق الحياء ، قلنا : يا رسول الله إنا نستحي والحمد
      لله ، قال: ليس ذاك ، ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى ،
      وليحفظ البطن وما وعى . . )) .
      2- تذكر مقدار الخسارة التي يخسرها
      المسلم من حسناته ويهديها لمن اغتابهم من أعدائه وسواهم.قال صلى الله عليه وسلم :
      (( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : المفلس من
      أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا ،
      فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناتهم أخذ من سيئاتهم فطرحت
      عليه ثم طرح في النار)) .
      روي أن الحسن قيل له: إن فلاناً اغتابك، فبعث إليه
      الحسن رطباً على طبق وقال : بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها،
      فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام .
      3- أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب
      نفسه ، وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه.
      قال أنس بن مالك: "أدركت
      بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوب ، فعابوا الناس ، فصارت لهم عيوب
      ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس ، فنسيت عيوبهم"
      .
      قال الحسن البصري : كنا نتحدث أن من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه
      الله عز وجل به .
      قال أبو هريرة: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع
      في عين نفسه.
      4- مجالسة الصالحين ومفارقة مجالس البطالين:
      قال صلى الله عليه وسلم :
      ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد ، لا يعدمك من صاحب
      المسك ، إما أن تشتريه أو تجد ريحه ، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه
      ريحاً خبيثة)) .
      قال النووي في فوائد الحديث : فيه فضيلة مجالسة الصالحين ، وأهل
      الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب ، والنهي عن مجالسة أهل الشر
      وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته ، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة
      .
      4-
      قراءة سير الصالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم:
      قال أبو عاصم
      النبيل: ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرم الغيبة .
      قال الفضيل بن عياض: كان
      بعض أصحابنا نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة. أي لقِلّته .
      وقال محمد بن
      المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت .
      5- أن يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن
      الغيبة.
      قال حرملة : سمعت رسول ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن
      أصوم يوماً فأجهدني ، فكنت أغتاب وأصوم.
      فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق
      بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة.
      قال الذهبي : هكذا والله كان العلماء ،
      وهذا هو ثمرة العلم النافع .
    • 5- جزاء
      الغيبة:
      1- الفضيحة في
      الدنيا:
      عن ابن عر قال : صعد رسول الله
      المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ،
      لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم
      تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)) .
      وفي رواية
      للحديث في مسند أحمد ((لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم)) .
      قال
      المباركفوري في قوله: ((ومن تتبع الله عورته)) قال : يكشف مساويه . . . لو كان في
      وسط منزله مخفياً من الناس .
      قال أبو الطيب: أي يكشف عيوبه، وهذا في الآخرة،
      وقيل : معناه يجازيه بسوء صنيعه . . . أي يكشف مساويه . . . ولو كان في بيته مخفياً
      من الناس .


      2- العذاب في
      القبر:
      عن أبي بكرة رضي الله عهما قال : مر
      النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما
      أحدهما فيعذب البول ، وأما الآخر فيعذب بالغيبة)) .
      قال قتادة : عذاب القبر
      ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة ، وآخر من النميمة ، وآخر من البول .
      وقوله : ((ما
      يعذبان في كبير)) قال الخطابي: معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما أو يشق
      فعله لو أرادوا أن يفعلاه .


      3- العذاب في
      النار:
      عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله
      عليه وسلم : (( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم
      فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم))
      .
      قال الطيبي: لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلهما جزاء من
      يغتاب ويفري في أعراض المسلمين ، إشعاراً بأنهما ليستا من صفات الرجال، بل هما من
      صفات النساء في أقبح حلة وأشوه صورة .
      وعن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه
      وسلم : (( من أكل لحم أخيه في الدنيا قرِّب إليه يوم القيامة فيقال له: كُله ميتاً
      كما أكلته حياً فيأكله ويكلح ويصيح)) .



    • 6- كفارة الغيبة:
      الغيبة كغيرها من الكبائر فرض الله التوبة منها:
      قال
      تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}
      [النور:31].
      والتوبة النصوح هي التي تحقق شروط التوبة وهي:
      أ‌- الندم: قال صلى الله
      عليه وسلم : ((الندم توبة)) . قال أبو الجوزاء : والذي نفس محمد بيده إن كفارة
      الذنب للندامة.
      ب‌- أن يقلع عن الذنب قال ابن القيم : "لأن التوبة مستحيلة مع
      مباشرة الذنب" .
      ج- العزم على أن لا يعود إليها: فعن النعمان بن بشير قال : سمعت
      عمر يقول : { توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم: 8]. قال : هو الرجل يعمل الذنب
      ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود .
      وهذه الشروط مطلوبة في سائر المعاصي
      ومنها التوبة.
      شرط الاستحلال من
      الغيبة
      وأضاف جمهور الفقهاء شرطاً وهو أن
      يستحل من اغتابه.
      واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من كانت عنده
      مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن تؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ،
      فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت
      عليه)) .
      قال البغوي: قوله (( فليتحلله)) أي ليسأله أن يجعله في حل من قبله،
      يقال: تحلله واستحللته إذا سألته أن يجعلك في حل، ومعناه: أن يقطع دعواه ويترك
      مظلمته ، فإن ما حرمه الله من الغيبة لا يمكن تحليله .
      قال سفيان بن عيينة:
      الغيبة أشد عند الله عز وجل من الزنا وشرب الخمر ، لأن الزنا وشرب الخمر ذنب فيما
      بينك وبين الله عز وجل ، فإن تبت عنه تاب الله عليك ، والغيبة لا يغفر لك حتى يغفر
      لك صاحبك .
      ورأى بعض الفقهاء ومنهم ابن تيمية وابن القيم وابن الصلاح وابن مفلح
      إسقاط شرط الاستحلال إذا أدى إلى أذية صاحب الحق وزيادة الجفوة بينهما.
      قال ابن
      مفلح: "وهذا أحسن من إعلامه (أي الدعاء له) فإن في إعلامه زيادة إيذاء له ، فإن
      تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ بما لا يعلم، ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على
      الظالم . . . وفيه مفسدة ثالثة . . . وهي زوال ما بينهما من كمال الألفة والمحبة .
      . . ، وهذا الرأي مروي عن السلف.
      قال حذيفة : كفارة من اغتبته أن تستغفر له
      ..
      قال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعوا له .
      قال ابن
      المبارك: التوبة في الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته .
      وقال أيضاً: إذا اغتاب رجل
      رجلاً فلا يخبره ، ولكن يستغفر الله .


    • 7- ذب الغيبة:
      أوجب العلماء على المسلم عدم سماع الغيبة ، إذ سماعها كفعل
      قائله في الوزر ، قال تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله
      يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}
      [النساء:140]. قال الطبري: في هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل
      الباطل من كل نوع .
      قال القرطبي: فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون
      معهم في الوزر . . فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون
      من أهل هذه الآية .
      ودفع الغيبة حين حضورها من أعظم الأعمال، قال صلى الله عليه
      وسلم : (( من ذب عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)) . وفي
      رواية : (( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) .
      قال ابن
      مسعود: من اغتيب عنده مؤمن فنصره جزاه الله بها خيراً في الدنيا والآخرة ، وما
      التقم أحد لقمة شراً من اغتياب مؤمن .
      قال المناوي: ذلك لأن عرض المؤمن كدمه ،
      فمن هتك عرضه فكأنه سفك دمه ، ومن عمل على صون عرضه فكأنه صان دمه ، فيجازى على ذلك
      بصونه عن النار يوم القيامة إن كان ممن استحق دخولها ، وإلا كان زيادة رفعة في
      درجاته في الجنة .
      وقد ذب النبي صلى الله عليه وسلم عن عرض من اغتيب عنده، ففي
      حديث طويل من رواية عتبان بن مالك رضي الله عنه، وفيه قال قائل منهم: أين مالك بن
      الدُّخشن؟ فقال بعضهم: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله ، فقال له رسول الله صلى الله
      عليه وسلم : (( لا تقل له ذاك ، ألا تراه قد قال : لا إله إلا الله يريد بذلك وجه
      الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)) .
      قال عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق
      أعراض الناس لا تغيّروا عليه؟ قالوا: نتقي لسانه ، قال : ذاك أدنى أن تكونوا شهداء
      .

    • 8- حالات تجوز فيها الغيبة:


      ذكر العلماء بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة لما في ذلك من
      مصلحة راجحة.
      ومن هذه الحالات:
      1- التظلم
      إلى القاضي أو السلطان أو من يقدر على رد الظلم.
      قال تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}
      [النساء:148].
      قال الشوكاني: استثناء أفاد جواز ذكر المظلوم بما يبين للناس وقوع
      الظلم عليه من ذلك الظالم .
      وقال صلى الله عليه وسلم : ((ليّ الواجد يحل عرضه
      وعقوبته)) . واللي هو الظلم ، والواجد هو الغني القادر على السداد.
      قال سفيان:
      يحل عرضه: أن يقول: ظلمني حقي .
      قال وكيع: عرضه: شكايته ، وعقوبته : حسبه
      .
      2- الاستفتاء:
      فيجوز للمستفتي فيما لا طريق للخلاص منه أن يذكر أخاه بما هو
      له غيبة ، ومثل له النووي بأن يقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو فلان فهل له ذلك أم
      لا .
      جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن
      أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ،
      فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ((خذي ما يفكيك وولدك بالمعروف)) .
      قال
      البغوي: هذا حديث يشتمل على فوائد وأنواع من الفقه، منها جواز ذكر الرجل ببعض ما
      فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه ، لأن النبي لم ينكر قولها: إن أبا سفيان رجل
      شحيح .
      3- الاستعانة على تغيير
      المنكر:
      فقد يرى المسلم المنكر فلا يقدر على
      تغييره إلا بمعونة غيره ، فيجوز حينذاك أن يطلع الآخر ليتوصلا على إنكار
      المنكر.
      قال الشوكاني: "وجواز الغيبة في هذا المقام هو بأدلة الأمر بالمعروف
      والنهي عن المنكر الثابتة بالضرورة الدينية التي لا يقوم بجنبها دليل ، لا صحيح ولا
      عليل .

    • 4- التحذير من الشر ونصيحة
      المسلمين:
      جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى
      الله عليه وسلم تستشيره في أمر خطبتها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم وأسامة بن زيد
      فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ((أما معاوية فرجل ترب لا مال له ، وأما أبو
      الجهم فضراب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد)) .
      قال ابن تيمية: الشخص المعين يذكر
      ما فيه من الشر في مواضع. . أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم . .
      . .
      ويدخل في هذا الباب ما صنعه علماؤنا في جرح الرواة نصحاً للأمة وحفظاً لحديث
      النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم.
      قال النووي : اعلم أن جرح الرواة جائز ، بل هو
      واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة ، وليس هو من الغيبة
      المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين .
      5- المجاهر بنفسه المستعلن ببدعته:
      استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ائذنوا
      له، بئس أخو العشيرة ، أو ابن العشيرة)) .
      قال القرطبي : في الحديث جواز غيبة
      المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة .
      ومما
      يدل على اتصاف هذا الرجل بما أحل غيبته ما جاء في آخر الحديث، حيث قال النبي صلى
      الله عليه وسلم : ((أي عائشة، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه اتقاء
      فحشه)).
      قال الحسن البصري : ليس لصاحب البدعة ولا الفاسق المعلن بفسقه غيبة
      .
      وقال زيد بن أسلم : إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي .
      والذي يباح من غيبة
      الفاسق المجاهر ما جاهر به دون سواه من المعاصي التي يستتر بها.
      قال النووي:
      كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس . . . فيجوز ذكره بما يجاهر به ،
      ويحرم ذكره بغيره من العيوب .
      وينبغي أن يُصنع ذلك حسبة لله وتعريفاً للمؤمنين
      لا تشهيراً وإشاعة للفاحشة أو تلذذاً بذكر الآخرين.
      قال ابن تيمية: وهذا كله يجب
      أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى ، لا لهوى الشخص مع الإنسان مثل
      الإنسان مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض. . . فهذا من عمل
      الشيطان و إنما الأعمال بالنيات .

    • 9- البعد عن مواطن الريبة


      وينبغي على المسلم أن يبعد نفسه عن مواطن الريبة والتهمة التي
      تجعله موضعاً لغيبة الآخرين ، وأن يكشف ما قد يلتبس على الناس، وقد سبق إلى ذلك
      أكمل الخلق وأعدلهم.
      فقد أتته زوجه صفية في معتكفه في المسجد ، ولما انتصف الليل
      قام صلى الله عليه وسلم معها يقلبها إلى بيتها فلقيه اثنان من أصحابه ، فلما رأياه
      يمشي معها أسرعا.
      فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما ، إنما هي صفية
      بنت حيي ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله ، وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه
      وسلم : ((إن الشيطان يبلغ في الإنسان مبلغ الدم ، وخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً))
      .
      قال ابن حجر : فيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان
      والاعتذار.
      قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا
      يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص . . . .

    • أبيات شعرية
      متعلقة بالموضوع:

      قال كعب بن زهير في الذين يستمعون الغيبة:

      فالسامع الذم شريك له *** ومطعم المأكول كالآكل

      وقال آخر
      :
      وسمعك صُنْ عن سماع القبيح *** كصون اللسان عن القول به

      فإنك عند استماع القبيـح *** شـريك لقـائلـه فانتبـه

      ويقول كمال الدين بن أبي شرف في
      ذكره للحالات التي تجوز فيها الغيبة:

      القدح ليس بغيبة في ستة *** متظلّـم ومعـرِّف ومحـذِّر
      ومجاهر بالفسق ثمت سائل *** ومن استعان على إزالة منكر

      وقال ابن
      المبارك:
      وإذا هممت بالنطق في الباطل ** فاجـعـل مكـانـه تسـبيحـاً
      فاغتنام السكوت أفضل من *** خوض وإن كنت في الحديث فصيحاً
    • التــوكل

      فإن من أبرز مظاهر غربة هذا الدين ، و التي لا تخفى على كل ذي عين ، انتشار الجهل
      بشكل مذهل مخيف في أوساط الأمة ، ليشمل قطاعاً عريضاً من أبنائها ، فقل من يسلم منه
      حتى و إن حمل أعلى الشهادات ، و تبوأ أكبر المناصب ، والجهل الذي أعنيه هو الجهل
      بأصول الدين و أسس العقيدة فضلاً عن فروع الشريعة و أحكامها، و لقد نتج من ذلكم
      الجهل المطبق المخيف ، خلل في عقائد كثير من الناس و تصوراتهم ، ووقعوا في خلط عجيب
      ، و تخبط مريب ، وتكاسلوا عن فهم التوحيد رغم أهميته و جلائه ووضوحه ، و إن شئت أن
      تتأكد مما أقول ، فسل أحدهم عن المعنى الحقيقي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله ؟ أو
      عن شروطها ونواقضها ؟ أو سله عن حقيقة التوكل على الله أو عن معنى الخوف والرجاء
      أوغيرها من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى ؟ ستجد أن الكثيرين
      متخبطون في إجاباتهم ، حيارى في ردودهم ، رغم أن هذه الأمور المهمة لا يسوغ جهلها
      من عامة الناس ، فضلاً عن مثقفيهم و خاصتهم ، فالخطأ في فهم هذه القضايا قد يفضي
      إلى الشرك الأكبر ، والذنب الذي لا يغفر ، و من هنا كان لزاماً تجلية هذه الأمور و
      توضيحها، نصحاً للأمة و معذرة إلى الله ، و اقتداءً بالأنبياء و المرسلين البادئين
      أقوامهم بقضايا التوحيد و أصول العقيدة .
    • من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط والاضطراب : قضية التوكل .

      فقد كثر المتوكلون على الملوك والآمراء و الوجهاء و الوزراء في قضاء حوائجهم، وكثر
      المتوكلون على الأطباء في شفاء مرضاهم ، كما كثر المتوكلون على الموتى والأولياء في
      تلبية مطالبهم ورغباتهم ، كما يحصل من عباد القبور في طول العالم الإسلامي وعرضه ،
      فما حقيقة التوكل؟ وما معناه ؟ وما أهميته و ما ثمرته ؟
    • حقيقة التوكل هي :
      الاعتماد المطلق على الله تعالى في جميع الأمور من جلب المنافع و دفع المضار .


      والتوكل عبادة عظيمة ؛ لا يجوز صرفها لغير الله الواحد القهار، فالمؤمن
      الصادق الموقن يتوكل على الله وحده في كل ما يأتي ويذر، فيتوكل عليه سبحانه في طلب
      الرزق و النصرة ،و في طلب الشفاء والعافية، و في دفع السوء والضر، ويعتقد جازماً
      أنه لا رازق إلا الله ، ولا معطي ولا مانع سوى الله ، أنه سبحانه الخالق المتصرف
      المدبر مالك الملك رب العالمين، وقد أمر الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه بإخلاص التوكل
      عليه سبحانه ، وصدق اللجأ إليه في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله
      سبحانه : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) (الأحزاب: من
      الآية48) .
      وقوله : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ )) (الفرقان: من
      الآية58) .
      وقوله : (( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ
      الْمُبِينِ)) (النمل:79) .
      بل إن الله تعالى جعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان فقال
      سبحانه : (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (المائدة:
      من الآية23).
      وقال الحكيم موسى عليه السلام : (( فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ
      كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)) (يونس: من الآية84) .
    • نماذج من توكل الأنبياء

      لقد عرض القرآن الكريم نماذج عظيمة مذهلة لتوكل الأنبياء المعظمين ،
      و الرسل المكرمين ، عليهم أفضل الصلاة و أزكى التسليم ، و هم يواجهون أقوامهم
      السائرين في غيهم، التائهين في ضلالهم و فجورهم ، فهذا هود عليه الصلاة والسلام نذر
      نفسه للرسالة التي حمل إياها ، و الأمانة التي كلف بها ، فانبرى لقومه داعياً
      ناصحاً ، ومحذراً لهم و مشفقاً ،فما وجد منهم غير الكفر والفجور والسخرية ، والسب
      الغليظ ، بل إنهم ليزعمون أن آلهتهم و أوثانهم قد أصابته بشيء من عقابها ، و أذاقته
      لعنة من لعناتها : (( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ
      بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ
      نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ )) (هود:53 ، 54) .


      وهنا يصرخ بهم هود صرخته المدوية ، صرخة المؤمن الواثق بربه ، المتوكل عليه
      سبحانه ، الساخر من حمقهم وغفلتهم، المتحدي لهم ولأوثانهم أجمعين : (( قَالَ إِنِّي
      أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . مِنْ دُونِهِ
      فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
      رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ
      رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (هود:56،55) .
    • وأما إبراهيم عليه الصلاة و السلام فقد وقف أمام عناد أبيه و قومه ، وقفة المؤمن
      الواثق المطمئن ، فأخذ يحاج قومه باللين والرفق و الحجة و البرهان ، فما وجد إلا
      رؤوساً غادرتها عقولها، وقلوباً تمكن منها الشرك أيما تمكن ، وتعلق أولئك الوثنيون
      بأصنامهم وأمجادهم التي تهاوت واحداً واحدا ؛ تحت مطارق إبراهيم ، لا شلت يمينه،
      عندها أجمع المشركون أمرهم ، و مكروا مكرهم ، وأوقدوا ناراً عظيمة ، جمعوا حطبها
      شهراً ، وأشعلوا فتيلها دهراً ، وحملوا الخليل على المنجنيق مقيداً، ليقذفوه من
      بعيد ، واجتمع الملأ ينظرون، والناس يشتمون، فلما أيقن إبراهيم من إلقاءه في النار،
      ما أصابه الجزع، ولا اعتراه خوف، وإنما قال كلمته العظيمة : حسبي الله و نعم الوكيل
      .

      كلمة لا يقولها إلا المؤمنون، ولا يلهج بها إلا المتوكلون الصادقون ، فلما
      توكل على الله كفاه و لما صدق مع الله أنقذه ونجاه (( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي
      بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ
      الْأَخْسَرِينَ)) (الانبياء:69 ، 70) .
    • وأما إمام المتوكلين وقائد الغر المحجلين محمد عليه الصلاة و السلام فسيرته ملأى
      بأعاجيب من توكله، وعظيم يقينه بالله تعالى ، فقد خرج مهاجراً مع أبي بكر رضي الله
      عنه ، فدخلا الغار مختبئين وحام المشركون حول باب الغار، ووقفوا على بابه تكاد
      قلوبهم تميز من الغيظ على محمد وصاحبه ، فخشي الصديق رضي الله عنه على رسول الله r
      أن يُمس بأذى فقال : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فقال r : بكل
      هدوء و اطمئنان، وبلغة المتوكل على ربه، المعتمد على مولاه : (( لا تحزن إن الله
      معنا )) [1] .

      وفي حمراء الأسد ، جمع المشركون جموعهم ،
      و حشدوا حشودهم لقتال النبي r وأصحابه ، فخرج r و أصحابه بكل شجاعة و اقتدار ، و
      بكل عزيمة و إصدار ، لمواجهة الجموع المتربصة ، و الجنود المكتظة المزدحمة ،
      متوكلين على الله وحده ، طالبين المدد منه سبحانه : ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
      النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
      وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ
      اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
      وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) (آل عمران:173، 174) .

      قال ابن عباس رضي
      الله عنه : حسبنا الله و نعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار،
      وقالها محمد عليه السلام حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم .
    • الجمع بين التوكل وفعل الأسباب

      التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب ، بل إن
      الأخذ بها من صدق التوكل ، وصحة الدين ، وسلامة المعتقد ، وقوة اليقين ، لكن البلاء
      كل البلاء ، والشر كل الشر، هو الاعتماد على الأسباب وحدها ، ونسيان المسبب وهو
      الله سبحانه ، فالاعتماد على الأسباب وحدها خلل في الدين ، وترك الأخذ بالأسباب خلل
      في العقل ، وأنا أضرب لذلك مثالاً :

      فالذي يريد الأولاد والذرية لا بد له
      من فعل الأسباب من الزواج والنكاح ، ثم التوكل على الله بعد ذلك في حصول الولد ،
      ولا يعتمد على السبب في حصول مقصوده، فإن ذلك نقص في دينه ، وخلل في عقيدته و
      إيمانه ، وأما الذي يريد الأولاد والذرية ، ثم يجلس في بيته متكئاً ، من غير زواج و
      لا نكاح ، فلا نتردد في جنونه وحمقه وغفلته وسذاجته، وكذلك المزارع في مزرعته ، لا
      بد أن يصلح تربتها ، ويبذر البذر الجيد في وقته ، ثم يتعهد مزرعته بالسقي والرعاية
      ، و بعد ذلك يتوكل على الله تعالى في نماء الأشجار ، وحصد الحبوب والثمار ، أما إن
      تركها صحراء قاحلة ، وجرداء متصدعة ، لم يهتم بحرثها ولا زرعها ، وجلس في بيته و
      قال : إني متوكل على الله ، فهو أجهل من حمار أهله ، سفيه أرعن ، أحمق مغفل.
      والتوكل على الله لا ينافي بذل الأسباب ، في طلب المعيشة ، وتحصيل الرزق ، فالكسل
      والخمول لا مكان له في حياتنا ، فنحن أمة البذل والعطاء ، والجهد والعمل ، لم نعهد
      السماء تمطر ذهباً ولا فضة ، ويوم أن تكاسلنا وتواكلنا ، أصبحنا عالة على الأمم ،
      تصنع لنا غذائنا ، وتنسج لنا لباسنا ، وتسوقنا بها إلى الهاوية ، و قومنا لا يشعرون
      ، و إمام المتوكلين مع عظيم توكله ، و صدق يقينه بالله تعالى ، كان يأخذ بالأسباب
      ، و لا يعتمد عليها وحدها ، بل يعتمد على الله الواحد الأحد، فقد كان في حروبه
      الطويلة ، لا يخوض معركة حتى يعد لها عدتها ، و يهيئ لها أسبابها ، ثم يرفع يديه
      إلى السماء ((اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا
      عليهم )) .
      الدكتور رياض بن محمد المسيميري